بقلم: د. عدنان بوزان
في خضم التحولات العميقة التي عصفت بأوروبا في القرن التاسع عشر، بزغ فجر نظام اقتصادي جديد يقوم على الصناعة الواسعة النطاق، وتبلور شكل حديث للرأسمالية يعتمد على تقسيم العمل، وتراكم رأس المال، واستغلال قوة العمل البشرية بشكل منظم وممنهج. لم تكن هذه التغيرات مجرد تحولات اقتصادية معزولة، بل كانت إيذاناً بتغير بنية الوجود الإنساني نفسه، حيث انقلبت علاقات البشر فيما بينهم، وتبدلت مفاهيم مثل "العمل" و"القيمة" و"الملكية"، وصعدت طبقات اجتماعية جديدة على أنقاض الأرستقراطية الإقطاعية، بينما بدأت البرجوازية في فرض هيمنتها الفكرية والسياسية على الحياة العامة.
في هذا السياق العاصف، لا يمكن النظر إلى الفلسفة بوصفها نشاطاً نخبوياً معزولاً عن واقع الناس، بل كانت مطالبة بالردّ على أسئلة حارقة: ما هو العدل في زمن رأس المال؟ أين موقع العامل في منظومة السوق؟ هل يمكن إصلاح النظام، أم أن المطلوب قلبه من جذوره؟ وبين الفلاسفة الذين تصدوا لهذه الأسئلة، يبرز اسم كارل ماركس لا بوصفه فيلسوفاً فحسب، بل بوصفه ممثلاً لفلسفة جديدة، تتجاوز التأمل المجرد، وتضع الممارسة الاجتماعية والتاريخية في صلب التحليل.
جاء كتاب "بؤس الفلسفة" (1847) ليكون أول إعلان صريح من ماركس عن خصائص هذه الفلسفة الجديدة. لم يكن الكتاب مجرد ردّ نقدي على بيير جوزيف برودون وكتابه "فلسفة البؤس"، بل كان ممارسة فلسفية جديدة تقوم على تفكيك المفاهيم المجردة التي يُنتجها العقل البرجوازي، وكشف جذورها الطبقية ووظيفتها الإيديولوجية. لقد أراد ماركس أن يبرهن، من خلال نقده العميق لبرودون، على أن الفلسفة التي لا تنطلق من الواقع المادي للعلاقات الاجتماعية، وتُحوّل الأفكار إلى كائنات ذاتية مستقلة عن شروطها التاريخية، ليست سوى "بؤس مضاعف" يُضاف إلى بؤس العالم الواقعي.
في "بؤس الفلسفة"، تتضح الملامح الأولى لما سيصبح لاحقاً المنهج المادي الجدلي والتحليل التاريخي للعلاقات الاقتصادية. فنقد ماركس لم يكن موجهاً فقط إلى مضمون أفكار برودون، بل إلى الطريقة التي تُنتج بها تلك الأفكار، إلى المنهج الذي يستخلص مفاهيم "العدالة" و"المساواة" و"الملكية" من مقدمات منطقية أو أخلاقية، دون النظر في الواقع الطبقي والاقتصادي الذي يُنتج هذه المفاهيم. هنا، يكشف ماركس عن قلب جذري للجدل الهيغلي: فالواقع، لا الفكرة، هو نقطة البداية، والفكر ليس سوى انعكاس مشوّه أو معبّر عن هذا الواقع ضمن شروط محددة.
إن أهمية هذا الكتاب لا تكمن فقط في كونه نصاً جدلياً شديد اللهجة، بل في كونه ينتمي إلى المرحلة التي بدأت فيها نظرية ماركس تتشكل كـبنية منهجية متكاملة، تنتقد الاشتراكية الطوباوية والمثالية الفلسفية في آنٍ معاً، وتضع أسس ما سيعرف لاحقاً بـ"الاشتراكية العلمية". فماركس لا يسعى إلى إصلاح المجتمع من خلال نداءات أخلاقية، بل إلى فهم بنيته العميقة عبر تحليل شروط الإنتاج والتوزيع، والعلاقات الطبقية التي تحكمها. وهذا الفهم هو الذي يمهد الطريق لتحول جذري لا يقوم على أوهام العدالة الكونية، بل على صراع الطبقات والممارسة الثورية.
ولعل في اختيار ماركس لعنوان كتابه ما يكشف عن طبيعته الإشكالية: "بؤس الفلسفة" ليس عنواناً هازئاً فحسب، بل عنوان يؤسس لمفارقة فلسفية حادة: حين تعجز الفلسفة عن أن تفهم البؤس المادي، فإنها تصبح في ذاتها نوعاً من البؤس. وحين تفصل الفلسفة نفسها عن الواقع وتلوذ بالمجرد، فإنها لا ترتقي، بل تنحط إلى خطاب إيديولوجي يُعيد إنتاج الهيمنة.
من هنا، يأتي هذا البحث ليعيد قراءة بؤس الفلسفة بوصفه وثيقة فلسفية ثورية، تُعلن ولادة تصور جديد للعالم، تصور يتجاوز الثنائية الكلاسيكية بين الفكر والواقع، بين النظرية والممارسة، بين الإنسان والتاريخ. وسيتناول هذا البحث، في أقسامه اللاحقة، السياق الفكري لظهور الكتاب، نقد ماركس للمنهج المثالي، تأسيسه للجدلية المادية، تحليل العلاقات الاقتصادية بوصفها بُنى فلسفية، وارتباط كل ذلك بمشروع التحرر السياسي والاجتماعي للإنسان.
في النهاية، فإن "بؤس الفلسفة" لا يكتفي بأن يكون رداً على فكر معين، بل ينهض كصرخة فلسفية ضد كل محاولة لفصل الفكر عن التاريخ، وكل محاولة لتحويل العالم إلى مجرد مفاهيم معلقة في الفراغ.
أولاً: السياق التاريخي والفكري لكتابة "بؤس الفلسفة"
حين نشر كارل ماركس كتابه بؤس الفلسفة عام 1847، لم يكن ذلك مجرد فعل ردّ على خصم فكري، بل كان إعلاناً عن انبثاق فلسفة جديدة، فلسفة تتجاوز الفهم السكوني للتاريخ، وتدشّن لقراءة جدلية مادية تُفكك المقولات الأخلاقية المجردة، وتربطها بالبنية الطبقية للعلاقات الاجتماعية. لقد وُلد هذا الكتاب في زمنٍ مضطرب، لم يكن فيه الصراع بين الطبقات مجرد قضية نظرية، بل كان محسوساً في شوارع باريس، وفي معاناة العمال، وفي خيبات الثورة الصناعية، وفي تلك الفجوة المتفاقمة بين رأس المال والعمل.
- القرن التاسع عشر: المسافة بين اليوتوبيا والتاريخ
عرف النصف الأول من القرن التاسع عشر بروز ما يُسمى بـ"الاشتراكية الطوباوية"، وهي اشتراكية تتسم بالرغبة الإصلاحية، وتستند إلى تصورات مثالية عن العدالة والمساواة والتعاون بين البشر، دون أن تُخضع هذه القيم لاختبار الشروط المادية والتاريخية. من هنا جاء كتاب فلسفة البؤس (1846) لـبيير-جوزيف برودون، كمحاولة فلسفية لصياغة نظرية عن العدالة الاجتماعية، تقوم على التوفيق بين العمل والرأسمال، وعلى اعتبار أن "الملكية سرقة" لكن بدون الدعوة إلى إلغائها جذرياً، بل إصلاحها وتنظيمها.
برودون، وهو ابن بيئته، مثّل في نظر ماركس تجلياً واضحاً لما أسماه لاحقاً بـ"الاشتراكية البرجوازية الصغيرة" – وهي اشتراكية لا تصطدم بالبنية العميقة للرأسمالية، بل تحاول تلطيف آثارها أو تزيينها. لقد تبنّى برودون خطاباً فلسفياً يُشيد بالتوازن والتناغم بين الطبقات، ويستند إلى مفاهيم مجردة مثل "العدالة" و"القانون الطبيعي" و"الانسجام الاجتماعي"، دون مساءلة هذه المفاهيم ضمن شروطها التاريخية والاقتصادية.
- ماركس: من الفلسفة إلى التاريخ
كان ماركس آنذاك قد بدأ في تجاوز الهيغلية، متأثراً بفيورباخ في نقد الدين، لكنه سرعان ما تجاوز فيورباخ نفسه، ليؤسس منهجاً جديداً يربط الفكر بالممارسة، ويرى في البنية التحتية الاقتصادية محدداً رئيسياً لتطور الأفكار والمؤسسات. ولم يكن كتاب بؤس الفلسفة إلا لحظة تأسيسية في هذا الانتقال: من نقد الفلسفة إلى بناء فلسفة النقد، من الاشتراكية الأخلاقية إلى الاشتراكية العلمية.
ماركس لا يرفض العدالة كمبدأ، لكنه يرفض اعتبارها مفهوماً سابقاً على التاريخ. فـ"العدالة" ليست قانوناً أبدياً، بل هي تعبير عن علاقات الإنتاج القائمة، وعن المصالح الطبقية السائدة. من هنا، فإن أي تصور "عادل" للعلاقة بين العمل ورأس المال، يظل مجرد قناع أيديولوجي يخفي التناقض البنيوي بين البرجوازية والبروليتاريا. ولذلك فإن محاولة برودون التوفيقية – أي التوفيق بين العامل والرأسمالي – لا تمثل في نظر ماركس حلا واقعياً، بل إعادة إنتاج للوهم.
- بؤس الفلسفة: عندما تتحول الفلسفة إلى قناع للبؤس
العنوان الذي اختاره ماركس لكتابه – بؤس الفلسفة – ليس مجرد سخرية لغوية، بل هو موقف إبستيمولوجي وأخلاقي في آن. إنه يعلن أن الفلسفة، حين تنفصل عن الواقع، تصبح شكلاً من أشكال البؤس ذاته. فالفكر المجرد، حين لا يتجذر في الأرض المادية للعلاقات الاجتماعية، لا يملك أن يفسر شيئاً، بل يغدو جزءاً من جهاز الهيمنة الرمزي. لذلك لا يكتفي ماركس بتفكيك آراء برودون، بل يكشف عن آلية إنتاجها، ويبين كيف أن الفلاسفة الذين يتعاملون مع مفاهيم مثل "القيمة" و"الملكية" بوصفها مقولات منطقية، يطمسون الطابع التاريخي لهذه المقولات، ويتواطؤون – ولو دون وعي – مع البنية الطبقية للرأسمالية.
في نقده لبرودون، لا يهاجم ماركس رجلاً بعينه، بل يفتح جبهة نقدية ضد طريقة تفكير بأكملها، هي طريقة التفكير المثالي، التي تفترض أن الأفكار تتحرك بمعزل عن العالم. ولذلك فإن "بؤس الفلسفة" هو أيضاً نقد لنوع معين من الفلسفة، فلسفة تكتفي بتفسير العالم في حين أن المطلوب هو تغييره.
- الاشتراكية العلمية في مهدها
إن أهمية هذا الكتاب لا تكمن فقط في نقده لبرودون، بل في ما يحمله من معالم أولية لما سيصبح لاحقاً "الاشتراكية العلمية". في هذا السياق، يمكن القول إن "بؤس الفلسفة" هو النص الذي تتجلى فيه لأول مرة عناصر التحليل الماركسي للاقتصاد السياسي: من نقد نظرية القيمة، إلى تحليل العلاقات الاجتماعية بوصفها علاقات إنتاج، إلى إدراك الصراع الطبقي كمحرك للتاريخ. هنا، لا تعود الفلسفة وصفاً للحياة، بل أداة لتغييرها.
- الرهان النظري والسياسي
لم يكن "بؤس الفلسفة" مجرد نقاش بين مفكرين، بل كان يحمل رهاناً نظرياً وسياسياً عميقاً: هل يمكن تحقيق العدالة من داخل النظام الرأسمالي؟ هل تكفي النوايا الطيبة والمفاهيم الأخلاقية؟ أم أن الحل يتطلب ثورة تقلب علاقات الإنتاج وتُنتج بنية جديدة للمجتمع؟ هنا ينفصل ماركس نهائياً عن كل محاولة لإصلاح النظام من داخله، ويؤسس لرؤية ثورية تعتبر الصراع بين الطبقات هو المحور الجوهري لفهم التاريخ.
بهذا، يمكن اعتبار بؤس الفلسفة نصاً تأسيسياً في مشروع ماركس الفكري، وهو لا يشرح فقط لماذا فشلت الاشتراكية الطوباوية، بل يحدد أيضاً الطريق النظري الجديد الذي ستسلكه الماركسية: طريق يبدأ من الواقع، ويعود إليه، متجاوزاً وهم الحياد الفلسفي، نحو فلسفة تنخرط في التاريخ لا من موقع المشاهدة، بل من موقع الصراع.
ثانياً: نقد ماركس للمنهج الفلسفي المثالي
في قلب بؤس الفلسفة ينبض مشروع ماركس الفلسفي بنقده الحاد والجذري لما يُعرف بـ"الفلسفة المثالية"، تلك التي ورثها الفكر الأوروبي عن كانط وهيغل، والتي ظلّت – في نظر ماركس – أسيرة عالم من الأفكار المجردة، تنظر إلى التاريخ والاقتصاد والمجتمع وكأنها انعكاسات لمفاهيم سابقة على الواقع، مفاهيم مثل "العدالة"، "الحرية"، "الحق"، و"المساواة". إن ماركس، حين يهاجم هذا التصور، لا يرفض هذه المفاهيم من حيث هي، بل ينتقد موقعها في بنية التحليل: هل هي أصل الواقع أم نتاجه؟ هل تنبع من العقل الفردي أم من الشروط المادية لعصرها؟
- برودون والفكر التجريدي: العدالة كـ"ما يجب أن يكون"
بالنسبة لبرودون، فإن العدالة هي قانون طبيعي خالد، يكشفه العقل ويتعين عبر التاريخ في صور متعددة، لكنها تظل دائماً مرجعية عليا للحكم على المؤسسات والعلاقات. هو يتعامل مع مفاهيم مثل العدالة والملكية بوصفها مفاهيم معيارية تسبق الواقع وتعلو عليه. وهذا ما يُغضب ماركس؛ لأن مثل هذا المنهج يغفل أن كل مفهوم هو ابن زمنه، أي أن "العدالة" في مجتمع إقطاعي ليست هي نفسها "العدالة" في نظام رأسمالي. فكيف يُمكن إذاً تأسيس نظرية اقتصادية واجتماعية على مفهوم متعالٍ، لا يتغير ولا يخضع لتاريخ؟
ماركس يكتب بلهجة صارمة: إن برودون "يُدافع عن الرأسمالية بلغة من يعارضها"، لأن ما يفعله هو تقديم نظام رأسمالي منقّح، ملوّن بمبادئ أخلاقية. وهذا التناقض الجوهري ينبع من تمسكه بالمنهج الفلسفي المثالي، الذي ينظر إلى العالم من خلال عدسات "ما يجب أن يكون" بدلاً من "ما هو كائن فعلاً".
- من الفلسفة إلى الاقتصاد السياسي: البديل الماركسي
ماركس يقلب المنهج رأساً على عقب. لا يبدأ من الأفكار، بل من الوقائع. لا يسأل: "ما العدالة؟"، بل يسأل: ما هي الشروط المادية التي أنتجت هذا المفهوم في هذا العصر؟ ولذا فإن العدالة عنده ليست مفهوماً كونياً سابقاً على التجربة، بل تعبيراً عن وضع طبقي محدد. ما يُسمى "عدالة" في النظام الرأسمالي ليس سوى انعكاس قانوني لعلاقات الإنتاج القائمة، حيث يُصوّر الاستغلال على أنه "تبادل عادل" بين أجر ورأسمال.
بهذا، ينتقل ماركس من التفكير الأخلاقي المعياري إلى تحليل مادي جدلي: المفاهيم لا تُفهم خارج الشروط التاريخية التي وُلدت فيها، والعلاقات الاقتصادية لا تُحاكم بناءً على معيار فلسفي، بل تُفهم ضمن منطقها البنيوي، أي ضمن الصراع بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج.
- الحقيقة ليست قبلية، بل تاريخية
من المنظور الماركسي، ليست "الحقيقة" شيئاً يُستنتج من المبادئ العقلية، كما في الفلسفة المثالية، بل هي ما يُنتج عبر الممارسة الاجتماعية، عبر التفاعل بين الإنسان والطبيعة، بين الطبقات والتاريخ. ولذلك فإن المعرفة نفسها تصبح ممارسة تاريخية. هنا تتحول الفلسفة – كما يريدها ماركس – من تأمل في الماهيات إلى تحليل للظواهر الملموسة.
إن الجملة التي كتبها ماركس:
"ليست الفلسفة هي التي تحكم التاريخ، بل العلاقات الاقتصادية"
هي بمثابة مانيفستو فلسفي، يعلن فيه نهاية عصر الفلسفة كمُفسِّرٍ للتاريخ، وبداية عصر التاريخ كمُفسِّرٍ للفلسفة.
- من الوعي إلى البنية: قلب العلاقة بين الفكرة والواقع
المنهج الفلسفي المثالي، كما ينتقده ماركس، يقوم على فرضية أن الفكر يسبق الوجود، وأن الوعي هو من يُنتج البنية. أما ماركس، فيقلب هذه المعادلة الهيغلية: ليس الوعي هو من يُحدد الوجود، بل الوجود الاجتماعي هو من يُحدد الوعي. بمعنى أن أفكار الناس ومعتقداتهم ومفاهيمهم الأخلاقية والسياسية، ليست نتاجاً حراً للعقل، بل تنبع من موقعهم في بنية الإنتاج.
وبهذا المعنى، فإن العدالة عند العامل ليست العدالة عند الرأسمالي، بل لكلٍ عدالته التي تنبع من مصالحه الموضوعية. ولذلك فإن النقاش الفلسفي حول مفاهيم "الحق" و"العدالة" و"الملكية" يفقد قيمته إذا لم يُربط بتحليل مادي للتاريخ.
- ماركس ضد الميتافيزيقا: لا مكان للمطلق في علم التاريخ
في نقده للفلسفة المثالية، يُهاجم ماركس جوهر الميتافيزيقا: الاعتقاد بوجود حقائق ثابتة، أزلية، خالدة. أما التاريخ، في رؤيته، فهو سيرورة تحول لا نهائية، لا يمكن حصرها في مفاهيم نهائية. لذلك، فإن بناء نظام أخلاقي أو فلسفي على أسس مطلقة، هو تجاهل لطبيعة التاريخ الحركية.
"بؤس الفلسفة" لا يكتفي بنقد المثالية، بل يعلن انتهاء صلاحيتها كمنهج لتفسير العالم. لم يعد كافياً الحديث عن "حقوق الإنسان" و"الحرية" و"العدالة" كأنها مقولات خالدة، بل يجب إعادة تأطيرها في سياق صراع طبقي يُعيد تعريف كل هذه المقولات باستمرار.
- نحو فلسفة عملية: من الفكرة إلى الثورة
ماركس، إذ يفكك المنهج الفلسفي المثالي، لا يفعل ذلك من أجل بناء فلسفة بديلة مجردة، بل من أجل تحرير الفلسفة نفسها من التعالي، ودفعها نحو الممارسة الثورية. لا تعود الفلسفة تفسيراً للعالم، بل تصبح نقداً للعالم من أجل تغييره. الفلسفة الحقيقية – بحسب ماركس – لا تتوقف عند حدود التفكير، بل تنغرس في صلب الواقع، وتتحول إلى أداة نضالية.
خاتمة هذا المحور:
إن نقد ماركس للفلسفة المثالية، كما يتجلى في بؤس الفلسفة، ليس مجرد نقاش منهجي، بل هو إعلان قطيعة إبستيمولوجية مع الفكر الفلسفي السائد، وتحول نوعي في طريقة فهم العالم. لقد جرّد ماركس المفاهيم الفلسفية من قداستها، وربطها بالبنية الطبقية للمجتمع، مؤكداً أن كل فكر هو فكر مشروط، وكل فلسفة – ما لم تُجذر نفسها في الواقع المادي – ليست سوى شكل آخر من أشكال الإيديولوجيا.
ثالثاً: الجدلية الهيغلية والتحول الماركسي – من الروح إلى المادة
عندما يصرّح ماركس بأنه "قلب الجدل الهيغلي على قدميه"، فهو لا يستخدم تعبيراً مجازياً بل يعلن عن انقلاب إبستيمولوجي حاسم في بنية الفكر الحديث. فقد كان الجدل الهيغلي هو الأداة المفهومية الأعظم في الفلسفة الألمانية: سيرورة عقلانية تحكم تطوّر الفكر والواقع، عبر تصادم الأضداد وتجاوزها إلى مركّب أعلى، يحفظها ويتجاوزها في آن. لكن هيغل أسّس هذه الجدلية على مثالية مطلقة، ترى أن "الفكرة"، أو "الروح"، أو "العقل المطلق"، هي التي تنتج الواقع. ماركس تبنّى شكل الجدل الهيغلي، لكنّه رفض مضمونه، معلناً بداية المنهج المادي الجدلي، الذي سيصبح العمود الفقري للفكر الماركسي.
- من فكرة تحكم الواقع إلى واقع ينتج الفكرة
التحول الجذري الذي أحدثه ماركس تمثّل في قلب العلاقة بين الفكرة والواقع. عند هيغل، تبدأ حركة التاريخ من الفكرة المطلقة، تتغرّب هذه الفكرة في الواقع، ثم تستعيد ذاتها وتعود إلى الوعي. التاريخ عنده هو رحلة الروح في اغترابها وتحققها. أما عند ماركس، فإن نقطة الانطلاق ليست الفكرة، بل الواقع المادي المحسوس، وتحديداً علاقات الإنتاج، أي الكيفية التي ينتج بها البشر حياتهم المادية. الأفكار، في هذا السياق، ليست سوى انعكاس لهذه العلاقات، تمثيل رمزي لصراعات حقيقية تجري في البنية الاقتصادية والاجتماعية.
ولهذا كتب ماركس:
"العدالة ليست مفهوماً أبدياً، بل هي انعكاس لشروط الإنتاج."
بهذه العبارة، لا يُفرغ ماركس "العدالة" من معناها، بل ينزع عنها القداسة المجردة، ليضعها حيث تنتمي: في قلب الصراع الطبقي.
- الجدل كأداة لفهم التناقض: الهيغلي والماركسي
الجدلية عند هيغل كانت حركة من الأطروحة إلى النقيض ثم إلى التركيب، سيرورة منطقية عقلية يُفترض أنها تحكم تطوّر الفكر والعالم، لأن العالم – في النهاية – هو عقل يتكشف. أما ماركس، فتبنّى الشكل الجدلي، لكنه نقله من سماء الأفكار إلى أرض الواقع. التناقض لم يعد تناقضاً بين مفاهيم، بل بين قوى إنتاج وعلاقات إنتاج، بين طبقات متصارعة، بين مصالح مادية متعارضة.
ولذا فإن الجدل عند ماركس لا ينتج "نظاماً فلسفياً"، بل يكشف الحركة الحية داخل المجتمع، الحركة التي تنبع من التناقض بين العامل الذي ينتج القيمة، والرأسمالي الذي يستحوذ عليها. الصراع الطبقي هو المحرك الفعلي للتاريخ، لا الروح المطلقة.
- برودون ومفهوم العدالة: المثال مقابل الواقع
حين يبدأ برودون تحليله من مفهوم العدالة، فهو يظل داخل إطار الفكر المثالي: يُرجع الظلم والاستغلال إلى غياب "العدالة"، ويقترح إعادة تنظيم المجتمع بما يتوافق مع هذا المفهوم. لكن ماركس يردّ عليه بمنهج جدلي مادي، يرى أن "العدالة" نفسها ليست معياراً خارج التاريخ، بل هي تعبير عن علاقات اجتماعية معينة. في النظام الإقطاعي، كانت العدالة تعني شيئاً؛ وفي الرأسمالية تعني شيئاً آخر.
هذا يعني أن برودون ينطلق من المثال ليُعيد تشكيل الواقع في صورته، بينما ماركس ينطلق من الواقع ليُفكك المثال نفسه بوصفه انعكاساً مشوّهاً لحقيقة مادية.
- تفكيك الأخلاق البرجوازية: من الأبدية إلى النسبية الطبقية
من هنا جاء تفكيك ماركس للأخلاق البرجوازية، لا بوصفها مجرد أكاذيب دعائية، بل بوصفها إنتاجاً تاريخياً طبقياً. القيم البرجوازية مثل "الحرية"، "الملكية"، و"العدالة" ليست قيماً مطلقة، بل تمثل مصالح طبقية لفئة تملك وسائل الإنتاج، وتُسخّر القانون والسياسة والفكر لتثبيت امتيازاتها.
وهكذا، فإن العدالة البرجوازية – التي تبدو كأنها قيمة إنسانية شاملة – هي في الواقع نظام من التوزيع العادل للظلم. فالعمل يُباع "بإرادة حرة" لكنه محكوم بحتميات الحاجة؛ والملكية تُقدّس بوصفها حقًا طبيعيًا، لكنها تُخفي في جوهرها علاقات اغتصاب طبقي.
- الجدلية المادية كأداة ثورية
تحول ماركس من الجدلية المثالية إلى الجدلية المادية ليس مجرد نقاش فلسفي نظري، بل هو تأسيس لمنهج ثوري في فهم العالم. إن الجدل المادي لا يدرس الأشياء كما تظهر في الوعي، بل كما توجد في الواقع. إنه يفكك بنية الواقع عبر تتبع تناقضاته الداخلية، ويطرح المستقبل بوصفه نتيجة حتمية لهذه التناقضات، لا بوصفه حلماً أخلاقياً.
الجدل الهيغلي كان يهدف إلى المصالحة مع الواقع بوصفه تعبيراً عن العقل. أما الجدل الماركسي، فهو أداة لنقد الواقع وتجاوزه. إنه ليس طريقة للتفلسف، بل طريقة للتغيير الثوري.
- الوجود يسبق الوعي: قلب العلاقة الجدلية
العبارة الماركسية الشهيرة:
"ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، بل وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم"،
هي جوهر التحول من الهيغلية إلى الماركسية. إنها لا تنفي أهمية الوعي، لكنها تضعه في مكانه الصحيح: تابعٌ للبنية التحتية المادية، لا خالق لها.
في هذه الرؤية، تكون الفلسفة، والدين، والأخلاق، والفن، مجرد بنى فوقية، تعكس الوضع الطبقي للمجتمع. ولذلك فإن أي ثورة حقيقية لا تبدأ بتغيير الأفكار، بل بتغيير البنية المادية التي تُنتج هذه الأفكار.
خاتمة هذا المحور:
لقد كانت الجدلية الماركسية، كما تطوّرت في بؤس الفلسفة، إعلاناً عن ثورة مزدوجة: ثورة على الفلسفة المثالية التي سادت أوروبا لقرون، وثورة على الإصلاحية الاشتراكية التي أرادت تحسين الرأسمالية بدلاً من تجاوزها. ومن خلال هذا التحول، أخرج ماركس الجدل من معبده الهيغلي، وأسكنه في ورشة العمل، في المصنع، في الشارع، في الصراع اليومي بين من ينتج ومن يستغل. ومن هنا، فإن بؤس الفلسفة ليس مجرد كتاب ضد برودون، بل هو بيان فلسفي عن نهاية الميتافيزيقا وبداية النقد الجذري للعالم.
رابعاً: نقد ماركس لفكرة التوفيق بين العمل والرأسمال عند برودون – تفكيك حلم المصالحة المستحيلة
في صميم بؤس الفلسفة، لا يقف ماركس عند حدود الرد الجدلي النظري، بل يتقدّم نحو نقطة جوهرية: نقد الفكرة الإصلاحية التي تقوم على إمكانية التوفيق بين العمل والرأسمال، وهي فكرة محورية في أطروحة برودون حول "العدالة" و"التنظيم الاقتصادي". كان برودون يحلم بمجتمع يزيل الاستغلال من دون أن يُطيح بالنظام الرأسمالي، مجتمع يقوم على تبادل عادل للمنتجات، وتعاون حر بين العمال، دون وجود رأسماليين يستحوذون على فائض القيمة. لكن ماركس رأى في هذا الحلم تناقضاً جوهرياً يخفي استمرارية الاستغلال بدل إلغائه.
- العمل والرأسمال: علاقة لا يمكن "التوفيق" بينها
يرى ماركس أن برودون يخلط بين الظواهر الاقتصادية ومضامينها الجوهرية. فالرأسمال، في جوهره، ليس شيئاً مادياً يمكن التعايش معه بسلام (كالآلات أو النقود)، بل هو علاقة اجتماعية تقوم على التناقض. الرأسمال لا يوجد إلا بوصفه قوة تُخضع العمل، وتحوله إلى سلعة تباع وتُشترى. ومن هنا فإن أي محاولة لإقامة "عدالة" بين الطرفين، كما يدعو برودون، ليست سوى وهم أخلاقي، لأن:
"كل عدالة تحاول التوفيق بين العمل والرأسمال، إنما تنطلق من قبولٍ ضمني بمنطق الاستغلال نفسه."
أي أن فكرة "العدالة التبادلية" بين العامل والرأسمالي، إن لم تنهِ طبيعة التملّك الطبقي، فهي لا تفعل سوى تحسين شروط العبودية.
- فائض القيمة: الغائب الأكبر في تحليل برودون
قبل أن يصوغ ماركس نظريته الكاملة في رأس المال، كان قد بدأ يضع ملامحها في بؤس الفلسفة. ومن أبرزها فكرة فائض القيمة، وهي القيمة التي ينتجها العامل فوق ما يتقاضاه من أجر. لم يكن برودون يرى هذا الفائض، لأنه تعامل مع الاقتصاد كعملية أخلاقية لتبادل القيم، لا كعلاقة طبقية.
إن برودون، في نظر ماركس، يفترض أن النظام الرأسمالي يمكن أن يُعاد تصميمه بطريقة أكثر "إنسانية"، لكنّه لا يرى أن جوهر الرأسمالية ليس في عدم العدالة في التوزيع فحسب، بل في طريقة إنتاج القيمة نفسها، حيث تُنتزع من العامل دون مقابل. وهذا ما يجعل دعوة برودون إلى "إلغاء الربا" أو "إصلاح النقود" أو "إنشاء بنك شعبي" مجرد تجميل تقني لا يمس بنية النظام.
- برودون والتناقض البرجوازي الصغير
ماركس لا يرى في برودون مفكراً شريراً أو مخادعاً، بل يرى فيه المعبّر النموذجي عن وعي البرجوازي الصغير، تلك الفئة التي تقع بين العمال والرأسماليين، والتي تريد الحفاظ على مكانتها من دون أن تدفع ثمن الثورة. إنها فئة لا تريد لا الرأسمالية المتوحشة ولا الاشتراكية الجذرية، بل تبحث عن حل وسط وهمي، يستبقي النظام ويُصلحه في آن.
ولذا فإن برودون – في نظر ماركس – يتأرجح دائماً بين الرغبة في العدالة، والخوف من راديكالية التغيير. إنه يُدين الاستغلال، لكنه لا يقبل بتفكيك المنظومة التي تُنتجه؛ يرفض البؤس، لكنه لا يشكك في الملكية الخاصة التي تُنتجه.
- تفكيك وهم الحياد: لا اقتصاد خارج السياسة
من أهم ما ينتقده ماركس في برودون، هو ادعاؤه الحياد السياسي. فبرودون يكتب كما لو أن "الاقتصاد" علم طبيعي، يمكن إصلاحه كما تُصلح آلة، دون الحاجة إلى ثورة أو صراع. لكن ماركس يبيّن أن:
"كل اقتصاد هو اقتصاد سياسي، وكل سياسة تحمل مضموناً طبقياً."
بمعنى آخر، لا يمكن الحديث عن "إصلاح اقتصادي" بمعزل عن سؤال: لمن تُنتج الثروة؟ ومن يملك وسائل الإنتاج؟ ومن يحدّد شروط العمل؟.
ماركس ينسف بذلك وهم أن الاقتصاد يمكن فصله عن البنية الاجتماعية والسلطة، ويرى أن أي تحليل لا ينطلق من الصراع الطبقي، هو تحليل إيديولوجي يخدم الطبقة السائدة ولو بحسن نية.
- النقد الماركسي: من التفكيك إلى البديل
ما يجعل نقد ماركس لبرودون عميقاً، هو أنه لا يكتفي بالكشف عن أوهامه، بل يُقدّم بديلاً مفاهيمياً ومنهجياً:
- فبدلاً من "العدالة المجردة"، يقترح تحليلاً تاريخياً طبقياً.
- وبدلاً من "التبادل المتوازن"، يطرح سؤال القيمة وفائضها.
- وبدلاً من "البنك الشعبي"، يُشير إلى ضرورة تغيير علاقات الإنتاج ذاتها.
ماركس لا يريد نظاماً رأسمالياً مؤنسناً، بل يريد تجاوز الرأسمالية نفسها، بوصفها نظاماً يقوم على التناقض والاستغلال البنيوي، لا على الخطأ الأخلاقي العارض.
خاتمة هذا المحور:
إن رفض ماركس لفكرة التوفيق بين العمل والرأسمال عند برودون ليس رفضاً لشخص أو لاقتراح محدد، بل هو رفض لرؤية فلسفية كاملة تحاول حجب التناقض الطبقي خلف ستار من القيم المجردة. في بؤس الفلسفة، يكشف ماركس أن الطريق إلى التحرر لا يمر عبر ترميم النظام، بل عبر تفكيك أسسه الطبقية. العدالة الحقيقية لا تعني "توازناً" بين المالك والعامل، بل تعني نهاية العلاقة التي تجعل من أحدهما مالكاً والآخر بائعاً لقوته.
وبذلك، فإن نقد ماركس لبرودون هو تمهيد لثورة فكرية لا تقل راديكالية عن الثورة السياسية – ثورة تنتقل من إصلاح سطح العالم إلى تغيير جذره
خامساً: الاقتصاد السياسي كميدان للفلسفة الثورية
– من النقد الأخلاقي إلى التحليل الجذري
يشكّل هذا المحور من بؤس الفلسفة لحظة انعطاف حاسمة في الفكر الماركسي، حيث يُعاد تعريف الفلسفة لا بوصفها تأمّلاً في الماهيات أو القيم، بل كأداة تحليل مادي للتاريخ والواقع. هنا لا تكون الفلسفة وقوفاً فوق الاقتصاد، بل انخراطاً داخلياً فيه، لا لتفسيره فحسب، بل لتحويله. الاقتصاد السياسي، في هذا السياق، ليس علماً محايداً، بل ميدان صراع فكري وسياسي، يدخله ماركس مسلّحاً بمنهج جدلي مادي، من أجل تفكيك وهم "الطبيعة الأبدية" للمفاهيم الاقتصادية.
- من الأخلاق إلى التاريخ: نقد التصورات المجردة عن الملكية والربح
ينطلق ماركس من رفضه الجذري لما يسميه "نقد برودون الأخلاقي" للملكية والربح والفائدة. فبرودون ينظر إلى هذه المفاهيم كتشوّهات أخلاقية طرأت على نظام اقتصادي يمكن أن يكون عادلاً في أصله. لكن ماركس يرى أن هذه الظواهر ليست أخطاءً، بل نتائج حتمية لشروط الإنتاج الرأسمالي:
"ليست الملكية الخاصة خطأً أخلاقياً، بل نتيجة ضرورية لبنية الإنتاج القائمة على العمل المأجور والاستحواذ على فائض القيمة."
أي أن الفائدة ليست سرقة، بل شكل قانوني من أشكال الاستغلال؛ والربح ليس حيفاً فردياً، بل التعبير العادي عن سيرورة تراكم رأس المال. لا يمكن نقد هذه البُنى بمعايير أخلاقية معزولة، لأن الأخلاق نفسها تُنتج داخل هذه البُنى.
- تفكيك مفاهيم الاقتصاد السياسي: بين الاستعمال والتبادل
لفهم الرأسمالية، يعيد ماركس ترتيب المفاهيم المركزية للاقتصاد السياسي الكلاسيكي، ويبدأ بتوضيح الفرق بين:
- القيمة الاستعمالية: وهي المنفعة التي يحققها الشيء (كالأكل أو اللباس).
- القيمة التبادلية: وهي ما يُحدده السوق من "قيمة" للشيء مقابل أشياء أخرى.
هذا الفرق ليس مجرد تعريف لغوي، بل هو مفتاح لتحليل انفصام الواقع في الرأسمالية. فبينما تبدو المنتجات خاضعة لحاجات إنسانية، فإنها في السوق تتحول إلى سلع تتبادل بمعزل عن حاجات البشر، ويصبح العمل البشري نفسه سلعة، أي يُباع ويُشترى مثل أي شيء آخر.
من هنا تبدأ المأساة: حين تتحوّل قوة الإنسان الإنتاجية إلى قوة غريبة عنه، يتحكم بها السوق وليس الإرادة البشرية.
- العمل المأجور والاستغلال: مركز الصراع الطبقي
يركّز ماركس على العمل المأجور بوصفه لبّ الاستغلال في الرأسمالية. فالعمل لا يُقاس بعدد ساعاته فقط، بل بما يُنتجه خلالها من قيمة. العامل يُنتج قيمة أكبر مما يتقاضاه من أجر، وهذا الفارق بين القيمة المنتَجة والأجر المدفوع هو ما يشكل فائض القيمة، الذي يُراكم منه الرأسمالي أرباحه.
برودون لا يرى هذا التناقض، لأنه يتعامل مع الأجور كتبادل حر بين طرفين. لكن ماركس يكشف أن هذا "الحرية" ليست إلا قناعاً لعلاقة غير متكافئة تُخفي داخلها قسراً بنيوياً: العامل لا يملك وسيلة إنتاجه، لذا عليه أن يبيع نفسه ليعيش، في حين يمتلك الرأسمالي القدرة على تحويل هذه الحاجة إلى آلة تراكم لا تنتهي.
- الملكية الخاصة: لا حقّ مقدس بل تكوين تاريخي
من أبرز ما يقوّضه ماركس هو التصور الليبرالي القائل بأن الملكية الخاصة "حق طبيعي". هذا الافتراض الأخلاقي هو في الحقيقة إيديولوجيا برجوازية تخفي أصل الملكية الطبقي. فماركس يُظهر أن:
"الملكية الخاصة ليست دائماً موجودة، بل ظهرت تاريخياً، وتخدم طبقة بعينها."
كل من يدرس تطور المجتمعات الإنسانية، من المشاعية الأولى إلى الإقطاع ثم الرأسمالية، يدرك أن الملكية ليست جوهراً ثابتاً، بل بنية تاريخية تتغير مع تغيّر علاقات الإنتاج. ولهذا، فإن الدفاع عن الملكية باسم العدالة أو الحرية هو دفاع عن وضع تاريخي مشروط، لا عن مبدأ أبدي.
- التناقض الجوهري: بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج
ربما تكون هذه الفكرة من أعمق ما يُقدّمه ماركس: أن التناقض الأساسي في الرأسمالية لا يقع في السوق فقط، بل داخل سيرورة الإنتاج نفسها. فكلما تطورت القوى المنتجة (التكنولوجيا، التنظيم، الكفاءة)، ازدادت قدرتها على الإنتاج، لكن علاقات الإنتاج (الملكية، الأجر، السيطرة) تبقى جامدة تخدم مصالح الأقلية المالكة. ومن هنا:
"تتحول علاقات الإنتاج من وسائل لتنظيم العمل، إلى قيود على تطوره."
وحين يبلغ هذا التناقض حدًاً معيناً، يصبح التحول الثوري ضرورة تاريخية، لا مجرد اختيار سياسي. الثورة لا تأتي فقط من الغضب، بل من وصول النظام نفسه إلى حالة تناقض داخلي يستحيل معه الاستمرار.
خاتمة هذا المحور:
في بؤس الفلسفة، لا يكتفي ماركس برفض تحليل برودون، بل يعيد تعريف ميدان الاقتصاد السياسي نفسه. إنه ينقله من كونه علماً وصفياً أو أخلاقياً، إلى ساحة للفلسفة الثورية. هنا، تتقاطع النظرية بالممارسة، والمفهوم بالتاريخ، ويصبح الفكر المادي الجدلي أداة لفهم العالم بهدف تغييره.
إنّ هذا التحوّل المفهومي الذي يُجريه ماركس من "فلسفة البؤس" إلى "بؤس الفلسفة" ليس مجرد تقابل لفظي، بل تفجير معرفي يُعلن فيه أن البؤس ليس مشكلاً أخلاقياً نُدينه، بل بنية اقتصادية يجب أن نُسقطها؛ وأن الفلسفة، إن لم تنخرط في هذا الصراع، فإنها تصبح – كما يقول ماركس – جزءاً من البؤس ذاته.
سادساً: بين هيغل وريكاردو – الموقف الفلسفي والاقتصادي عند ماركس في بؤس الفلسفة
في بؤس الفلسفة، لا يكتفي ماركس بنقد برودون فقط، بل يعيد رسم خريطة الفكر الحديث بقراءته الجدلية لكل من هيغل (بمثاليته الجدلية) وريكاردو (بنزعته الاقتصادية الكلاسيكية). إن ماركس لا يُنكر أهمية أيّ منهما، بل يرى أنه لا يمكن الوصول إلى تحليل ثوري للعالم دون المرور من الفكر الجدلي الهيغلي والتحليل الاقتصادي الإنجليزي، ولكن عبر تجاوُزِهما معاً إلى ما يسميه "المادية التاريخية".
- من هيغل: من الفكرة إلى الواقع
ماركس يعترف بأنه "تتلمذ" على المنهج الجدلي عند هيغل، لكنه لا يقبل بما يسميه "الوقوف على الرأس" الذي يمارسه هيغل حين يجعل الروح أو الفكرة أصلاً لكل شيء. بالنسبة لهيغل، يتطوّر التاريخ من خلال تصادم الأفكار في جدلية مستمرة: أطروحة – نقيض – تركيب، حيث تُصعد الفكرة نفسها من خلال تناقضاتها نحو "الروح المطلقة".
لكن ماركس يرفض هذا المسار الميتافيزيقي، لأنه يعكس الواقع بدلاً من تفسيره. إن الأفكار، بحسب ماركس، لا تتحرك من تلقاء ذاتها، بل تنبع من الواقع المادي – من العلاقات الاجتماعية والإنتاجية. ولذلك، كتب:
"ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، بل وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم."
ماركس هنا يُبقي على الجدلية، لكنه يقلبها من السماء إلى الأرض: ليست الفكرة هي التي تولّد المجتمع، بل المجتمع – في صراعاته المادية – هو الذي يولّد الفكرة. وهكذا، تصبح الجدلية المادية أداته لفهم الصراع الطبقي، بدلًا من أن تكون رحلة الروح في التاريخ.
- من ريكاردو: من التحليل الكمي إلى التحليل الجدلي
إذا كان هيغل يمثل قمة الفلسفة الألمانية المثالية، فإن ديفيد ريكاردو يمثل نضج الاقتصاد السياسي الإنجليزي، الذي حاول تفسير السوق وفق قوانين "علمية" قائمة على العمل، العرض والطلب، الربح، التنافس، والأجور. وقد استلهم برودون بعضاً من مفاهيم ريكاردو، لكنه أساء استعمالها عبر إسقاطها في أخلاقيات مجردة.
ماركس، في المقابل، يُقدّر ريكاردو لأنه أول من فهم أن قيمة السلعة تُقاس بمقدار العمل المبذول فيها، لكنه يرى أن ريكاردو لم يُكمل طريقه، بل أوقف التحليل عند السطح الكمي دون النفاذ إلى البنية التاريخية للعلاقات الاقتصادية. فرِكاردو يفسّر كيف تعمل الرأسمالية، لكنه لا يسأل لماذا هي كذلك، ولا كيف يمكن أن تنتهي.
"ريكاردو يصف علاقات الإنتاج كما لو كانت طبيعة ثانية، في حين أن ماركس يكشف تاريخانيتها وتناقضاتها."
ماركس يأخذ من ريكاردو نظرية القيمة والعمل، لكنه يُدخلها في التحليل الجدلي، كاشفاً أن القيمة ليست فقط مسألة قياس، بل ساحة استغلال، حيث يتحوّل العمل الحي إلى مصدر لفائض القيمة الذي يُراكمه الرأسمالي.
- التقاء الفلسفة والاقتصاد في الجدلية المادية
في بؤس الفلسفة، يشتبك ماركس مع هيغل وريكاردو ليقول إن الفلسفة وحدها لا تكفي، والاقتصاد وحده لا يكفي، بل لا بد من منهج ثالث:
- من هيغل يأخذ الجدلية.
- من ريكاردو يأخذ التحليل الاقتصادي.
- ومن الواقع يأخذ المادة التاريخية والصراع الطبقي.
بهذا، يولد ما يُسمّى لاحقاً بـ"المنهج الماركسي"، حيث تتشابك:
- الفلسفة (كتحليل للأفكار في سياقها التاريخي)
- والاقتصاد (كتحليل للبنية المادية للعلاقات الاجتماعية)
- والثورة (كهدف عملي لتحويل العالم لا تفسيره فقط)
في هذا المنهج، لا تعود الفلسفة "حكمة المجردات"، بل تصبح – كما كتب ماركس في الأطروحات على فويرباخ – فعلاً تغييرياً:
"لقد فسّر الفلاسفة العالم بطرق مختلفة، والمطلوب الآن هو تغييره."
- من برودون إلى ماركس: المسافة بين الإيديولوجيا والعلم
برودون، في نظر ماركس، يبقى عالقاً بين هيغل وريكاردو. يأخذ من الأول تمجيد "العدالة"، ومن الثاني تشريح السوق، لكن دون أن يربط بين المفهومين عبر التاريخ. ولهذا يرى ماركس أن برودون يُنتج إيديولوجيا مموِّهة، أي فكراً يبدو جذرياً، لكنه في الواقع يُبقي على جوهر الرأسمالية.
في المقابل، يقدم ماركس نفسه بوصفه من ينقل الاقتصاد السياسي من مرحلة التفسير إلى مرحلة النقد الجذري، ومن الملاحظة الأخلاقية إلى العلم التاريخي الجدلي. إنه، بهذا المعنى، لا يكتب في الاقتصاد فقط، بل يفكّك البُنى الفكرية التي تسنده، ويُنتج فلسفة من نوع آخر: فلسفة لا تنفصل عن الاقتصاد، ولا تنفصل عن الثورة.
سابعاً: العدالة والحق في مرآة الصراع الطبقي – نهاية الأخلاق وبداية التاريخ
من أخطر ما يفعله ماركس في بؤس الفلسفة أنه لا يكتفي بهدم البناء الفلسفي المثالي، بل يذهب أبعد: يهدم المفاهيم الأخلاقية ذاتها حين تُستعمل بوصفها أدوات خادعة لتجميل واقع طبقي ظالم. المفاهيم مثل "العدالة" و"الحق" و"الإنصاف" لم تعد، في المنظور الماركسي، قيماً مطلقة وأزلية، بل أصبحت منتجات تاريخية مشروطة بالبنية الاجتماعية والاقتصادية السائدة. وهنا تنقلب الفلسفة من ميدان تأملي إلى ساحة صراع.
- نقد مفهوم "العدالة" بوصفه قناعاً برجوازياً
في فلسفة برودون، كما في مجمل التيارات الإصلاحية الأخلاقية، تبدو العدالة مبدأ سامياً ينبغي على النظام أن يتطابق معه. فهي موجودة فوق التاريخ، كمعيار ينبغي أن يُطبَّق. لكن ماركس يفضح هذه النظرة باعتبارها إسقاطاً زائفاً:
"العدالة ليست شيئاً أبدياً، بل هي تعبير تاريخي عن علاقات الإنتاج."
بمعنى آخر، ما يسمى "عدالة" في مجتمعٍ ما، ليس إلا ترجمة لمصالح الطبقة السائدة في ذلك المجتمع. ما يُعدُّ "حقاً" في ظل الرأسمالية، هو في الحقيقة مجرد اسم آخر لـ"حق الملكية"، أي حق القلة في تكديس الفائض الناتج عن عمل الأغلبية. فبدلاً من أن تكون العدالة معيارًا لتقييم النظام، تصبح هي نفسها نتاجاً أيديولوجياً له.
- من الأخلاق إلى الاقتصاد: موت القيمة المجردة
هنا يتخلّى ماركس نهائياً عن كل وهم أخلاقي مجرد. لا "العدالة"، ولا "الحرية"، ولا "الكرامة" يمكنها أن تُفهَم أو تُطالَب بها إلا بوصفها انعكاسات لتوازنات القوى الطبقية. فالحرية التي يُنادي بها الليبرالي، هي حرية التاجر في استغلال العامل. والكرامة التي يطالب بها الإصلاحي، هي كرامة العيش داخل منظومة استغلال محسّنة لا تمسُّ الجوهر.
هكذا، تنهار الأخلاق بوصفها خطاباً كونياً، ويولد مكانها تحليل مادي تاريخي يرى في كل خطاب أخلاقي صدى للموقع الطبقي لمن ينطق به.
- الصراع الطبقي كـ"محكمة التاريخ"
إن ما يحكم العالم، بحسب ماركس، ليس صوت الضمير، بل منطق الصراع. فما من حقٍ إلا ويُنتزع، وما من عدالة إلا وتُفرَض بالقوة، وما من حرية إلا وتُنتج في قلب التناقض. التاريخ لا يتقدم وفق معيار "الأفضل"، بل عبر صراع بين قوى اجتماعية متعارضة. العدالة، إذاً، ليست حالة تُطالَب بها، بل نتيجة تُفرَض بانتصار طبقة على أخرى.
كما كتب في البيان الشيوعي:
"التاريخ كله هو تاريخ صراع الطبقات."
ومن هنا، فإن بؤس الفلسفة لا يُحاكم برودون لأنه "غير عادل"، بل لأنه يريد إصلاح النظام بأدواتٍ مأخوذة من ذات النظام: إنه يُطالب بالعدالة، بدل أن يُقوِّض الأسس التي تجعل الظلم ممكناً. إنه ينادي بحقوق العامل، دون أن يُدرك أن هذه الحقوق لا تُنتَزع بالكلام، بل بالصراع.
- نهاية الفلسفة الأخلاقية: بداية الفلسفة الثورية
عبر تفكيكه لمفاهيم العدالة والحق والملكية، ينهي ماركس المرحلة "الأخلاقية" من الفكر السياسي، ليفتح الباب أمام الفكر الثوري الجدلي، الذي لا يسعى إلى الحكم على العالم، بل إلى تغييره من جذوره. وهنا يكون الفرق واضحاً:
- برودون ينظر إلى العالم ويسأل: "كيف نُصلحه؟"
- ماركس ينظر إليه ويسأل: "من المستفيد؟ وكيف نُسقطه؟"
في هذه النقلة، تنتهي الفلسفة بوصفها خطاباً تأملياً حول القيم، وتبدأ بوصفها سلاحاً طبقياً. ليست العدالة غاية، بل تعبيراً مؤقتاً عن انتصار طبقي ما. وليست الحرية قيمة خالدة، بل أداة نضال تُحدَّد بمدى قدرتها على تفكيك بنية الاستغلال.
خلاصة: من نقد القيم إلى إعادة إنتاج التاريخ
بهذا الفصل، يضع ماركس حداً للوهم الأخلاقي الذي يغلف الخطاب الإصلاحي، ويؤسس لفهم جديد للواقع: واقع بلا أقنعة، بلا مفاهيم مسبقة، بلا عدالةٍ تُعلَّق في السماء.
إنه يدعو إلى النزول من برج الفلسفة إلى أرض التاريخ، حيث تتصارع الطبقات، وتُبنى المفاهيم لا بوصفها حقائق، بل بوصفها أدوات صراع. فالعدالة لا تُستخرج من العقل، بل تُنتزع من المصانع. والحق لا يُشتق من المنطق، بل يُصاغ في الميدان.
هكذا تتحوّل الفلسفة، على يد ماركس، من تأمل في "ما يجب أن يكون"، إلى تحليلٍ لما "هو كائن"، تمهيداً لما ينبغي أن يُغيَّر.
ثامناً: الاشتراكية العلمية في مواجهة الاشتراكية الطوباوية – من الحلم إلى التاريخ
في الفصل الأخير من بؤس الفلسفة، يتقدّم ماركس خطوة حاسمة نحو بلورة رؤيته الخاصة، لا كناقد لبرودون فحسب، بل كمؤسّس لنمط جديد كلياً من الفكر الاشتراكي: الاشتراكية العلمية. لم يكن هذا التأسيس ناتجاً عن تأملات مجردة، بل عن صراع فكري مباشر مع التيارات الاشتراكية الأخرى التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر، والتي، على الرغم من نواياها الإنسانية، كانت تعاني، برأي ماركس، من فشل جوهري في فهم منطق التاريخ والواقع الاجتماعي.
- الاشتراكية الطوباوية: بين الحنين الأخلاقي والخيال المثالي
كان المشهد الاشتراكي في أوروبا، قبل ماركس، متخماً بالأحلام المثالية التي تتوسل الخلاص من البؤس الرأسمالي عبر مشاريع خيالية، تعيد ترتيب المجتمع وفق نماذج أخلاقية أو هندسية أو فوضوية. أبرز هذه التيارات:
- السان سيمونية: ركزت على التنمية التكنولوجية والتخطيط العقلاني للمجتمع، لكنها ظلت تؤمن بإمكان إصلاح الرأسمالية تدريجياً عبر النخبة المثقفة والتكنوقراط.
- الفورييهية: حلمت بمجتمعات تعاونية طوباوية تُسمى "الفالانستير"، تسود فيها العدالة والتناغم، لكنها تجاهلت البنية الطبقية العنيفة التي تحكم الواقع.
- البرودونية (نسبةً إلى برودون): مثّلت التيار الفوضوي والإصلاحي الأخلاقي، الذي يرى في التبادل العادل والعقود التشاركية حلولاً لأزمات المجتمع، دون المساس بالأساس الطبقي أو آليات السيطرة الرأسمالية.
ماركس يرى أن هذه التيارات، رغم اختلافاتها، تشترك في خطأ بنيوي واحد: إنها تنظر إلى الرأسمالية كاختلال أخلاقي أو قانوني، لا كمنظومة مادية تاريخية تنبع تناقضاتها من صلب آلياتها. ومن هنا جاء رده الحاسم: الاشتراكية ليست خيالاً، بل علم.
- الاشتراكية العلمية: ولادة العقل الثوري في قلب المادة
في مقابل هذه الطوباويات، يطرح ماركس ما يسميه "الاشتراكية العلمية"، وهي ليست "نظرية مثالية لما يجب أن يكون"، بل تحليل صارم لما هو كائن، وكيف يمكن أن يتحول. الاشتراكية العلمية تقوم على أربعة مبادئ جوهرية:
أ. تحليل مادي لتطور التاريخ:
ينطلق ماركس من ما يسمى المادية التاريخية، أي أن التاريخ البشري ليس تاريخ أفكار أو قيم، بل تاريخ تطورات مادية في وسائل الإنتاج. كل نمط إنتاج – من العبودية إلى الإقطاع إلى الرأسمالية – ينتج شكلاً محدداً من العلاقات الاجتماعية، والثقافة، والدولة، وحتى الأخلاق.
ب. الصراع الطبقي كمحرك للتاريخ:
التاريخ، وفق ماركس، لا يتحرك بتراكم الحكمة أو تطور الوعي الأخلاقي، بل بصراع المصالح بين الطبقات. كل نظام اقتصادي يحمل في داخله تناقضاً يولّد طبقات متضادة، يكون صراعها هو القوة الدافعة للتغيير. ولهذا، فإن الرأسمالية، مثل غيرها، تحمل بذور فنائها في الصراع بين البرجوازية والبروليتاريا.
ج. وحدة النظرية والممارسة:
هنا يدخل ماركس إلى قلب التغيير الثوري: ليست النظرية غاية في ذاتها، بل هي أداة للفعل. لا فائدة من فهم العالم إن لم يكن هذا الفهم مدخلاً لتغييره. بهذا المعنى، تصبح الفلسفة – لا كمجال تأملي بل كمنهج نقدي – جزءاً من نضال الطبقة العاملة، تُستخدم لا لتفسير الاغتراب، بل لتفكيكه.
"الفلاسفة اكتفوا بتفسير العالم بطرق شتى، لكن المهم هو تغييره." – ماركس
د. تحرر الطبقة العاملة لا يمكن أن يأتي من خارجها:
رفض ماركس كل تصور وصائيّ يجعل النخبة المثقفة، أو الأنبياء الاجتماعيين، هم من "يمنحون" التحرر للعامل. التحرر، في الاشتراكية العلمية، فعلٌ ذاتيّ للطبقة العاملة، ينبثق من وعيها بموقعها الطبقي، ومن قدرتها على التنظيم والنضال. وهذا ما يمنح الثورة معناها: ليست انتفاضة غضب، بل حركة عقلانية واعية نابعة من إدراك موضوعي لشروط القمع والإنتاج.
- من الحلم إلى العلم – قطيعة إبستيمولوجية
يمكن القول إن ماركس، في هذا التحول، يُجري قطيعة معرفية عميقة مع كل ما سبق من فكر اشتراكي. فهو لا يقدم "نسخة واقعية" من الطوباوية، بل ينقض الطوباوية من أساسها. الاشتراكية لا تُبنى على الحلم بمستقبل عادل، بل على فهم القوى التي تنتج الظلم حالياً، وعلى تفكيكها علمياً من أجل زعزعة بنيانها وإعادة إنتاج التاريخ.
- المعنى الثوري لهذا التحول
الاشتراكية العلمية لا تكتفي برؤية التناقض، بل تُصنّفه ضمن منطق تطوره: لا إصلاح، بل ثورة. لا عودة إلى مجتمعات مثالية، بل تجاوز جدلي للتناقض عبر نضال الطبقة العاملة. في هذا الإطار، تصبح الفلسفة – بكل فروعها – ملحقة بالواقع، ويصبح التاريخ ذاته، لأول مرة، موضوعاً للعلم، لا للرغبة.
خاتمة: نحو فلسفة لها عضلات
بهذا الفصل، يُنهي ماركس مشروع "الاشتراكية الأدبية" أو "الرغبوية"، ويُدخل الفكر الثوري إلى قلب التاريخ كممارسة علمية. لم يعد العاملُ بحاجة إلى حكيم يرثي له أو فوضوي يعده بالجنة، بل بحاجة إلى أدوات تحليل، ووعي طبقي، وتنظيم ثوري. هكذا تتحول الاشتراكية من يوتوبيا حالمة إلى نظرية ثورية مادية.
لقد صاغ ماركس، في بؤس الفلسفة، ليس فقط نقداً لبرودون، بل نهاية عصرٍ كامل من الأحلام الطوباوية، وبداية عصر جديد، يُصغي فيه الفلاسفة إلى صوت المطرقة والسندان، لا إلى صدى الضمير الأخلاقي.
تاسعاً: القيمة المعاصرة لـ"بؤس الفلسفة" – ماركس ضد خطاب ما بعد الحداثة
رغم أن كتاب بؤس الفلسفة يُعدّ من الكتابات المبكرة لماركس (1847)، إلا أنه يُشكّل في كثير من وجوهه نصاً تأسيسياً، تتبلور فيه ملامح المنهج الماركسي الذي سيظهر بشكل أكثر نضجاً في رأس المال و"البيان الشيوعي". إنه كتاب يحفر في قلب الفلسفة، لكن لا ليبني نظاماً تأملياً، بل ليُفكّك أوهامها المثالية، ويكشف عن شروط إنتاجها الاجتماعية والتاريخية.
ورغم مرور قرن ونصف من الزمان، وتحوّل العالم جذرياً، تبقى القيمة المعرفية والنقدية لـ"بؤس الفلسفة" حاضرة بقوة، لا بوصفها وصفة جاهزة، بل كمنهج متجدد لفهم الواقع. ويمكن تلخيص هذه القيمة المعاصرة في أربعة محاور:
- رفض الفلسفة التي تفصل الفكر عن الواقع
يصر ماركس، ضد برودون، وضد التيار المثالي عموماً، على أن الفكر ليس "روحاً حرّة"، ولا كياناً يطفو فوق المجتمع، بل هو نتاج مادي، مشروط بالبنية الاجتماعية، الاقتصادية، الطبقية، التاريخية. بهذا، يقف ماركس ضد النزعة التأملية التي تفصل بين العقل والعالم، ويطالب بإعادة الفكر إلى الأرض، إلى التاريخ، إلى التناقضات التي أنتجته.
وهذا النقد ما يزال جوهرياً اليوم، في زمن تهيمن فيه الفلسفات اللغوية والخطابية التي تختزل الواقع في "نص"، وتفرغ السياسة من ماديتها. ففي مقابل هذا الاتجاه، يستعيد بؤس الفلسفة ضرورة الربط بين الفكر وظروف إنتاجه، بين الفلسفة والبنى الاجتماعية التي تنتجها وتعيد إنتاجها.
- التركيز على البنية المادية للمجتمع
يقف بؤس الفلسفة في مواجهة كل نزعة تحاول تفسير الظواهر الاجتماعية من خلال المفاهيم الأخلاقية أو التصورات الحقوقية أو المبادئ الإنسانية المجردة. فالمجتمع، بالنسبة لماركس، ليس كياناً أخلاقياً أو قانونياً، بل بنية مادية تقوم على علاقات الإنتاج، وعلى الصراع بين الطبقات.
حتى القيم الأخلاقية والحقوق والعدالة – والتي يمجّدها برودون – ليست فوق التاريخ، بل تتغير تبعاً لشروط الإنتاج. وهذه النظرة البنيوية المادية لا تزال تحتفظ براهنيتها، خصوصاً في زمن تزايدت فيه الفوارق الطبقية، وتحولت فيه العدالة إلى سلعة، والحق إلى امتياز طبقي.
- ربط النظرية بالممارسة السياسية الثورية
من أعمق دروس بؤس الفلسفة، ذلك التأكيد المتكرر على أن النظرية لا تكون إلا أداة للفعل. ليست الفلسفة ترفاً نظرياً، بل سلاحاً في يد الطبقة المضطهدة. وهذا الربط بين الفكر والعمل – بين التحليل والتغيير – هو ما يجعل من ماركس، لا فيلسوفاً فحسب، بل منظّراً للثورة.
في زمن يُفكَّك فيه كل مشروع تحرري بوصفه "سردية كبرى"، تذكّرنا الماركسية المبكرة بأن لا معنى للفكر إن لم يُربَط بالواقع، وبالذات الثورية، وبحتمية الفعل الجماعي. ففي وجه الانسحاب الأكاديمي لما بعد الحداثة، يقف بؤس الفلسفة كتاباً حيّاً، مشدوداً نحو الفعل.
- تحليل أشكال الوعي كنتاج للشروط المادية
من النقاط التي يُؤسس لها ماركس في هذا النص – وسيتوسّع فيها لاحقاً – هي أن الوعي ليس حرّاً ولا مستقلاً، بل هو مشروط بالبنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية. الأخلاق، الدين، القانون، الفلسفة، كلها أشكال من "الوعي الزائف"، لا تُفهم إلا في إطار علاقات الإنتاج التي تنتجها وتعيد إنتاجها.
وهذا التحليل البنيوي لأشكال الوعي يظل من أكثر أدوات التحليل أهمية حتى اليوم، خاصة في فهم آليات الهيمنة الثقافية والإيديولوجية في الرأسمالية المتأخرة، حيث لم تعد السيطرة تتمّ فقط عبر القمع، بل عبر تشكيل وعي زائف بالحرية، والاستهلاك، والفردانية.
- دعوة معاصرة لفهم الواقع في علاقاته البنيوية
حتى في زمن ما بعد الحداثة، حيث تُنتقد مفاهيم مثل "الطبقة"، و"الهوية الجمعية"، و"الخطاب التاريخي"، يبقى بؤس الفلسفة صوتاً فلسفياً مادياً يذكّرنا بأن الواقع لا يتشكل في الخطاب وحده، بل في علاقات الإنتاج، وفي تناقضات البنية الاجتماعية. فالخطاب، بحد ذاته، لا يملك قوة التفسير أو التغيير ما لم يُربط بما يُنتج هذه الخطابات من شروط مادية.
خاتمة: لماذا نعود إلى "بؤس الفلسفة" اليوم؟
لأننا نعيش عصراً يُحاصر فيه النقد من جهتين:
– من جهة النيوليبرالية التي تُحوّل كل شيء إلى سلعة.
– ومن جهة التفكيكية التي تُحوّل كل شيء إلى نصّ.
في هذا السياق، يُذكّرنا ماركس، في هذا الكتاب الصغير والساخر، أن الحرية ليست فكرة، بل علاقة اجتماعية، وأن الفكر الحقيقي هو الذي ينزل إلى العالم، لا الذي يسبح فوقه.
بؤس الفلسفة، إذاً، ليس مجرد نقد لمثالية برودون، بل مانيفستو مادي صغير لفلسفة لا تنسى أن للإنسان جسداً، وأن للجسد جوعاً، وأن للجوع تاريخاً – وأن الثورة ليست فكرة، بل ضرورة.
عاشراً: نقد نقدي – من داخل الماركسية نفسها
رغم القيمة التأسيسية لكتاب بؤس الفلسفة، ورغم دوره في بلورة الكثير من مرتكزات المنهج الماركسي، إلا أن القراءة النقدية – حتى من داخل الماركسية – تفتح الباب لتفحّص بعض جوانب القصور أو التسرّع في هذا النص المبكر. فالكتاب ليس نصاً مقدّساً، بل لحظة من لحظات تشكّل النظرية الثورية، لحظة تضيء بقدر ما تكشف عن حدودها. ويمكن تلخيص أبرز مواطن النقد كما يلي:
- الإفراط في الحتمية الاقتصادية
أحد المآخذ الأساسية التي وُجهت لاحقاً إلى بعض نصوص ماركس المبكرة – ومنها بؤس الفلسفة – هو نزوعها إلى الحتمية، أو ما يُسمّى أحياناً "المادية الاقتصادية الصلبة". ففي سعيه لتأسيس فهم مادي للتاريخ، يُغرق ماركس الكتاب أحياناً في تفسير كل شيء من خلال شروط الإنتاج، وعلاقات الاقتصاد، إلى حدّ يبدو فيه الوعي، والإرادة، والثقافة، وحتى السياسة، مجرد "انعكاسات" لبُنية تحتية صلبة.
هذا النزوع الحتمي سيواجه لاحقاً نقداً حتى من داخل الماركسية نفسها، كما عند أنطونيو غرامشي الذي شدد على دور "الهيمنة الثقافية" و"الكتلة التاريخية"، أو عند لويس ألتوسير الذي ميّز بين "المستويات المختلفة" للبنية، بدل اختزالها في الاقتصاد.
هل كان ماركس، في بؤس الفلسفة، ماديًا أكثر من اللازم؟
ربما، لكنه كان يسعى لتأسيس نقيض جذري للمثالية الهيغلية، فجاء التوازن على مراحل لاحقة.
- أسلوب هجومي وسخرية مفرطة
من السمات اللافتة في بؤس الفلسفة ذلك الأسلوب اللاذع الذي يستخدمه ماركس في الرد على برودون. فالكتاب ليس فقط تفكيكاً نظرياً، بل أيضاً هجاء فلسفي. فماركس لا يكتفي بتفنيد أطروحات خصمه، بل يُمعن في السخرية منها، بل ومن شخصه أحياناً. وبينما كانت هذه اللغة مفهومة في سياق الصراعات الفكرية الحادة في القرن التاسع عشر، إلا أنها قد تُضعف قوة الحجة الفلسفية أمام القارئ المعاصر، الذي يُفضّل أحياناً مناقشة أكثر هدوءاً وتسامحاً.
هذا الأسلوب الهجومي سيكون لاحقاً موضع نقد داخل الماركسية، خصوصاً في التيارات التي حاولت بناء خطاب أكثر انفتاحاً على الاختلاف، وأكثر حساسية للتعددية النظرية.
- التبكير ببعض المفاهيم دون تطويرها
بعض المفاهيم الكبرى التي ظهرت في بؤس الفلسفة – مثل "الصراع الطبقي"، "الدولة البرجوازية"، "علاقات الإنتاج"، "الملكية الخاصة" – لا تزال في طور التكوين، ولا تحظى بعد بالتحليل المعمّق الذي سيأتي لاحقاً في أعمال ماركس الناضجة. فالكتاب أقرب إلى ساحة تجريب مفاهيمي، يُلقي فيها ماركس بالبذور الأولى لمفاهيم ثورية، دون أن يُنضجها بالكامل.
ومن هنا، فإن بعض المقاطع تبدو وكأنها تقفز إلى نتائج كبرى دون تأسيس نظري كافٍ، وهو ما يُحتَمل من كتاب جدلي، لكنه يُضيّق المسافة بين التحليل الأيديولوجي والتحليل العلمي.
خاتمة: محطة أولى... وليست محطة نهائية
هذه المآخذ لا تُنقص من أهمية بؤس الفلسفة، بل تؤكد أنه:
- كتاب منفتح على النقد والتجاوز، لا نصّاً دوغمائياً مغلقاً.
- محطة أولى في تشكّل مشروع ماركس، لا منتهاه.
- إعلان تمرّد فكري ضد فلسفة الطبقات السائدة، حتى وإن كان تمرّداً غاضباً أو متسرّعاً أحياناً.
إن قوة ماركس – paradoxically – تكمن في أنه يُنتقد من داخل مشروعه نفسه، وهذا ما يجعل الماركسية حية، قابلة للتجدد، وغير قابلة للتأليه.
خاتمة: من البؤس إلى الثورة – إعادة تعريف الفلسفة في زمن الضرورة
لم يكن كتاب "بؤس الفلسفة" مجرد مناظرة فكرية بين كارل ماركس وبيير جوزيف برودون، بل كان، في عمقه، إعلاناً فلسفياً عن قطيعة معرفية مع الفلسفة المثالية، وبداية التأسيس لمرحلة جديدة تُحوِّل الفلسفة من مجال التأمل إلى ساحة الصراع. لقد جاء الكتاب بوصفه بياناً مبكراً لما ستصبح عليه الماركسية لاحقاً: فلسفة التاريخ من موقع الطبقة، وتحليل الواقع لا من علٍ، بل من داخله، من تناقضاته وحركته الذاتية.
ماركس لم يكن معنياً بأن يدحض برودون فقط، بل أراد أن يكشف عن الخلل البنيوي في كل فلسفة تبدأ من الأخلاق بدل أن تبدأ من الاقتصاد، ومن المفاهيم المجردة بدل أن تبدأ من الحياة المادية اليومية. لقد أدرك مبكراً أن الفلسفة حين تنفصل عن الواقع، حين تغدو نظاماً من الأفكار المعزولة، فإنها لا تفسر البؤس بل تشاركه وتكرّسه. ومن هنا، فإن نقده لم يكن لأفكار برودون فحسب، بل كان نقداً جذرياً لدور الفلسفة ذاتها حين تنحاز إلى "الوعي الزائف"، وتغدو أداة لتجميل عالم غير عادل.
في "بؤس الفلسفة"، نلمس ميلاد المنهج الجدلي المادي، حيث تتحول الفلسفة إلى أداة تحليل لا تبحث عن الحقيقة في السماء، بل في شروط الإنتاج، وفي علاقات القوة بين الطبقات، وفي الواقع التاريخي المتغير. إنها فلسفة تنزع القناع عن المفاهيم "الأبدية"، وتُظهر كيف أن العدالة، والملكية، والعمل، والمساواة، ليست مفاهيم ثابتة بل منتجات لعلاقات اجتماعية متغيرة، خاضعة دائماً لتاريخها، وللموقع الطبقي الذي تنطلق منه.
وفي هذا المعنى، فإن "بؤس الفلسفة" لا ينتمي إلى القرن التاسع عشر وحده، بل يمتد إلى قرننا الحاضر بكل ما فيه من أزمات اقتصادية، وتفاوت طبقي، واغتراب إنساني. فالعالم النيوليبرالي الذي نعيش فيه اليوم، والذي يُفرغ العمل من مضمونه الإنساني، ويحوّل الإنسان إلى "رأسمال بشري"، هو استمرار لذلك البؤس الذي حاول ماركس تفكيكه منذ قرنين. والأسئلة الكبرى التي طرحها: من يملك وسائل الإنتاج؟ كيف يُنتَج الفقر؟ ولماذا لا تنفع الأخلاق حين تكون الأنساق الاقتصادية ظالمة؟ – كلها أسئلة لا تزال تشق طريقها إلى وجداننا، رغم تغيّر الأشكال والمسميات.
وربما، في ظل ما نشهده اليوم من صعود لنزعات فردانية متطرفة، ومن تهميش للطبقات العاملة، ومن تآكل للمفاهيم الجماعية مثل التضامن والعدالة الاجتماعية، يبدو أن الفلسفة قد عادت، من جديد، إلى موقع التبرير بدل النقد. ومن هنا تبرز أهمية العودة إلى ماركس، لا كدوغما مغلقة، بل كمنهج مفتوح يُعيد تعريف الفلسفة بوصفها سؤالاً عن البنية، لا عن النوايا. بوصفها مواجهة مع العالم، لا عزلة عنه. وبوصفها دعوة للفعل، لا للاكتفاء بالفهم.
إن "بؤس الفلسفة" يذكّرنا بأن الفلسفة التي لا تمس الواقع، لا تغيّره ولا تزعجه، هي فلسفة عاجزة. وأن الفكر الذي لا يلتقط نبض التناقضات في المجتمع، هو فكر ميت، مهما بدا لامعاً أو عميقاً. ولهذا فإن كتاب ماركس، في جوهره، لم يكن فقط نقداً لبرودون، بل كان نقداً لزمن كامل من التواطؤ بين الفكر والسلطة، بين التأمل والتبرير.
وفي الختام، فإن القيمة الكبرى لـ"بؤس الفلسفة" تكمن في كونه ينقل الفلسفة من برجها العاجي إلى الشارع، إلى المصنع، إلى العلاقات اليومية بين البشر. إنه كتاب لا يكتفي بأن يقول "العالم ظالم"، بل يطرح السؤال: من يظلمه؟ ولماذا؟ وكيف يمكن تغييره؟ وهكذا، تتحول الفلسفة من خطاب عن البؤس، إلى وعي به، ثم إلى مشروع للخلاص منه. ومن هنا تبدأ الثورة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- Marx, Karl. The Poverty of Philosophy. Translated by Anwar Abdel-Malek. Progress Publishers, Moscow, 1981.
- Marx, Karl, and Engels, Friedrich. The Communist Manifesto. Translated by Sadiq Jalal Al-Azm. Dar Al-Haqiqa, Beirut, 1972.
- Althusser, Louis. For Marx. Translated by Said Benkrad. Dar Al-Tanweer, Beirut, 2006.
- Amin, Samir. The Political Economy of Marxism. National Center for Translation, Cairo, 2010.
- Gramsci, Antonio. Prison Notebooks. Translated by Bashir Al-Sibai. Dar Al-Farabi, Beirut, 2006.
- Al-Azm, Sadiq Jalal. In Defense of Materialism and History. Dar Al-Tali'a, Beirut, 1975.