بقلم: د. عدنان بوزان
في خضمّ الجغرافيا التي رسمتها البنادق لا الأقلام، وُلد جرحٌ اسمه "كوردستان". لم يكن الكورد شعباً بلا أرض، بل كانت الأرض بلا اعتراف. ومنذ أن امتدّت يدُ الاستعمار لتُجزِّئ الخرائط على طاولة سايكس – بيكو، بات الكوردي كائناً مشطوراً على حدود أربعة أوطان، لا يجد في أيٍّ منها وطناً. كُسرت الجغرافيا ليُكسَر الإنسان، ووُضع الشعب الكوردي في أقسى امتحانٍ عرفته شعوب الشرق الأوسط في القرن العشرين: أن تكون حاضراً دائماً، لكن بلا حضور؛ موجوداً في كل الميادين، لكن بلا علم، بلا لغةٍ معترف بها، بلا تمثيل، وبلا هوية في أوراق القانون.
لقد أُريد للكورد أن يكونوا مجرد هامشٍ على صفحة كتبها المنتصرون. فمنذ تقسيمات سايكس – بيكو المشؤومة، حين جرى اقتسام تركة الدولة العثمانية دون أدنى اعتبارٍ للشعوب التي تقطن الأرض، أُهملت المطالب الكوردية عمداً، وصار الحلم الكوردي بالاستقلال يُعدّ خطراً على مشاريع الدول التي ابتُلعت فيها كوردستان. ومنذ ذلك الحين، دخل هذا الشعب في مسيرةٍ طويلة من النضال الذي لم يعرف المساومة، نضالٍ لم يكن من أجل حدود فقط، بل من أجل الكرامة، من أجل اللغة التي أُريد لها أن تموت، من أجل الأم التي أنجبت شهيداً تلو الآخر، ومن أجل الطفولة التي كبرت باكراً وهي تحصي أسماء شهدائها بدلاً من أن تتعلم الحروف.
لم تكن مقاومة الكورد يوماً من أجل أنفسهم فحسب، بل كانت مقاومة الإنسان الذي يرفض أن يُسحق. في الجبال والوديان، في السجون والمنافي، في القصائد والبنادق، كان الكوردي يدوِّن على جدران العالم: "أنا هنا... وإن حاولتم طمسي". دفع هذا الشعب آلاف الأرواح، لا لأجل سلطة، ولا من أجل كرسي، بل من أجل الحياة نفسها؛ الحياة التي لا تُشترى، ولا تُمنح، بل تُنتزع من بين أنياب الموت.
ولم يكن المجتمع الدولي بأفضل حال. بل مارس، ولا يزال، تواطؤاً صامتاً، يغضّ الطرف عن المجازر، وعن حملات الإبادة، وعن التهجير القسري والتغيير الديمغرافي، وعن تجريم اللغة الكوردية وشيطنة الثقافة الكوردية، وعن اغتيال المثقفين، وقصف القرى، واتفاقياتٍ دولية لا تُذكَر فيها كوردستان إلا كمشكلة يجب حلّها، لا كشعبٍ له حق. بل في كثير من الأحيان، كان هذا المجتمع شريكاً في القمع، بصمته، أو بسكوته عن احتلال أراضٍ كوردية، أو بتعامله مع أنظمة استبدادية ترى في الكورد خطراً وجودياً لمجرد مطالبتهم بحقوقٍ بسيطة.
واليوم، وبعد أكثر من قرن على الجرح الأول، يقف الكورد على مفترقٍ مصيري. لم تعد القضية مسألة حكمٍ ذاتي أو حقوقٍ ثقافية فحسب، بل باتت مسألة وجودٍ في جوهرها. في سوريا، قُصفوا وذُبحوا ونُكّل بهم تحت ذرائع متناقضة، بينما كانوا يُنقذون العالم من فاشية داعش. وفي تركيا، تُلاحق الكلمة الكوردية كما تُلاحق الرصاصة، وتُزجّ النخب السياسية والمثقفين في السجون بتهمة "الانتماء إلى الكورد". وفي إيران، يُختزَل النضال الكوردي بالتمرّد، ويُعامَل الشعب كمشكلة أمنية. أما في العراق، فرغم الحكم الذاتي، لا تزال لعبة الحصار السياسي والاقتصادي، والانقسام الداخلي، والتدخلات الإقليمية، تمنع ولادة كيانٍ مستقر.
في كلّ ذلك، لا يزال الكورد يدفعون الثمن الأكبر. ثمن العناد من أجل الحرية. ثمن الصمود بدل الخضوع. ثمن أن تقول "لا" في عالمٍ يربّي الشعوب على الركوع.
لكن هذا الصمود لم يعُد ترفاً، بل أصبح خياراً مصيرياً. نحن اليوم أمام معادلةٍ صارخة: إمّا أن نحيا بكرامة، أو نموت جميعاً. ليس من العدل أن يستمرّ هذا الظلم، وليس من الأخلاق أن يصمت العالم بعد كل هذه التضحيات. لا يمكن لمجزرة أن تكون وجهة نظر، ولا لمطالب عادلة أن تُقابَل بالرصاص، ولا لشعبٍ بأكمله أن يُختزل في تقارير أمنية أو حسابات استخباراتية.
لقد آن الأوان لنقول: كفى.
كفى للإبادة.
كفى للعنصرية.
كفى للقمع.
كفى لإسكات صوت الحرية.
الكورد ليسوا عبئاً على المنطقة، بل هم ضميرها الحيّ. هم الجذر العميق لهذا الشرق، وهم الحالمون الذين لم يبيعوا حلمهم، رغم كلّ الأثمان.
وإن كان العالم حقاً يسعى إلى العدالة، فعليه أن يعترف أولاً بمظلومية الكورد، لا في خطابات موسمية، بل في قرارات سياسية ملموسة، في دعم الحقوق القومية، في كسر الصمت، وفي فتح أبواب المحافل الدولية أمام مناضلي هذا الشعب. لقد علّمنا التاريخ أن لا كرامة للأمم دون اعترافٍ متبادل، ولا استقرار بلا عدالة.
ولأننا نؤمن بالحياة، لن نستسلم. ولأننا نؤمن بالكرامة، لن نفرّط بها. ولأننا نؤمن أن كلّ قطرة دمٍ كوردية سُفكت من أجل الحرية، ليست مجرد ذكرى، بل أمانة.
لسنا طلاب انتقام، بل طلاب وطن. وذلك الوطن، مهما طال الزمان، سيولد من جديد... لأن في داخل كل كوردي ناراً لا تنطفئ، وحنيناً إلى سماءٍ لم تُخترق بعد.