بقلم: د. عدنان بوزان
مقدمة:
منذ أن خطّ الإنسان على جدران الكهوف أوّل رموزه، لم تكن المرأة مجرّد كائن بيولوجي في الوعي البشري، بل كانت رمزاً كونياً كثيف الدلالة، يتجاوز وجودها الفيزيائي ليحمل في طياته مفاهيم الخلق والموت، الطبيعة والعاطفة، الحكمة والفتنة، الفوضى والنظام.
لقد كانت الميثولوجيا، باعتبارها النصّ التأسيسي للثقافات القديمة، المرآة الأولى التي انعكس فيها فهم الشعوب لنفسها، وللكون، وللعلاقة مع المقدّس والمحرّم. وفي تلك النصوص المؤسسة، تظهر المرأة باعتبارها واحدة من أقدم الرموز وأكثرها إثارة للجدل والتأويل؛ فهي الإلهة الأم في الميثولوجيات الشرقية، وهي الجميلة الفاتنة في الأساطير الإغريقية، وهي الكاهنة العرافة في التقاليد الكلتية، وهي أيضاً الغاضبة، العابثة، الحاملة للخراب أو للشفاء.
إن تتبّع صورة المرأة في الميثولوجيات الشرقية والغربية لا يهدف فقط إلى قراءة الأساطير بوصفها حكايات قديمة، بل يتعدّى ذلك إلى تفكيك البنية الرمزية التي تأسّست عليها المجتمعات، وبيان كيف تمَّ استخدام تلك الصور لترسيخ أدوار محددة للمرأة، أو لإقصائها من أدوار أخرى.
فالميثولوجيا الشرقية، الغارقة في الروحانية والخصب، قدّمت المرأة في كثير من الأحيان بصفتها أصلاً للوجود، قوة خالقة، ومصدراً للمعرفة. أما الميثولوجيا الغربية، التي ارتكزت على ثنائية الخير والشر، العقل والجسد، فقد صوّرت المرأة أحياناً على أنها قوة فوضى، أو لعنة حتمية، كما في قصة باندورا التي فتحت الصندوق، أو ميدوزا التي تحوّل من ينظر إليها إلى حجر.
هذا البحث إذاً لا يُعنى فقط بالمقارنة بين رموز الأساطير، بل يتوغّل في البنية العميقة للثقافة، محاولاً أن يجيب على أسئلة جوهرية:
- لماذا قُدّست المرأة في حضارة، ولُعنت في أخرى؟
- ما الذي يجعل من الرحم رمزاً للخصوبة في الشرق، ورمزاً للخطيئة في الغرب؟
- هل كانت المرأة في الميثولوجيا ضحية الخيال الذكوري؟ أم أنها كانت القناة التي عَبَرَ منها المقدّس إلى الحياة؟
في ضوء هذه الأسئلة، يقوم هذا البحث على دراسة مقارنة شاملة بين الأساطير الشرقية والغربية، وتحليل رموز المرأة، وأنماط حضورها، وتحولاتها عبر الزمن، ساعياً إلى فهم كيف بُنيت صورة المرأة ثقافياً في المخيال الجمعي، وكيف ساهمت الميثولوجيا في تثبيت أو مقاومة هذه الصورة.
الفصل الأول: المدخل النظري والمنهجي
- تعريف الميثولوجيا ووظيفتها في تشكيل الوعي الجمعي والثقافة.
- أهمية حضور المرأة في الأساطير.
- المنهج المستخدم في البحث: مقارنة ثقافية-رمزية، تحليل سردي، أنثروبولوجي، أو نقدي.
(الميثولوجيا والمرأة بين الرمز والثقافة)
لا يمكن للباحث في تمثيلات المرأة في الميثولوجيا أن يبدأ من فراغ، فالسرد الأسطوري ليس مجرد حكاية عابرة، بل هو مرآة ميتافيزيقية تعكس تصوّرات الإنسان الأولى عن ذاته والكون، وتُشكّل الخريطة الرمزية التي تتوزّع فيها الأدوار والهويات والمعاني. والأسطورة، بوصفها لغة ما قبل الفلسفة، وقبل العلم، وقبل الدولة، تمثل أول محاولة للإنسان لتفسير ذاته وموقعه في الوجود، وتحديد علاقته مع الطبيعة، والآلهة، والمقدّس.
في هذا الإطار، تكتسب الميثولوجيا مركزية خاصة بوصفها البنية الأولى لتشكيل الوعي الجمعي، ولتأطير القيم الثقافية التي ستتحول لاحقاً إلى أنظمة دينية، أخلاقية، واجتماعية. ومن بين أبرز عناصر هذه البنية الرمزية، تحضر المرأة، لا كمجرد شخصية سردية، بل كرمز كوني كثيف، يتقاطع فيه الجسد بالميتافيزيقا، والغموض بالحقيقة، والرغبة بالسلطة.
فتمثيل المرأة في الأساطير ليس أمراً حيادياً، بل هو فعل ثقافي يتضمّن رؤى المجتمعات القديمة حول الأنوثة، والخلق، والحدود بين المقدّس والمدنّس. وهو تمثيل يعكس، كما سنبيّن في هذا الفصل، التوترات الداخلية في بنية الوعي الجمعي، والتقاطعات بين السلطة والرمز، وبين الخيال والمجتمع.
إن هذا الفصل يُعد بمثابة القاعدة النظرية والمنهجية التي سيُبنى عليها كامل البحث. ولذلك، سيتم فيه:
- تحديد مفهوم الميثولوجيا، ليس بوصفها خرافة، بل كنظام للمعنى.
- تحليل وظيفة الميثولوجيا في تشكيل الثقافة والهويات والأدوار الجندرية.
- استكشاف مكانة المرأة في البنية الميثولوجية بوصفها تمثيلاً ثقافياً يتجاوز الواقع ليعيد تشكيله.
- وأخيراً، عرض الإطار المنهجي الذي يقوم عليه البحث، سواء من حيث التحليل الرمزي والثقافي، أو من حيث أدوات المقارنة بين الشرق والغرب.
هذه المقدمة ليست مجرد تمهيد، بل هي دعوة لفهم أعمق لكيفية تَشَكُّل المعنى، وكيفية استخدام الرمز لتحديد دور المرأة، إما كإلهة خالقة، أو كخطر يجب السيطرة عليه.
فالميثولوجيا، في نهاية المطاف، ليست فقط ما ترويه الأسطورة، بل ما يخفيه المجتمع في رموزه.
أولاً: الميثولوجيا: المفهوم والوظيفة الثقافية
الميثولوجيا (Mythology) ليست مجرد خرافات قديمة ترويها الشعوب لأطفالها، كما يتوهم البعض، بل هي نظام رمزي معقّد يعكس البنية العميقة للثقافة والمجتمع واللاوعي الجمعي. إنَّ الميثولوجيا، في جوهرها، ليست علماً بالأساطير وحسب، بل نظام للمعنى، ورؤية كونية للعالم، تشكّلت عبر قرون من التراكم الرمزي، والتفاعل بين الإنسان والكون، بين العقل والخيال، بين الواقع والميتافيزيقا.
الميثولوجيا هي اللغة الأولى التي حاول بها الإنسان أن يفهم وجوده. قبل أن يوجد العلم والفلسفة، كان الميث رمزاً لكلّ ما لم يُفهم بعد. كانت الأسطورة تحاول الإجابة على أسئلة الوجود الكبرى:
- من نحن؟
- من أين جئنا؟
- ما الموت؟
- ما الحب؟
- ما العدل؟
- من يصنع المطر؟ ولماذا يحترق البرق في السماء؟
من هذا المنطلق، فإن وظيفة الميثولوجيا لا تقتصر على التفسير، بل تمتد إلى تشكيل الهوية الثقافية، وتثبيت القيم، وشرعنة السلطة، وترميز العلاقات بين الجنسين، ونقل صورة الإنسان عن نفسه. كل أسطورة هي مرآة لمجتمعها، تفضح بنيته العميقة: سلطته، دينه، جنسه، طبقاته، أحلامه، وصراعاته.
كما أن الميثولوجيا تُعدّ من أبرز الأدوات التي ساهمت في إنتاج وتدوين الوعي الجمعي، وخلق نظام رمزي يُنظّم العلاقة بين البشر والعالم، ويمنح للمقدّس شكلاً يمكن التعامل معه.
ثانياً: المرأة في الأسطورة: من الرحم الكوني إلى صورة الفوضى
إن المرأة في الميثولوجيا ليست حضوراً عارضاً، بل هي أحد أقدم الرموز وأكثرها كثافة في المعنى. لقد ارتبطت المرأة منذ فجر الميثولوجيا بـ"الخلق"، "الخصوبة"، "الماء"، "الأرض"، "القمر"، "العاطفة"، و"الغموض". ولذا لم يكن من الغريب أن تكون أولى الآلهة في أغلب الميثولوجيات القديمة، وليس الآلهة الذكور.
في حضارات الشرق القديم، كانت المرأة مرادفاً للرحم الكوني، وكانت الإلهة الأم هي الخالقة الأولى، المانحة للحياة، والعائدة دوماً من الموت.
- في سومر وبابل: "إنانا" و"عشتار" كانت رموزاً للحب والحرب والخصب.
- في مصر: "إيزيس" كانت حامية الأسرار، والأم الكونية التي تبكي النيل كل عام.
- في إيران القديمة: "أناهيتا" كانت سيدة الماء والطهارة.
لكن الميثولوجيا لم تقدّم المرأة فقط بصورتها الخلاقة؛ بل ظهرت أيضاً بصورتها المخيفة، المغوية، المدمّرة. ففي تقلبات التصورات الدينية والاجتماعية، تبدّلت صورة المرأة بين المقدّس والمدنّس، بين الخالقة والمغوية، بين العار والجمال. ظهرت في الغرب بوصفها فتنة تُغوي الإله والرجل على السواء:
- "باندورا" التي فتحت صندوق الشر.
- "ميدوزا" التي تحوّل الرجال إلى حجارة.
- "ليليث" التي تمرّدت على آدم وخرجت من الجنة.
وهكذا، فإن حضور المرأة في الميثولوجيا لم يكن مجرّد انعكاس للواقع، بل كان إنتاجاً رمزياً يعكس موقع المرأة في البناء الثقافي والنفسي والسياسي للمجتمعات. وكل صورة أسطورية للمرأة كانت تؤسس لمكانتها في المجتمع، وتعيد إنتاج أدوارها في السياسة والدين والجنس والأسرة.
ثالثاً: المنهج المستخدم في البحث
نظراً لطبيعة هذا البحث المعقّدة، والذي يتناول رمزاً ثقافياً واسع التأويل مثل "المرأة" في سياقين حضاريين متباينين – الشرق والغرب – فإن المنهج المتبع في هذا البحث هو منهج تحليلي مقارن متعدّد الأدوات، يجمع بين ثلاثة مستويات أساسية:
- المنهج الثقافي-الرمزي (Symbolic-Cultural)
ينطلق هذا المنهج من فكرة أن الأسطورة ليست مجرد قصة، بل رمز ثقافي يكشف عن أعماق المجتمع الذي أنتجها. وبالتالي، تتم قراءة رموز المرأة بوصفها تمثيلات ثقافية تعبّر عن تصورات المجتمع عن الأنوثة، الطبيعة، السلطة، والخطر. يتم تحليل رموز مثل: الأم، الساحرة، العذراء، المغوية، الإلهة... وما تحمله من دلالات عبر الزمن.
- المنهج التحليلي السردي (Narrative Analysis)
ويُستخدم لتحليل بنية الأسطورة، وأدوار الشخصيات النسائية داخل القصة:
- ما موقع المرأة في الحكاية؟
- هل هي فاعلة أم مفعول بها؟
- هل هي المركز أم الهامش؟
- هل تُمنح صوتاً ورغبة، أم تكون مجرد أداة للقدر أو رغبة الرجل؟
- المنهج الأنثروبولوجي الثقافي (Cultural Anthropology)
يعتمد هذا المنهج على ربط الرموز الميثولوجية بالبنية الاجتماعية والدينية والتاريخية، أي: لا تُقرأ الأسطورة بمعزل عن البيئة التي نشأت فيها. فصورة المرأة في حضارة زراعية مثلاً، تختلف عن صورتها في حضارة حربية، كما تختلف في المجتمعات الأبوية عن المجتمعات الأمومية.
- المنهج النقدي النسوي (Feminist Critique) (ضمنياً)
يُستأنس بهذا المنهج في تحليل كيف تم تمثيل المرأة في الأسطورة، وهل كانت هذه التمثيلات تعكس سلطة ذكورية تحاول السيطرة على "الأنوثة" بوصفها رمزاً للغموض والتهديد؟ أم أن المرأة كانت فاعلة ومنتجة للأسطورة؟ يتم طرح هذه التساؤلات دون الوقوع في التبسيط أو النزعة الإيديولوجية.
خلاصة، ليست الميثولوجيا مجرد أرشيف من الأساطير القديمة، نُركن إليه في متاحف اللغة أو نقرأه كأدب عتيق فاقد للحياة؛ بل هي خريطة رمزية معقّدة لتكوين الإنسان الثقافي والمعرفي، ومختبر وجودي ابتدائي صنع فيه الإنسان، عبر الرموز، معنىً مؤقتاً لحياته، وبنى من خلالها صورته الأولى عن نفسه، عن العالم، عن الغيب، وعن الآخر. وإذا كانت كل ميثولوجيا هي سردية كونية تُؤسس لفهم ما حول الإنسان، فإن المرأة في قلب هذه السردية، لا كشخصية سردية عابرة، بل كمفتاح تأويلي لفهم جوهر الوجود الثقافي نفسه.
فالمرأة لم تكن مجرّد موضوع داخل الأسطورة، بل كانت تمثيلاً رمزياً كثيفاً، اختزل عبره الإنسان القديم توتراته الوجودية، وشفراته الأخلاقية، ومخاوفه من الخلق والفناء، من الجسد والروح، من اللذة والخطيئة، من الخصوبة والدمار. في الرحم الأنثوي، رأى الإنسان أول صورة للخلق؛ وفي الجسد الأنثوي، رأى الغموض والإغواء؛ وفي صمت المرأة، رأى الأسرار المقدّسة؛ وفي تمردها، خشي انكسار النظام الكوني.
ومن هنا، فإن صورة المرأة في الميثولوجيا ليست مرآة صافية للواقع، بل هي نتاج صراع رمزي طويل بين الرغبة والخوف، بين الحاجة إلى الخصوبة والسيطرة على الفوضى، بين تمجيد الأنوثة كقوة كونية، وتهميشها كتهديد غامض. لقد كانت المرأة تمثّل ما لا يمكن السيطرة عليه تماماً، ما يفلت من قبضة النظام الذكوري، منطقاً وجسداً وروحاً.
إن دراسة المرأة في الميثولوجيا هي، في الجوهر، تفكيك للبنية الأولى للوعي البشري عن الآخر والذات، عن السلطة والرغبة، عن المقدّس والمحرّم. ولذلك، فإن هذا البحث لا يسعى إلى توثيق صور المرأة فحسب، بل إلى فهم البنية الثقافية التي أنتجتها، والسياقات الاجتماعية التي أعادت إنتاجها، والوظائف الرمزية التي جعلت منها إما إلهة تُعبد أو كائنة تُدان.
في النهاية، لا يمكن فهم الأسطورة دون قراءة رموزها، ولا يمكن قراءة رموزها دون التوقّف طويلاً عند صورة المرأة فيها. فهناك، في قلب الميث، تنبض المرأة ككائن رمزي يؤسّس للوجود ويتحدّاه، يحمل الحياة والموت في رحم واحد، ويجسّد وحده الصراع الأبدي بين الإنسان وظله.
إن هذا البحث، إذ ينطلق من خلفية منهجية موسعة، يسعى إلى فهم تمثيلات المرأة في الميثولوجيا، لا بوصفها انعكاساً بسيطاً للواقع، بل باعتبارها بنية رمزية شكلت هذا الواقع نفسه. وسيقوم هذا البحث بتفكيك هذه الرموز، ومقارنتها بين الشرق والغرب، للوصول إلى فهم أعمق للعلاقة بين المرأة والرمز، بين الأسطورة والسلطة، بين الميثولوجيا والثقافة.
الفصل الثاني: المرأة في الميثولوجيا الشرقية
- الميثولوجيا السومرية – البابلية – الآشورية – الكنعانية – المصرية – الفارسية – الهندية – الكوردية:
- الإلهات الأم (عشتار/إنانا، إيزيس، أناهيتا…).
- دور المرأة كرمز للخصب، الطبيعة، الحياة، والموت.
- المرأة الساحرة، العرافة، الكاهنة، المتمردة.
- الثنائيات: المرأة كرمز مقدّس/مدنس، خيّر/شرير (مثلاً: ليليث أو تيامات).
- المرأة بوصفها حلقة بين الإنسان والآلهة.
(الأنثى بوصفها أصلاً كونياً ومحرّكاً للوجود)
إن النظر إلى صورة المرأة في الميثولوجيا الشرقية لا يُمكن أن يتم خارج الإطار الحضاري والميتافيزيقي العميق الذي أنتج هذه الصورة، فالميثولوجيا الشرقية، بخلاف الكثير من التقاليد الغربية اللاحقة، لم تكن تفصل بين المادة والروح، ولا بين الأنثى والكون. بل كانت الأنثى في لبّ التكوين الكوني، بوصفها رحماً للوجود، وأصلاً للخلق، ومجلىً من مجالي القوى الكونية الكبرى.
في هذه الميثولوجيات، لم تكن المرأة مجرد كائن بيولوجي أو دور اجتماعي، بل كانت بنية رمزية متكاملة تمثل مفاهيم مثل: الأرض، الخصب، الطبيعة، الزمن الدوري، والعالم السفلي. كانت صورة المرأة متداخلة مع صورة الإلهة، ومع مفهوم الحياة نفسه. بل نستطيع القول بأن الإنسان الشرقي القديم لم يتصوّر الحياة إلا عبر صورة الأنثى، سواء ظهرت في شكل الأم الكبرى، أو في شكل العشيقة المقدّسة، أو في هيئة الساحرة الحكيمة، أو في ثنائية الحياة والموت.
الميثولوجيا الشرقية – السومرية، البابلية، الآشورية، الكنعانية، المصرية، الفارسية، الهندية، الكوردية – تزخر بصور لنساءٍ يخلقن، ويحكمن، ويتمرّدن، ويبعثن الحياة في الحقول والمياه والنجوم. لم تكن هذه الشخصيات الرمزية مجرد إضافات زخرفية إلى متن الأسطورة، بل كانت هي النص الأصلي الذي تُفكك عبره مفاهيم السلطة، والعلاقة مع الطبيعة، ومع الإله، ومع الذكر.
فعندما ظهرت الإلهة إنانا في سومر، لم تكن فقط إلهة للحب والحرب، بل كانت التجسيد الأنثوي للتناقض الكوني: هي الحياة والموت، العطاء والدمار، الجمال والغضب، المقدّس والمدنّس. وعندما بكت إيزيس في مصر، سال النيل، وامتلأت الأرض خصباً. وعندما هبطت عشتار إلى العالم السفلي، تعطّلت قوانين الحياة، وتوقفت الولادات، وأغلقت أبواب الحب.
كل هذه الصور ليست مجرّد حكايات، بل هي شفرات رمزية لما كانت تمثّله المرأة في المخيال الشرقي: القوة الناعمة والصامتة التي تحرك الوجود دون أن تتصدره، المصدر الخفي للخلق والخلود، والمهد الكوني الذي تنبثق منه الحياة، لكنها أيضاً قادرة على سلبها.
ومن الملفت أن المرأة في هذه الأساطير الشرقية غالباً ما تكون فاعلة، مبادرة، ممتلئة بالرغبة والإرادة والمكر، وليست مفعولاً به فقط كما هو الحال في كثير من التقاليد الغربية. فهي التي تعشق وتخون وتبكي وتنتقم وتبعث، دون أن تفقد مكانتها المقدّسة. وهذا الحضور المتكامل للمرأة في الميثولوجيا الشرقية يعكس نظرة كونية غير منفصمة، حيث لا يوجد صراع ثنائي حاد بين العقل والجسد، بين الخير والشر، بين الرجل والمرأة، بل هناك وحدة عضوية دائرية تحتضن المتناقضات جميعاً في رحمها الأنثوي.
إن هذا الفصل سيأخذنا في رحلة عبر أبرز الأساطير الشرقية التي حضرت فيها المرأة ليس بوصفها موضوعاً للحكي، بل باعتبارها الحكي نفسه، والرمز الذي ينبض خلف كل سرد. سنبدأ من الإلهات الأم في سومر وبابل، مروراً بعشتار وإيزيس وأناهيتا، وصولاً إلى المرأة في الميثولوجيا الهندية والكوردية، حيث تتجلّى صور الأنثى في كل مظهر من مظاهر الطبيعة والقدر. وسنتوقّف عند لحظات التحوّل، حيث بدأ التراجع التدريجي لمكانة المرأة في الميثولوجيا مع بروز النزعة الذكورية، وتحول الآلهة إلى آلهة رجال، والإلهات إلى حبيبات أو زوجات أو ظلٍّ تابع.
لكن رغم هذا التراجع، فإن الأنثى الشرقية لم تختفِ من الأسطورة، بل لبست أقنعة جديدة، وأخذت تتحوّل من صورة الإلهة إلى صورة الساحرة، أو العرافة، أو المخلّصة، أو الشهيدة. وهو ما يجعل حضور المرأة في الميثولوجيا الشرقية ليس فقط حضوراً مقدّساً، بل أيضاً حضوراً مقاوِماً للزمن والنسيان والذكورة المطلقة.
وعليه، فإن هذا الفصل لن يقتصر على تحليل رموز المرأة فحسب، بل سيسعى إلى الكشف عن المنطق الثقافي والديني والرمزي الذي منح للمرأة هذه المركزية الميثولوجية، ولماذا تراجعت لاحقاً، وكيف ظلّت حاضرة – وإن بطرق خفية – في عمق المخيال الشرقي.
1)- المرأة في الميثولوجيات الشرقية القديمة: بين الإلهة والرمز الكوني
تتفق معظم الميثولوجيات الشرقية القديمة على مبدأ رمزي محوري: الأنثى ليست مجرد حضور بيولوجي، بل كينونة كونية، ومركز رمزي للخلق والتجدد. في هذه الأساطير، لم تكن المرأة ثانوية أو تبعية، بل كانت الفاعل الأسطوري الأول، هي من يبدأ الحكاية، ويقود المصير، ويجسّد الوحدة الكونية بين الحياة والموت، بين الزمن والدورة، بين الطبيعة والروح. وتُجسَّد هذه المعاني من خلال طيف واسع من الرموز، أبرزها:
✦ 1. الإلهيات الأم: الأنوثة كأصل كوني
▫ عشتار / إنانا (الميثولوجيا السومرية – البابلية):
إنانا، ثم لاحقًا عشتار، تُعدّ من أقدم رموز الأنوثة الإلهية في تاريخ البشرية. كانت إلهة الحب، والخصوبة، والحرب، والسماء، والجنس، والموت. هذا التناقض الظاهري بين الحب والدمار، الجنس والحرب، يكشف عن الطبيعة المزدوجة للمرأة في الميثولوجيا الشرقية: فهي الخالقة والمُميتة في آن، العاشقة والمُقاتلة، الحامية والمنتقمة.
في أسطورة نزولها إلى العالم السفلي، تتجرد إنانا من ملابسها، من سلطتها، وتواجه الموت ثم تعود. هذه الأسطورة ترمز إلى الدورة الكونية للحياة والموت والبعث، وتُرسّخ الأنثى ككيان يدير الزمن نفسه.
▫ إيزيس (الميثولوجيا المصرية):
إيزيس هي الإلهة التي جمعت أشلاء زوجها المقتول أوزيريس، ونفخت فيه الحياة، وأنجبت حورس الذي سيأخذ بثأر أبيه. تُجسد إيزيس الأم الكونية، السحر، الوفاء، الحماية، والمعرفة السرّية. هي إلهة تجمع بين القوة والرحمة، بين العقل والغيب، بين الحب والفداء.
وفي مصر القديمة، ارتبطت إيزيس بالماء، بالدموع، بالقمر، وبالخصوبة النيلية، فأصبحت رمزاً للمرأة القادرة على إعادة النظام الكوني من الفوضى، من خلال الحب، والتضحية، والسحر.
▫ أناهيتا (الميثولوجيا الفارسية – الزرادشتية):
هي سيدة المياه والطهارة والخصوبة، إلهة النهر والشفاء. كانت تُعبد على أنها مصدر الحياة النقية، وكانت تقترن بالقمر والنجوم، وترتبط بدورة القمر الأنثوية. وهي بذلك تجسّد المرأة بوصفها مصدر النقاء والخلق والانبعاث، لكنها تحمل أيضاً وجهاً حربياً، فهي تحمي وتقاتل من أجل الحق والخير.
▫ المرأة الإلهة في الميثولوجيا الهندية:
في الفكر الهندوسي، نجد تمثيلات متعددة للأنثى الإلهية، لكنها كلها تنتمي لما يُعرف بـ "شاكتي": الطاقة الكونية الأنثوية التي تحرّك الوجود.
- لاكشمي: إلهة الجمال والثروة والازدهار.
- بارفاتي: إلهة الأمومة والعاطفة.
- دورغا وكالي: تمثّلان الجانب المُدمّر والقادر على سحق الشر، رمز المرأة المحاربة.
هذه الصور تقدم الأنوثة كقوة لا نهائية، تحمل الرحمة والهلاك معاً، وتُحافظ على النظام الكوني من خلال الفوضى الخلّاقة.
▫ المرأة الإلهية في الميثولوجيا الكوردية:
الأساطير الكوردية وإن لم تُدوّن على نطاق واسع، إلا أن شخوصاً مثل خانيه خاتون، بيريفان، زين، وخانزاد تحمل رموزاً للمرأة المقدسة، الحكيمة، المعشوقة النورانية. أما كاوا الحداد، فرغم أنه رمز الثورة، فإن الأسطورة تنسب فضل انتصاره إلى الأم المكلومة التي أطعمت أطفالها بدمعها وصبرها، رمزاً للمرأة المقاومة، الحاملة للوجع والميلاد.
✦ 2. المرأة كرمز للخصب، الطبيعة، الحياة، والموت
في الميثولوجيا الشرقية، كانت الأرض أنثى، النهر أنثى، القمر أنثى، الليل أنثى، لأن كل ما يحتوي، ويغذّي، ويتحوّل، ويمنح الحياة... كان في الأصل أنثوياً.
- في سومر، كانت الأرض تُسمى "نينهورساج" – سيدة الجبل، الأم الخالقة.
- في كنعان، "عناة" كانت تحكم على دورة المحاصيل، وتُعيد الحياة للأرض.
- في مصر، "نوت" إلهة السماء، تبتلع الشمس كل مساء وتلدها كل صباح.
هنا ترتبط الأنوثة بدورة الطبيعة، فهي لا تُفصل عن الزمن، بل تُعاش كجزء منه. فالمرأة هي الفجر والمطر والدمع والموت والميلاد، في آنٍ واحد.
✦ 3. المرأة الساحرة، العرافة، الكاهنة، المتمرّدة
المرأة لم تكن دائماً إلهة سامية؛ بل أحياناً ظهرت في صورة الكاهنة العارفة بالخفاء، أو العرافة الغامضة، أو الساحرة المتمرّدة على قوانين الذكور والآلهة معاً.
- إنانا تُخدع الآلهة وتغوي الرجال والملوك، وتمتلك تعاويذ وأسراراً لا يعرفها غيرها.
- ليليث في أساطير ما بين النهرين، رفضت أن تكون تابعة لآدم، فتمردت عليه، وغادرت الجنة.
- كالي الهندوسية، إلهة الجسد الأسود، تقتل وترقص فوق الجثث، لكنها في جوهرها تحرر الإنسان من أوهام الأنا.
هذه الصور لا تقلل من قيمة المرأة، بل تكشف أنها تمثّل الحدود المهددة للمجتمع الذكوري. هي من تفتح بوابات الغيب، من تخترق الزمن، وتستدعي القوى الخفية. إنها حلقة الاتصال بين الإنسان والمجهول، بين العالم الأرضي والعالم العلوي والسفلي.
✦ 4. الثنائيات: المقدّس والمدنّس، الخير والشر
الميثولوجيا الشرقية، رغم تقديسها للمرأة، لم تخلُ من تناقضات حادة. ظهرت المرأة في ثنائية الآلهة والشيطان، الحب والفتنة، النور والظلام.
- تيامات (الميث البابيلي): إلهة البحر الأولى، تُمثل الفوضى الأم الأولى، قتلتها الآلهة الذكورية لتأسيس النظام. قتلوها ليبنوا من جسدها السماء والأرض، رمزاً لتحوّل المرأة من كيان كوني إلى مادة.
- ليليث: رمز المرأة المتمرّدة، تحوّلت من حبيبة إلى شيطانة، لأنها رفضت الخضوع.
هذه الثنائيات لم تكن فقط تعبيراً عن صراع الخير والشر، بل صراع المجتمع مع الأنوثة نفسها، خوفه من استقلالها، من معرفتها، من قدرتها على الخلق خارج النظام الذكوري.
✦ 5. المرأة كحلقة بين الإنسان والآلهة
في معظم الميثولوجيات الشرقية، المرأة كانت الوسيط بين الإنسان والماوراء.
هي من تحرس الأسرار، من تلد الأنبياء، من تنقل الرؤى، من تتلقى الإلهام.
- الكاهنات في بابل كنّ يتحدثن باسم الآلهة.
- في مصر، كانت النساء يخدمن في المعابد ويتلقين النبوءات.
- في الهند، تُجسّد شيفا عبر اتحاد طاقته الذكرية مع "شاكتي" الأنثوية.
الأنوثة ليست مجرد طاقة خالقة، بل وعاء للحكمة الخفية، للرؤية الداخلية، لبوابة العبور بين الحسي والروحي.
✦ خلاصة:
تكشف الميثولوجيات الشرقية عن أن المرأة لم تكن هامشاً في السرد، بل هي السرد نفسه.
ظهرت مرة كإلهة، مرة كأرض، مرة كدمعة، مرة كحرب.
وفي كل مرة، كانت تحتفظ بجوهرها الرمزي:
أنها الخلق الذي يحمل الموت، والنور الذي يخفي الظل، والحب الذي يولّد العالم.
إن المرأة في هذه الميثولوجيات هي الكون عندما يتجسّد بصورة بشرية. ولذلك، فإن كل قراءة للأسطورة دون التوقف عند المرأة، هي قراءة مبتورة. فالأنثى ليست في الأسطورة، بل الأسطورة كامنة فيها.
وهكذا، فإن حضور المرأة في الميثولوجيا الشرقية لم يكن مجرّد إسقاط ثقافي أو إسطرة لواقع اجتماعي، بل كان تجسيداً لفلسفة كونية عتيقة، ترى في الأنثى بنية للمعنى، لا مجرد رمز. لم تكن المرأة تُعبّر فقط عن دور بيولوجي أو اجتماعي، بل كانت تمثيلاً لروح الوجود نفسه، لأنها وحدها كانت تجمع بين المتناقضات: فهي نهرٌ يتدفّق ولا يُروى، وهي رحمٌ ينزف ليُعطي الحياة، وهي صمتٌ ينطق بالنبؤات، وهي جسدٌ لا يُفسَّر إلا بالغموض.
إن هذه الميثولوجيات لم تمنح المرأة القداسة فقط لأنها تلد، بل لأنها تُعيد تشكيل العالم كل مرة من رماده، ولأنها تعرف ما لا يُقال، وتحسّ ما لا يُرى، وتفتح أبواباً للمعرفة والبعث لا يجرؤ الرجل على الاقتراب منها. المرأة، في الميثولوجيا الشرقية، لم تكن فقط نقطة البداية، بل كانت الزمن نفسه، تدور كما القمر، وتبعث كما الربيع، وتغيب كما الغسق، وتعود كما الفجر.
من هنا نفهم أن الميثولوجيا الشرقية، رغم ظهور الطابع الأبوي لاحقاً، لم تستطع محو الأثر العميق للأنثى، بل ظلّت تُعيد إنتاجه بأقنعة جديدة، مرة كأم باكية، ومرة كعاشقة منتظِرة، ومرة كعرافة تنبّئ بالخراب. ولذلك فإن تحليل صورة المرأة في هذه الأساطير هو تفكيك لبنية السلطة والمعرفة والهوية في الشرق القديم، ودراسة لجوهر نظرة الإنسان إلى "المقدّس الحي" الذي كان دوماً أنثى.
لقد كانت المرأة في الميثولوجيا الشرقية أكثر من شخصية أسطورية، كانت مرآةً تعكس نظرة الإنسان إلى الكون، لكنها أيضاً كانت الكون حين ينظر إلى الإنسان عبر وجهٍ أنثوي. لم تكن الكلمة الأولى في النص فقط، بل كانت اللغة التي كُتب بها النص؛ كل خصبٍ في الحقول، وكل مطرٍ في السماء، وكل انبعاث من الرماد، كان يُنسب إليها، لا لأنها مجرد رمز، بل لأنها كانت الحياة وقد تَجسَّدت بأسطورة.
الفصل الثالث: المرأة في الميثولوجيا الغربية
- الميثولوجيا الإغريقية – الرومانية – الإسكندنافية – السلتيّة:
- إلهات الأولمب: أثينا، هيرا، أفروديت، أرتيميس.
- المرأة في الأوديسة والإلياذة: بين الوفاء والمكر.
- رمزية المرأة في الأساطير الإسكندنافية: فريغا، هيل، والنساء المحاربات.
- المرأة الفاتنة / المغوية / القدرية (مثل ميدوزا، سيرسي، باندورا).
- النساء بوصفهن أدوات غضب أو هبة للآلهة.
(بين غواية الأنوثة وخطيئة المعرفة)
إذا كانت المرأة في الميثولوجيا الشرقية قد مثّلت مركزاً كونياً، تجسّدت فيه الأرض والماء والخصب والزمن، فإن حضورها في الميثولوجيا الغربية، رغم عمقه الرمزي، جاء مختلفاً من حيث البناء والدلالة. فقد تموضع تمثيل المرأة الغربي في بنية سردية قائمة على التوتر بين الخلق والخطيئة، بين الجمال والدمار، بين الجسد والذهن، وبين الرغبة والعقاب. لم تكن المرأة في الغرب مركزاً دائماً للحياة، بل كانت في كثير من الأحيان نقطة الانكسار، اللحظة التي تنفجر فيها الفوضى، أو تنفتح فيها أبواب اللعنة.
الميثولوجيا الغربية – الإغريقية، الرومانية، الإسكندنافية، واليهودية-المسيحية – تتميّز ببنية ثنائية حادة، غالباً ما تُحمّل المرأة نتائج الكارثة الأولى، أو تجعل منها العامل المحرّك لتدهور النظام الكوني أو الأخلاقي. فبينما كانت المرأة في الشرق تمثّل الأرض الخصبة والماء المتجدد، نجدها في الغرب صندوقاً مغلقاً على الشر، أو كائناً أغوى الإله أو أغوى الإنسان فاستحقّ العقوبة.
في الأساطير الإغريقية، سنجد المرأة مرتبطة بجمالها الآسر الذي يقود إلى الدمار، أو بحكمتها التي تتحوّل إلى مكر، أو بجسدها الذي يُغري ويُفسد ويُعاقَب. وبينما تنتج هذه الأساطير شخصيات أنثوية قوية، كأثينا وأرتميس، فإنها في المقابل تحمّل نساءً أخريات مسؤولية الخراب:
- "باندورا" التي فتحت الصندوق.
- "هيلين" التي أشعلت حرب طروادة.
- "ميدوزا" التي أصبحت رمزاً للمرأة التي يجب قتلها كي يُستعاد النظام.
- "أفروديت" التي مثّلت إلهة الحب ولكنها رُبطت بالخداع والفتنة.
أما في التقاليد الدينية الغربية، فقد ظهرت المرأة منذ البداية كمنبع للخطيئة:
- "حواء" التي أكلت من الشجرة وفتحت أبواب السقوط.
- "ليليث" التي تمرّدت على آدم ورفضت الخضوع، فصار يُنظر إليها في التقليد اليهودي كشيطانة، لا كامرأة حرة.
هذه الصور لا تعبّر فقط عن خيال ديني أو شعري، بل تنبع من بنية ثقافية تميّز بين العقل (الذكر) والجسد (الأنثى)، وتُحمّل المرأة عبء الفوضى الطبيعية، وتجعلها "الآخر" الذي يجب السيطرة عليه لضمان استمرار النظام الأخلاقي أو الديني أو السياسي.
في هذا الفصل، سنتناول تمثيلات المرأة في الميثولوجيا الغربية من عدة زوايا:
- كيف صُوّرت المرأة كرمز للخطر المقنّع بالجمال؟
- كيف تمَّ اختزالها في الجسد، أو تحويلها إلى كائن يستحق الخوف أو الاحتقار؟
- في المقابل، كيف ظهرت في صور الإلهة، الكاهنة، أو الفارسة، بشكل يُظهر مقاومة رمزية لهذه البنية الذكورية؟
- وكيف يمكن فهم هذه الصور في ضوء التوتر العميق بين الروح والجسد، وبين المعرفة والخطيئة؟
ستقودنا هذه الأسئلة إلى قراءة نقدية للرموز الأنثوية في الأساطير الإغريقية والرومانية، ومن ثم إلى تحليل سردية المرأة في الديانات التوحيدية الغربية، مع التوقف عند الثنائيات التي شكّلت صورة المرأة:
- المقدسة/المدنسة،
- العذراء/المغوية،
- الحكيمة/الساحرة،
- الطاهرة/الخاطئة.
إن هذا الفصل لا يهدف إلى سرد الأساطير، بل إلى تفكيك البناء الرمزي الذي أنتج صورة المرأة الغربية، ولماذا تحوّلت من إلهة إلى شيطانة، من عرافة إلى ساحرة تُحرق، من حبيبة إلى لعنة أبدية.
بهذا، نكون قد انتقلنا من الأسطورة الشرقية التي تحتفي بالأنوثة كسرّ كوني، إلى الأسطورة الغربية التي تضع الأنوثة تحت الشك، وتربطها بالفتنة والخطيئة والموت. ولكن، كما سنرى، فإن هذه الميثولوجيات، رغم بنيتها الأبوية، تخبئ في طياتها تمرداً أنثوياً خفياً، يُطل من بين السطور، ويكشف أن المرأة كانت، رغم كل شيء، الحكاية الأولى والأخيرة في كل أسطورة.
- المرأة كرمز للخطر المقنّع بالجمال: الفتنة كأداة دمار
في قلب الميثولوجيا الغربية تسكن فكرة مقلقة: أن الجمال الأنثوي ليس مجرد نعمة، بل أداة خطر، ووسيلة إغواء تُقوّض النظام. هذا الجمال لا يُنظر إليه كقيمة إيجابية، بل كقوة مدمّرة تتخفّى وراء المظهر اللطيف. هذه الفكرة تظهر في عشرات الأساطير، حيث تكون المرأة الجميلة هي سبب اللعنة أو الحرب أو الخراب:
- هيلين في الإلياذة تُصبح «الوجه الذي أطلق ألف سفينة» – أي أن جمالها أشعل حرباً دموية.
- باندورا، المرأة الأولى، صُنعت خصيصاً لتكون جميلة، ولكنها كانت فخّاً مغرياً يحمل الشر في داخله.
- سيرسي وميدوزا، من ناحية أخرى، كانتا مظهراً لجمالٍ فائق، لكن نتائجه قاتلة.
هذه الشخصيات تمثّل جميعاً ما يمكن تسميته بـ "الخطر الجميل": المرأة لا تُهاجم مباشرة، بل تُغوي، تخدع، وتُسقط الرجل، لا بالسيف، بل بالنظرة.
هي ليست خصماً في ساحة المعركة، بل ثغرة في درع البطل. وهكذا، يصبح الجمال الأنثوي في الميثولوجيا الغربية تجسيداً رمزياً للخطيئة الأصلية، للضعف الكامن في الطبيعة البشرية، وللموت المغلف بالعسل.
- اختزال المرأة في الجسد أو تحويلها إلى كائن يُخاف منه أو يُحتقر
في معظم الأساطير الغربية، نادراً ما تُقدَّم المرأة كعقل أو روح مستقلة، بل غالباً ما يتم تقليصها إلى جسد – موضوع للرغبة، أو مصدر للغواية، أو وعاء للنسل. هذا الاختزال يتكرر بصور متعددة:
- تُقدَّم النساء كجوائز في نهاية الحروب أو المغامرات، لا كأبطال.
- يُغتصبن من قِبل الآلهة (زيوس مثالاً صارخاً)، ثم يُعاقَبن هنّ، لا الجناة.
- تُحوّل المرأة التي تتمرد على دورها إلى شيطانة (ميدوزا، ليليث)، أو تُدان لأنوثتها (كما في باندورا، التي لم ترتكب جرماً سوى الفضول).
كما أن صورة المرأة في التقاليد الدينية الغربية (اليهودية والمسيحية) تظهر مرتبطة بالخطيئة والمعصية: حواء هي من أكلت التفاحة، ليُطرد البشر من الجنة، وتُلقى اللعنة على الجنس كله.
المرأة، في هذا الإطار، تصبح حاملة للذنب الأصلي، ومصدر الفساد الأخلاقي، ولذلك يُنظر إليها ككائن يجب السيطرة عليه، أو إخضاعه، أو إخراجه من الحيز العام.
وهكذا، تتكوّن صورة مزدوجة:
- من جهة، جسد مرغوب.
- من جهة أخرى، جسد مُدان.
وفي الحالتين، لا مكان للمرأة كفكر أو كذات.
- المرأة كإلهة، كاهنة، أو فارسة: المقاومة الرمزية للنظام الذكوري
رغم كل هذا التقييد، لم تخلُ الميثولوجيا الغربية من صور أنثوية ذات قوة روحية أو رمزية، تعبّر عن مقاومة عميقة لبنية الخضوع. ومن أبرز تلك الصور:
▫ الإلهات الحكيمات أو المستقلات:
- أثينا، رغم ولادتها الذكورية (من رأس زيوس)، كانت تجسيداً للذكاء والخطة.
- أرتميس، بإصرارها على العذرية والاستقلال، اختارت العيش على هامش النظام الذكوري.
- كاليبسو وسيرسي، الساحرتان في الأوديسة، تمتلكان القدرة على السيطرة، المعرفة، إعادة التكوين، ويخضع لهما الأبطال.
▫ الكاهنات والعرافات:
- في بعض التقاليد، المرأة وحدها هي من يمتلك قدرة التنبؤ، وقراءة المستقبل.
- الكاهنة تتصل بالآلهة، وتُفسّر الإشارات، مما يجعلها وسيطة بين الإنسان والمقدّس، أي حاملة للمعنى والمعرفة.
▫ الفالكيريات الإسكندنافيات:
نساء لا يُغوين، بل يُقاتلن، ويقررن من يموت ومن يخلد. لسن موضوعاً للرغبة، بل حكماً على الحرب والمصير.
هذه الصور، رغم أنها لم تَسُد الخطاب الأسطوري، إلا أنها تشكّل طبقة رمزية مضادة، تعيد تعريف الأنوثة كقوة مستقلة، لا كأداة.
بل يمكن القول إنها ذاكرة قديمة من الميثولوجيا الأمومية الشرقية، تحاول البقاء داخل سردٍ ذكوري صريح.
- المرأة بين الروح والجسد، بين المعرفة والخطيئة
تقوم الأسطورة الغربية على ثنائية قاتلة: الروح مقابل الجسد، والعقل مقابل الرغبة، والطهر مقابل الغواية. وغالباً ما تُوضَع المرأة في طرف الجسد والرغبة والخطيئة، بينما يُنسب للرجل الروح والعقل والفضيلة. هذه البنية تُحوّل المرأة إلى مرآة لصراعات المجتمع نفسه مع الجسد والمعرفة والسلطة.
- المعرفة التي اكتسبتها حواء (أو باندورا) كانت سبباً في الطرد من الجنة.
- الجسد الجميل كان مدخل الهلاك (هيلين، سيرسي، أفروديت).
- والرغبة دائماً تُقرن بالخطيئة، لا بالحب أو الحياة.
وهكذا، تصبح المرأة رمزًا للحدود:
- الحدّ بين الجنة والأرض.
- الحدّ بين البراءة والسقوط.
- الحدّ بين الإنسان والإله.
هي ليست شريرة بطبيعتها، لكنها دائماً المكان الذي تبدأ فيه الكارثة، تماماً كما كانت الأرض في الزلازل، أو الصندوق في باندورا، أو التفاحة في الجنة.
خلاصة، تُظهر الميثولوجيا الغربية خوفاً عميقاً من الأنوثة غير الخاضعة. كل امرأة لا تنصاع إلى النظام تُحارب: ميدوزا تُقتل، ليليث تُنفي، باندورا تُلعن، حواء تُطرد.
لكن رغم هذا، تظلّ هناك شخوص أنثوية تقاوم بنية الإخضاع، تهمس من وراء الجدران الأسطورية، وتقول: إن الأنوثة لا يمكن ردّها إلى جسد أو خطيئة، بل هي مفتاح الخلق، وسرّ الغيب، وشريك الوجود.
إذاً، المرأة في الميثولوجيا الغربية
✦ أولاً: إلهات الأولمب – رموز القوة والجسد والسيادة
(أثينا – هيرا – أفروديت – أرتميس)
في الميثولوجيا الإغريقية، تمثل الإلهات الأولمبيات وجهاً مركّباً للأنوثة: أنوثة مقدّسة، لكن مرهونة بشروط النظام الذكوري الأولمبي. فكل واحدة من هؤلاء الإلهات ترمز إلى بُعد محدّد من صورة المرأة: العقل، الحب، الجسد، العذرية، الغيرة، السيطرة، والانتقام. ومع ذلك، فحتى أعظم الإلهات يُقدَّمن داخل بناء رمزيّ لا يتيح لهن استقلالاً مطلقاً، بل يربطهن بشكل ما بالرجل، سواء كان أباً أو حبيباً أو خصماً.
▫ أثينا (Athena):
إلهة الحكمة، الحرب العادلة، والفنون. وُلدت من رأس زيوس مباشرة، مكتملة السلاح، دون أم، وهي رمزية عميقة: المرأة التي لا تأتي من رحم أنثى، بل من عقل الذكر، وكأنها حكمة منزوعة الأنوثة، أو أنوثة عقلانية لا تزعج النظام الذكوري.
رغم قوتها، ظلت أثينا عذراء، تقاتل إلى جانب الرجال، لكنها لا تمنح جسدها ولا عاطفتها. هي المرأة المنزوعة الجسد، التي تمثل الجانب الذكوري في الأنوثة. وفي الحروب، كانت منحازة للمنطق والخطة، لا للعاطفة، وغالباً ما تدعم الأبطال الذكور وتؤطر دور الأنثى الأخرى داخل منطق السلطة.
▫ هيرا (Hera):
إلهة الزواج والملَكية، وزوجة زيوس. تظهر دائماً كرمز للزوجة الغيورة، الحامية للبيت، لكنها في العمق امرأة مقيّدة بسلطة زوجها الخائن المتسلّط، والذي يخونها علناً مع النساء والبشر والآلهة.
هيرا لا تنتقم من زيوس، بل من النساء اللواتي يخونها معه، مما يعكس تحويل الغضب الأنثوي إلى صراع داخلي بين النساء بدلاً من مواجهته مع مصدر السلطة الذكورية.
▫ أفروديت (Aphrodite):
إلهة الحب والجمال والرغبة. وُلدت من زبد البحر بعد أن أُخصي كرونوس أباه أورانوس، فظهرت كأنها نتاج العنف، ولكنها تحمل فتنة الحياة والجسد. تُجسد أفروديت الأنوثة الجسدية الخالصة، الشهوة، والإغراء، لكنها في كثير من الأساطير تُعامل بازدراء، كسبب للفتن، وككائن سطحي.
هذا يُظهر التناقض الغربي القديم تجاه الأنوثة: يقدّسها كجمال، ويُدينها كخطيئة.
▫ أرتميس (Artemis):
إلهة الصيد والعذرية والطبيعة البرية. امرأة حرة، لا تخضع لرجل، وتبغض الزواج. لكنها في استقلالها لا تمثّل تمرداً واعياً، بل انسحاباً عن العالم، ولذلك تُقدّم كثنائية غريبة: قوة أنثوية، ولكنها غير أمومية، غير جنسية.
أرتميس إذن هي صورة المرأة التي رفضت الأنوثة بالمعنى الجسدي، لتبقى خارج منطق الخضوع، لكنها أيضاً خارج منطق المشاركة.
✦ ثانياً: المرأة في الإلياذة والأوديسة: بين الوفاء والمكر
في الإلياذة والأوديسة، يتجلّى نموذج المرأة بوصفها فاعلة في الحكاية، لكنها دوماً محكومة بإطار أخلاقي – بطولي ذكوري.
▫ هيلين (Helen) – المرأة الجميلة/اللعنة
تُصوّر على أنها الأجمل في العالم، لكن جمالها هو سبب حرب دامت عشر سنوات – حرب طروادة. تُخطف أو تهرب مع باريس، ويتقاتل الآلاف بسببها. ليست هيلين ذات إرادة واضحة: في لحظة تكون خائفة، وفي أخرى عاشقة، وفي ثالثة نادمة. تمثّل المرأة التي تُحبّ فتعاقب، المرأة التي تُرغَب فتُستَهدف.
هي الجمال الذي لا يُقاوم، لكنه قدرٌ مدمر.
▫ بينيلوب (Penelope) – الزوجة المخلصة
زوجة أوديسيوس، انتظرته عشرين عاماً، ورفضت العشرات من الخطّاب، وظلت تحيك نولها نهاراً وتنقضه ليلاً. تُقدّم في الأدب كنموذج للمرأة "الفاضلة"، لكنها تُوصف أيضاً بالمكر والدهاء، لأنها عرفت كيف تناور داخل عالم يحيط بها رجال يرغبونها.
هي المرأة التي تحمي نفسها بالحيلة، لا بالقوة، وهي صورة متكرّرة في الميثولوجيا الغربية.
✦ ثالثاً: المرأة في الميثولوجيا الإسكندنافية
(بين القدر والشتاء والدم)
الميثولوجيا الإسكندنافية تقدّم رؤية أكثر قتامة للعالم، وللمرأة ضمنه. العالم يُبنى من العظام، والآلهة تعرف أنها ستموت في النهاية. ضمن هذا الإطار، تظهر المرأة ككائن قدري، لا يُخضعه أحد، لكنه لا يرحم أحداً أيضاً.
▫ فريغا (Frigg):
زوجة أودين، الإله الأعلى، تُعرف بالحكمة، وتنبّأت بموت ابنها "بالدر"، لكنها لم تستطع منعه. هي الأم التي تعرف مصير أولادها، لكنها عاجزة أمام القدر.
رمز المرأة التي ترى، لكنها لا تتدخل، تمثّل الحدّ بين المعرفة والصمت.
▫ هيل (Hel):
إلهة العالم السفلي، ابنة لوكي، وجهها نصف جميل ونصف ميت. تحكم مملكة الموتى الذين ماتوا ميتة غير بطولية. تمثل الخوف من الأنثى التي تسكن العتبة بين الحياة والموت. وجهها المزدوج يُجسّد ثنائية المرأة/القدر.
▫ الفالكيريات (Valkyries):
نساء محاربات، يختَرْن من يموت في المعركة، ويحملن أرواح الأبطال إلى "فالهالا". لسن عشيقات، ولا أمهات، بل كاهنات حرب يقرّرن المصير.
يمثلن أنوثة قادرة على تقرير من يستحق الخلود، ومن يندثر، دون أن تكون موضوعاً جنسياً أو رومانسياً.
✦ رابعاً: المرأة الفاتنة / المغوية / القدرية
▫ باندورا (Pandora):
أول امرأة خُلقت من الطين، بأمر من زيوس، كعقاب للبشر. أُعطيت صندوقاً يحتوي كل الشرور، ففتحته بدافع الفضول، فخرج المرض، الموت، الكراهية... وبقي في الصندوق "الأمل".
باندورا هي صورة المرأة الفضولية التي لا تطيع، والتي تفسد الكون بنزعة المعرفة. يقابلها لاحقاً "حواء" في التقاليد المسيحية. هي رمز المرأة – السبب، المرأة – الفتنة، المرأة – الخطيئة.
▫ ميدوزا (Medusa):
كانت امرأة جميلة، اغتُصبت في معبد أثينا، فحوّلتها الإلهة إلى وحش بشعر من أفاعٍ، وعينين تحوّلان الرجال إلى حجر. قُتلت بقطع رأسها، ثم استُخدم رأسها سلاحاً.
رمز المرأة التي تحوّلت من ضحية إلى شيطانة، من مغوية إلى مدمّرة.
▫ سيرسي (Circe):
ساحرة تُغري الرجال، وتحوّلهم إلى حيوانات. في الأوديسة، تقع في حب أوديسيوس، لكنها في جوهرها تمثّل الأنثى القادرة على تفكيك هوية الرجل، وعلى إعادة تشكيله أو تحطيمه. امرأة لا تُقاوم، ولا تُفسَّر.
✦ خامساً: النساء أدوات غضب وهبة للآلهة
كثير من النساء في الميثولوجيا الغربية يُستخدمن كأدوات داخل صراع بين الآلهة والرجال. المرأة لا تكون صاحبة قرار، بل وسيلة عقاب، أو هدية، أو طُعم.
- تُقدَّم هيلين كجائزة لأفروديت في صراع بين الآلهة، مما يشعل حرباً كونية.
- تُرسل باندورا كعقاب.
- تُمنح النساء للأبطال كجزء من انتصاراتهم: جوائز، لا شريكات.
- تُغتصب كثير من الشخصيات النسائية من قبل آلهة رجال (زيوس، بوسيدون، أبولو)، وتُلام الضحية أو تُحوّل إلى شجرة أو طائر أو حجر.
هذه الدينامية تُجسّد صورة المرأة كموضوع، لا ذات، كأداة تُستخدم داخل لعبة السلطة بين رجال – سواء كانوا آلهة أو أبطالاً.
✦ الخاتمة :
تمثّلت المرأة في الميثولوجيا الغربية ككائنٍ معقّد، يعيش في فضاءٍ رمزي مزدوج، ويتأرجح بين ذرى التقديس وقاع التحقير، بين المجد الكوني والسقوط الأبدي. لقد كانت الإلهات، من أثينا إلى أفروديت، تجسيداً لقوى رمزية هائلة: الحكمة، الحرب، الحب، الطبيعة، لكن هذه القوى لم تُمنح للمرأة لتكون ذاتاً مستقلة، بل غالباً ما قُدّمت في حدود محددة، كمجالٍ للزينة أو للمساندة أو للعقوبة. كانت القوة التي تملكها المرأة في هذه الأساطير ليست قوة فعل حر، بل قوة مشروطة بالسرد الذكوري، ومؤطَّرة بنظام أولمبي يخضع في جوهره لسلطة إلهٍ أبٍ مهيمن.
وإذا ما انتقلنا إلى النساء من غير الإلهات، فإن الوضع أكثر قسوة: المرأة في كثير من هذه الأساطير لم تكن سوى أداة في يد مصير لا تملكه، بل وسيلة لصراع لا تختاره، وجسداً يُؤلّه ليُعاقَب، ويُشتهى ليُدان. كانت تُمنح كجائزة، تُختطف كمتعة، تُدان كخطأ، وتُحرق كخطيئة. بل الأسوأ من ذلك، أن المرأة غالباً ما كانت بداية الخراب في الحكاية، أو بؤرة الانهيار الأخلاقي أو الكوني، كما في باندورا التي فتحت الصندوق، أو حواء التي أكلت من الشجرة، أو هيلين التي سببت الحرب، أو ميدوزا التي حوّلت الرجال إلى حجارة.
إنّ ما يتكشّف من هذه البنية الميثولوجية هو نزعة بنيوية عميقة في الثقافة الغربية القديمة نحو شيطنة الأنوثة، أو على الأقلّ نحو تقييدها تحت أقنعة رمزية متعددة: المرأة العذراء، المرأة الساحرة، المرأة المغوية، المرأة الأم... لكنها جميعاً في نهاية المطاف أقنعة تمنع المرأة من أن تكون ما هي عليه: إنساناً كامل الأهلية الرمزية والوجودية.
لكن رغم هذا الخوف الذي يتسرّب من نصوص الميثولوجيا الغربية تجاه المرأة، فإن الأنوثة في هذه الأساطير لم تُقهر بالكامل. بل إنّ بعض الصور الرمزية التي صمدت عبر الزمن تمثّل صوتاً خفياً للمقاومة، همساً خافتاً للحرية، وإرادة مستترة للتمرد. فأثينا في صمتها العاقل، وأرتميس في ابتعادها عن الرجال، وسيرسي في سحرها الذي لا يُقاوَم، والفالكيريات في سلطانهن على المصير، كلّهن يُجسّدن أطيافاً من رغبة مكبوتة في إعادة تشكيل الأنوثة كقوة لا تخضع للذنب، ولا تُختزل في الجسد.
إنّ الميثولوجيا الغربية، حين نقرأها بعيون نقدية، لا تكشف فقط عن تصورات الماضي تجاه المرأة، بل عن هواجس اللاوعي الجمعي الذكوري، وقلقه الوجودي من الكائن الذي لا يمكن إخضاعه بسهولة. فالمرأة في تلك الأساطير ليست مجرد «آخر» للرجل، بل مرآته السوداء، التي يرى فيها ضعفه، وشهوته، وموته، ومحدوديته.
ومن هنا، فإن هذه الميثولوجيا لا تُقصي المرأة بقدر ما تُدين ذاتها من خلال طريقة تمثيلها للمرأة. فالرغبة في السيطرة على الأنوثة، أو في تحجيمها داخل إطار ثنائي مغلق (عذراء/خاطئة، إلهة/ساحرة)، ليست إلا خوفاً من التنوّع، ومن الكيان الذي لا ينضبط في هوية ثابتة.
في نهاية هذا الفصل، نجد أنفسنا أمام سؤال كبير:
هل كانت الميثولوجيا الغربية تروي حكاية المرأة حقاً؟
أم أنها كانت تروي حكاية الرجل عن المرأة؟
أم كانت تحاول ترويض الأنوثة عبر تشفيرها في رموز ملتبسة، محمّلة بالخوف والدهشة والرغبة؟
إنّ هذا السؤال لا يمكن أن يجد إجابته إلا من خلال المقارنة: حين ننتقل إلى الميثولوجيا الشرقية، سنجد سرديات مختلفة، ونماذج أخرى للمرأة – ليست أقل غموضاً، لكنها مشبعة برؤية كونية أقدم وأعمق، ترى في المرأة مصدر الوجود، لا نقطة السقوط.
وعليه، فإن ما سنسعى إلى تفكيكه لاحقاً، في الفصل المقارن، ليس فقط الاختلاف بين صورتَي المرأة في الشرق والغرب، بل الاختلاف بين نظامين رمزيين، وبين رؤيتين للعالم، وبين بنية أبوية استبدادية، وبنية أمومية بدئية تتوارى خلف الحكايات.
لكن ما يستوقفنا أكثر هو أن هذا التمثيل الأسطوري للمرأة، رغم ما يحمله من نزعة تهميش أو تشيؤ، لم يكن خالياً من التصدّعات. ثغرات رمزية تتسرّب من خلالها أصوات أنثوية خاملة، تحاول أن تتنفس تحت الركام السردي الذكوري. فحين تظهر المرأة في هيئة الإلهة التي تعرف، أو الساحرة التي تعيد تشكيل العالم، أو الفارسة التي تقرر مصير الأرواح، فإنها لا تكون مجرد صورة في إطار، بل علامة على مقاومة صامتة ممتدة منذ الأسطورة الأولى.
هذه المقاومة ليست بالضرورة صراخاً أو تمرداً صريحاً، بل همساً بنيوياً في قلب النص، يقول إن الأنوثة لا يمكن احتواؤها بالكامل، ولا إلغاؤها من الحكاية. لذلك، فإن الصورة الرمزية للمرأة في الميثولوجيا الغربية لا تعكس فقط موقعها في المجتمع، بل تكشف عن القلق البنيوي للثقافة الغربية من المرأة، ككائن غير قابل للتصنيف النهائي، لا يذوب تماماً في الطهر، ولا يغرق كلياً في الدنس.
بل ويمكن القول إن المرأة في هذه الأساطير، حتى عندما تُدان أو تُشيطن، تحتفظ بجاذبية رمزية لا تزول، لأنّها تُجسّد في النهاية مفارقة الوجود: إنها تمنح الحياة، ولكنها تُدان بالشهوة؛ تحمل الحكمة، ولكنها تُخشى من الفتنة؛ تمتلك الجسد، ولكنها لا تُمتلك. هذه المفارقة هي ما يجعل الأنوثة، في اللاوعي الأسطوري الغربي، بمثابة قوة غامضة، لا تكتمل إلا بالتناقض.
ومن هنا، فإن قراءة هذه النصوص لا تهدف إلى الحكم الأخلاقي عليها، بل إلى تفكيك البنية الرمزية التي أنتجتها، وتحليل ما تخفيه تحت سطحها من صراع ثقافي حول مفاهيم الجسد، والمعرفة، والرغبة، والسلطة. وهي مفاهيم ستزداد وضوحاً حين نقارن هذا النموذج بنموذج آخر: نموذج الشرق القديم، حيث تتخذ المرأة دوراً مختلفاً، ليس لأنها خالية من التناقض، بل لأنها تحتلّ مركز الأسطورة، لا هامشها؛ وتُستدعى بصفتها خلقاً، لا خطيئة.
الفصل الرابع: أنماط رمزية مشتركة ومتناقضة
- المرأة الأم/الخليقة مقابل المرأة المدمّرة/المغرية.
- حضور رموز مثل "الأفعى"، "القمر"، "الخصب"، "النار"، "الدم".
- التقاطعات الثقافية: هل نشأت رموز معينة في الشرق وانتقلت إلى الغرب؟ أم العكس؟
- فكرة "الأنوثة الكونية" أو "الأنثى المقدسة".
(الأنثى بين الخلق والخراب، بين الرمز الكوني والمخاوف الجمعية)
الميثولوجيا، حين تُقرأ على مستوى رمزي عميق، ليست مجرّد أرشيف للحكايات القديمة، ولا مستودعاً لخيال الشعوب، بل هي بنية تحتية للوعي الثقافي والوجودي للإنسان. إنها المرآة الرمزية التي يعكس من خلالها المجتمع تصوّراته عن الكون، عن الخير والشر، عن الحياة والموت، وعن الآخر، وعلى رأسهم "المرأة" – هذا الآخر الأزلي، الشريك الذي تم تأليهه تارة، وتدنيسه تارة أخرى، والخوف منه دوماً.
في الفصول السابقة، تتبّعنا صورة المرأة في الأساطير الشرقية والغربية كلٌّ على حدة، فرأينا أنماطاً متعددة من الحضور الأنثوي: الإلهة، العرافة، الساحرة، العذراء، الأم، الشيطانة، الحبيبة، المتمرّدة... ولكنّ هذه الصور لم تكن متفرّقة تماماً، بل كانت تقوم على أنساق رمزية متكررة، تكاد تتنقّل من ثقافة إلى أخرى بملامح متشابهة، وإن اختلفت الأسماء أو السياقات.
من هنا تنبع أهمية هذا الفصل، الذي لا يكتفي بجمع الرموز، بل يحاول تفكيك الشبكة العميقة من التماثلات والتناقضات التي تشكّل ما يمكن تسميته بـ"الهندسة الرمزية للأنوثة في الميثولوجيا". فالمرأة، في نصوص الأساطير، لم تكن شخصاً فحسب، بل جهازاً رمزياً يحوي معاني الخلق والخراب، الخصب والموت، الطهر والدنس، المعرفة والخطيئة. وهي، بهذا المعنى، لا تحضر بوصفها كائناً بيولوجياً، بل كأفق تأويلي مفتوح على الميتافيزيقا، والسلطة، والمقدّس.
إن هذا الفصل يقترح مقاربة رمزية-ثقافية تقوم على تحليل عدد من "الثنائيات الكبرى" التي تتكرر في تمثيلات المرأة، وعلى تتبّع الرموز الكونية المشتركة (مثل القمر، الأفعى، النار، الدم)، التي تظهر في أساطير الشرق والغرب على حدّ سواء، لكنها تتخذ في كل منها حمولة دلالية مختلفة تعكس البنية العميقة للفكر المجتمعي.
وفي قلب هذه الرموز والثنائيات، تبرز مسألة محورية:
هل الأنثى كونية؟
أي هل هناك "جوهر رمزي" أنثوي مشترك في كل الثقافات، يُعبّر عنه بأشكال مختلفة؟
أم أن كل ثقافة أعادت إنتاج المرأة وفقاً لمصالحها وبُناها الأبوية/الأمومية؟
وهل انتقلت هذه الرموز من الشرق إلى الغرب، كإرث بدئي؟ أم أنها نشأت في الوعي الجمعي بشكل متوازٍ كاستجابة لتجارب بشرية متشابهة مع الطبيعة والإنجاب والموت؟
المرأة هنا ليست فقط "موضوعاً للتحليل"، بل هي منصة للكشف عن الصراعات الرمزية التي تخترق الأسطورة، وتعيد تشكيلها في كل عصر. ذلك لأن المرأة لا تُروى فقط بوصفها شخصية، بل تُستخدم رمزياً لكتابة المجهول، وإعطاء هيئة ملموسة لما لا يُفهم: الخوف، الرغبة، الدمار، الولادة، الغيب، الغريزة.
وإذا كانت الأسطورة تحاول دائماً أن تصوغ العالم بلغة الرموز، فإن المرأة كانت أهم وأخطر هذه الرموز. فهي ليست مجرد ثنائية بين "أم خالقة" و"ساحرة مغوية"، بل هي الثنائية نفسها وقد تجسّدت في الجسد، وتحولت إلى مرآة لصراعات الذكر مع ذاته، ومع جسده، ومع الطبيعة.
هذا الفصل لا يطرح فقط مقارنة بين رموز ميثولوجية، بل يحفر في العمق:
- ليكشف كيف تتوزع الأنوثة بين المقدّس والمدنّس،
- كيف تُستخدم المرأة لتشفير السلطة والمعرفة،
- وكيف يمكن أن تكون صورة المرأة في الأسطورة وثيقة ثقافية عن بنية الخوف البشري من اللا حدود.
من هنا، فإن هذا الفصل يُعدّ قلب العمل الميثولوجي، لأنه يُمسك بالخيوط العميقة التي تربط تمثيلات المرأة عبر الزمن والثقافات، ويعيد تفكيكها وإعادة بنائها. هو محاولة لرسم الخرائط الداخلية للأنثى الرمزية: تلك التي تسكن النصوص منذ آلاف السنين، والتي لا تزال، حتى اليوم، تُحدّد موقع المرأة في العقل الجمعي والوعي الاجتماعي والديني.
إنه فصل يطرح سؤالاً فلسفياً-ثقافياً كبيراً:
هل كانت المرأة أسطورةً أم هي من صُنعت منها الأسطورة؟
وهل نحن بصدد تحليل الرموز الأنثوية، أم بصدد تفكيك الذكورة المقنّعة في هيئة رموز؟
بهذا المعنى، يكون هذا الفصل محاولة لقراءة الميثولوجيا من الداخل، لا عبر الحكاية، بل عبر الرمز. لا عبر البطل، بل عبر المرأة التي لم تكن يوماً هامشاً – بل كانت، وما تزال، المركز المُضمَر للعالم الرمزي كلّه.
✦ أولاً: المرأة الأم/الخليقة مقابل المرأة المدمّرة/المغرية
(أنماط رمزية متعاكسة تنبض في الجذر الواحد)
من أقدم الثنائيات التي ظهرت في الوعي الأسطوري للمرأة، هي ثنائية "الخليقة والخراب"، أو "الأم/الخليقة" في مقابل "المدمّرة/المغرية". هذه الثنائية لم تكن مجرد تقابل أخلاقي، بل كانت تعبيراً عن ازدواجية الإنسان نفسه في علاقته بالطبيعة والأنثى: فهو يراها مانحة للحياة، لكنه أيضاً يخشاها كقوة لا يمكن السيطرة عليها.
▫ المرأة الأم / الخليقة:
في الميثولوجيا الشرقية، تُمثّل المرأة الأم رمزاً أولياً.
- "ننهورساك" في السومرية،
- "عشتار/إنانا" في البابلية،
- "إيزيس" في المصرية،
- "أناهيتا" في الفارسية،
- "بريتيفي" في الهندية،
- وحتى "كاوا - خاتوون" أو رموز الأمهات الكورديات في الحكايات الشفهية.
كلّهن يُجسّدن المرأة بوصفها مصدر الخصب، ومبدأ الخلق، ومركز الكون الحيوي.
هي الأرض/الرحم، الحقل الذي ينبت، الكهف الذي يولد فيه الإله، أو يُبعث منه البطل.
في الغرب، تظهر هذه الصورة في الخلفية المظلمة: فحتى حين يُعترف بالأمومة كقيمة، فإنها تُفصَل عن الجسد، وتُعزل داخل الرمزية الطهرانية (مثل مريم العذراء)، في حين تُرفض الأمومة الجسدية الطبيعية (مثل باندورا، أو ليليث) كشيء نجس.
▫ المرأة المدمّرة / المغرية:
بموازاة الأم الخالقة، تظهر المرأة المغرية التي تُغري لتُفسد، وتُعطي لتسلب، وتُحب لتُعاقَب. هذا النمط يتكرّر في:
- باندورا (تفتح الصندوق فتُطلق الشر)،
- ميدوزا (تحوّل الرجل إلى حجر بجمالها المُرعب)،
- سيرسي (تغوي وتحوّل الرجال إلى حيوانات)،
- ليليث (ترفض الخضوع وتُنبذ كشيطانة).
هذا النمط يُعبّر عن رعب الثقافة الذكورية من الأنوثة غير المنضبطة، من الجمال الذي لا يخضع للسلطة، من الحب الذي لا يمكن احتواؤه. وهو امتداد لخوف الإنسان من الطبيعة نفسها، التي تمنحه الحياة لكنها قد تدمّره في لحظة.
في النهاية، تقف المرأة في قلب التوتر الأسطوري:
- هي البداية والنهاية،
- الجنة والجحيم،
- الخلاص واللعنة.
إنها الثنائية العميقة التي لا تُفكّك بسهولة، بل تُعاد كتابتها مراراً عبر آلاف الحكايات.
✦ ثانياً: رموز متكررة: "الأفعى"، "القمر"، "الخصب"، "النار"، "الدم"
(الرمز بوصفه لغة الأسطورة)
الأسطورة لا تتكلم بالكلمات، بل بالرموز. وكل رمز يحمل تراكباً ثقافياً هائلاً من المعاني والدلالات. وفي ما يخص المرأة، نجد رموزاً تتكرر بين الميثولوجيات الشرقية والغربية، لكنها تحمل أحياناً دلالات متعاكسة، أو متناقضة.
▫ الأفعى:
رمز معقد جداً. في الميثولوجيا الشرقية، الأفعى ليست دائماً شيطانية.
- في الهند، تُقدّس "الناغا" كرمز للمعرفة والحماية.
- في الميثولوجيا السومرية، ارتبطت الأفعى بالتجدد والخلود.
- في مصر، كانت "واجيت" – أفعى الحماية للفرعون.
أما في الغرب:
- تُصبح الأفعى شيطاناً في قصة حواء – رمز الغواية.
- وترتبط بالحيلة والمكر والسقوط.
وهكذا، تتحول الأفعى من رمز للحكمة والبعث في الشرق، إلى رمز للشيطان والخداع في الغرب، وهو اختلاف يعكس تبايناً جوهرياً في نظرة الثقافتين إلى المعرفة والأنوثة.
▫ القمر:
في معظم الثقافات، ارتبط القمر بالمرأة، بسبب دورات الطمث وخصائص التغيير.
- في الشرق: القمر مرتبط بـ"سين" (الإله السومري)، وبالخصوبة والطبيعة، وغالباً ما يُرافق رموز الإلهات.
- في الغرب: القمر رمز لعذراء الليل، مثل أرتميس أو هيكات، وغالباً ما يُحمّل بطاقات سحرية أو مظلمة.
إنه رمز الدورة، الغموض، التجدد، والظلال – أي رمز للأنثى ككائن غير ثابت.
▫ الخصب:
رمز مركزي في كل الميثولوجيات: الأرض، النهر، المطر، الثدي، الطمث.
- في الشرق، يُحتفل بالخصوبة كطقس مقدّس.
- في الغرب، يتحوّل إلى شيء يُراقب، يُقيد، ويُخضع للفضيلة (كما في المسيحية).
الفرق هو أن الخصب في الشرق طقس كوني، وفي الغرب عبء أخلاقي.
▫ النار:
النار تمثل النور/العقاب/الطاقة.
- المرأة في الشرق تُجسّد النار كإشراق الخلق (كما في الزرادشتية)، أو كشمسٍ أنثى.
- في الغرب، ترتبط النار أحياناً بسحر المرأة، أو بعقابها (حرق الساحرات مثلاً).
▫ الدم:
الدم الأنثوي (الحيض/الولادة) في الميثولوجيا الشرقية جزء من طقوس الخصوبة،
أما في الغرب، فأُضفيت عليه دلالة نجاسة أو خطر.
وهكذا، يتحوّل الجسد الأنثوي من مقدّس حيّ إلى عبء أخلاقي يجب ضبطه.
✦ ثالثاً: التقاطعات الثقافية – من نشأ أولاً؟
(الأسطورة بوصفها انتقالاً رمزياً عابراً للحضارات)
في دراسة الرموز والميثولوجيات، تبرز دائمًا أسئلة شائكة:
- هل انتقلت الرموز من الشرق إلى الغرب؟
- أم أن الإنسان أنتج رموزه بشكل متوازٍ في مختلف البيئات؟
تشير الأدلة التاريخية إلى أن الشرق القديم (ميزوبوتاميا، مصر، فارس، الهند) سبق الغرب زمنياً في إنتاج الأساطير المنظمة، مما يعني أن العديد من الرموز الغربية – سواء في الإغريقية أو الرومانية – متأثرة أو مستوحاة من النماذج الشرقية.
- شخصية "عشتار" السومرية تتحوّل إلى "أفروديت".
- "تيامات" تُلهم تصوّرات الفوضى الأنثوية في الغرب.
- حتى أسطورة الطوفان البابلية لها صدى في سفر التكوين التوراتي.
لكن في ذات الوقت، ثمة رموز ظهرت بشكل متوازي – ما يُعرف بالـ**"أنماط الأركيتايب العالمية"** – كأنها نابعة من اللاوعي الجمعي (حسب تعبير كارل يونغ). لذلك، فإن المشترك بين الشرق والغرب لا يعني دائماً النقل المباشر، بل يُعبّر عن تشابه البنية النفسية للإنسان في مواجهة الوجود، والموت، والجسد، والمرأة.
✦ رابعاً: الأنوثة الكونية أو "الأنثى المقدسة"
(المرأة بوصفها صورة الوجود ومفتاحه)
بعيداً عن الثنائيات القاتلة (الخطيئة/الطهر)، هناك تيار رمزي عميق، أقدم وأكثر بدائية، يرى في المرأة تجسيداً للكون نفسه. هذا ما يُعرف في بعض الفلسفات والأساطير بـ"الأنثى الكونية"، أو "الإلهة الأم الكبرى".
هذه الصورة تسكن عميقاً في الميثولوجيات الشرقية:
- "عشتار" لا تمثّل فقط الخصوبة، بل دورة الحياة والموت.
- "إيزيس" تحيي زوجها "أوزيريس" من الموت، لتُعيد النظام إلى الكون.
- "كالي" في الهندوسية تمثّل الحياة والموت والخلق والتدمير في آن.
في الغرب، هذه الصورة تضاءلت، لكنها لم تختفِ تماماً:
- في صورة "غايا" (الأرض الأم)،
- أو في رمزية مريم العذراء (التي تجمع الطهر والخلق)،
- أو حتى في بعض رموز الساحرات الحكيمات (المرأة التي تعرف وتُنظّم الفوضى).
هذه "الأنثى الكونية" ليست امرأة فردية، بل رمز وجودي جامع، يُجسّد:
- التعدد،
- التناقض،
- التجدد،
- الغموض،
- المعنى الكوني.
المرأة هنا ليست فرداً، بل كائناً ميتافيزيقياً يربط السماء بالأرض، والزمن بالدم، والنار بالقمر.
✦ خاتمة الفصل:
(الأنثى، ما بين الحكاية والرمز، وما وراء الأسطورة)
إنّ مقارنة الأنماط الرمزية للمرأة في الميثولوجيا الشرقية والغربية لا تُفضي إلى سرد اختلافات شكلية في الأسماء أو التفاصيل، بل تكشف عن طبقاتٍ أعمق في الوعي الإنساني الجماعي: ذلك الوعي الذي لم يكن يعيد إنتاج صورة المرأة بوصفها شخصية أسطورية فحسب، بل كـمرآة لقلقه الوجودي، ووسيطٍ رمزي يحاول من خلاله تأويل العجز، والخصوبة، والخوف، والرغبة، والمقدّس.
ليست المرأة في الميثولوجيا "كائناً"، بل بنية رمزية معقّدة؛ إنها خارطةٌ أسطورية يتقاطع فيها الولادة والموت، النور والظل، الخير والشر، الطهر والدنس، الحماية والخطر. هي تلك "العُقدة الرمزية" التي لا يمكن حلّها من خلال تأويلٍ أحادي، لأنها نُسجت أصلاً في تضاد، وفي حقلٍ متوتر من الدلالات المتشابكة. المرأة، في الأسطورة، ليست الحكاية، بل لغز الحكاية نفسها.
وحين نتتبع الخط الزمني للأنوثة الرمزية، يتبيّن لنا أنّ الشرق القديم قد أسس لصورةٍ للمرأة ترتكز على الخصب، الأمومة، الإبداع، المعرفة الغامضة، والقدرة على الشفاء والتجدد. إنها الإلهة الأرضية، الكونية، الحامية، التي تُخيف ولكنها تُطهر، تُدمّر ولكنها تُنبت، تُغري ولكنها لا تَخون الطبيعة. المرأة في هذه الرؤية ليست "نقيضاً"، بل عنصراً مركزياً في بناء الكون؛ هي البوابة التي يولد منها الوجود، والسرّ الذي لا يمكن إدراكه بالعقل فقط، بل بالتجربة الكونية.
أما في الميثولوجيا الغربية، فقد بدأت الرموز تتحوّل شيئاً فشيئاً من التقديس إلى التقييد، ومن الطقس إلى العقوبة، ومن الاحتفاء بالأنوثة إلى تحويلها إلى موضوع للخطيئة أو الافتتان المشؤوم. فظهرت رموز المرأة المغرية، الساحرة، الملعونة، وأصبحت الأسطورة تُستخدم كأداة لضبط الفوضى الرمزية التي تمثلها الأنثى في الخيال الذكوري، لا لفهمها، بل لاحتوائها. بذلك، تُختزل المرأة في أدوارٍ تُملى من خارجها، ويُعاد إنتاجها في كل سردية بوصفها سبب السقوط، أو ابتلاء القدر، أو موضوع الرغبة المعاقَبة.
ومع ذلك، فحتى في أحلك صور التحقير الرمزي، تبقى المرأة في الميثولوجيا الغربية كائناً لا يمكن استبعاده. إنها ليست مجرد شرّ ضروري، بل ضرورة رمزية، وبدونها تنهار بنية السرد نفسها. ولهذا السبب، يمكن القول إن المرأة، في الثقافة الغربية القديمة، لم تُمحَ، بل أُعيد تأطيرها وفق منطق الهيمنة الذكورية، الذي رأى في الحرية الأنثوية خطراً ينبغي تطويقه، وفي الغموض الأنثوي سراً يجب حجبه، لا تأمله.
وهكذا، تُصبح مقارنة الرموز بين الشرق والغرب دراسةً في الاختلافات العميقة في بنية الوعي الثقافي ذاته:
- هل المرأة قوة كونية تُؤلّه، أم خطر وجودي يُخشى؟
- هل هي "الأم الكبرى" التي ينبثق منها الزمن، أم الفتنة التي يجب دفنها تحت قوانين الأب؟
- هل هي معمار الخلق، أم السبب في الطرد منه؟
إنّ هذا الفصل لا ينتهي عند استعراض الرموز فقط، بل يفتح الباب أمام تساؤل أشمل:
هل الأسطورة كتبت صورة المرأة، أم أن صورة المرأة كتبت الأسطورة؟
وهل كانت هذه الصورة تُستَخدم لتفسير الكون، أم لتبرير السلطة؟
وهل الأنوثة في جذورها رمز كوني أصيل، أم أنها تحوّلت لاحقاً إلى معركة ثقافية تُدار داخل النصوص وعبرها؟
في النهاية، تلتقي كل هذه الرموز والتناقضات عند نقطة واحدة:
أنّ المرأة لم تُمنح في الأسطورة إجابة نهائية، لأنها هي – في جوهرها – السؤال ذاته. سؤال الخصوبة والموت. سؤال المعنى والفوضى. سؤال اللذة والعقاب. سؤال الغيب والمكشوف. إنها التعدد الذي لا يتوقف، والغموض الذي لا ينفد، والمعنى الذي يقاوم كل محاولة اختزال أو تفسير.
وإذا كنا قد حاولنا في هذا الفصل تفكيك البنية الرمزية التي أنتجت هذه التمثيلات، فإن الفصل التالي سيأخذنا إلى بُعد آخر:
كيف تَحوّلت هذه الرموز إلى خطاب ثقافي مؤسّس؟
كيف أصبحت اللغة أداة لإعادة إنتاج هذه الصور؟
وكيف تشكّلت السلطة – سواء الدينية، أو السياسية، أو الأدبية – حول هذا الخوف البنيوي من الأنوثة؟
إنه انتقال من الميثولوجي إلى الثقافي، من الرمز إلى النظام، من الحكاية إلى البنية.
حيث المرأة لم تعد فقط أسطورة، بل أصبحت موقعاً للصراع بين المعنى والسيطرة، بين الذات والآخر، بين الجسد والنص.
الفصل الخامس: التحليل المقارن
- ما الفرق بين تصوير المرأة في الشرق كمصدر قوة وسحر، وفي الغرب كمصدر إغواء أو فوضى؟
- مقارنة الصورة الدينية والأسطورية للمرأة: هل هي إلهة أم ضحية؟
- التمثيلات الاجتماعية والأخلاقية الناتجة عن هذه الميثولوجيات في ثقافة كل مجتمع.
(من عشتار إلى باندورا... ومن الرحم إلى الخطيئة)
الميثولوجيا، حين تُوضع موضع المقارنة، تكشف ما هو أبعد من الحكايات والأساطير: إنها تُعرّي البنية التحتية للثقافة نفسها، وتكشف طريقة كل حضارة في فهم المرأة، وفي ترميزها، وفي بناء العلاقة بين الجسد والروح، بين المقدّس والمحرَّم. وفي هذا الفصل، ننتقل من استعراض الأساطير إلى تحليل عميق للبنية الرمزية المقارنة بين الشرق والغرب، في ثلاث مساحات: السحر والإغواء، الألوهة والضحية، والواقع الاجتماعي الذي ينتج عن هذه الصور.
✦ أولاً: المرأة في الشرق – مصدر قوة وسحر، مقابل المرأة في الغرب – مصدر إغواء وفوضى
▫ الشرق: المرأة قوة كونية
في الميثولوجيا الشرقية، لا تُقدَّم المرأة بوصفها خطراً، بل كقوةٍ متعدّدة الوظائف:
- عشتار/إنانا تمزج بين الحب والحرب، بين الخصب والموت.
- إيزيس تُحيي الموتى وتعلّم البشرية فنون الزراعة والسحر.
- خاتوون في الأسطورة الكوردية، هي المرأة التي تحرس النار وتنقذ الأمة.
المرأة هنا ليست فقط جسداً جذاباً أو خطراً جنسياً، بل هي ممرٌّ للوجود نفسه، ومعبرٌ إلى الغيب، وحاملة لمعرفةٍ خفية، غالباً ما تُحترم، حتى حين تُخشى. إنها كاهنة، عرّافة، إلهة، وساحرة، لكنها ليست "سقطة" الوجود، بل محرّكه الأصيل.
▫ الغرب: المرأة إغواء واختلال كوني
على النقيض، تظهر المرأة في الميثولوجيا الغربية غالباً ككائن يحمل خطراً مقنّعاً بالجمال.
- باندورا أُرسِلت بوصفها "هبة" لكنها كانت بداية الشرّ.
- ميدوزا تُغري ثم تُرعب.
- هيلين لم تكن صاحبة قرار، بل كانت "السبب" الذي أشعل حرب طروادة.
- حواء هي من أغوت، وأخرجت الإنسان من الجنة.
هنا، يُنظر إلى الأنوثة بوصفها اختلالاً في النظام الكوني، لا مصدراً له. هي ليست أصل الخلق بل السبب في طرده من النعيم. هي ليست مَن يمنح الحياة، بل مَن يُفسد معناها.
هذه المقارنة تفضح الاختلاف الجذري في العلاقة بين الذكر والأنثى، بين العقل والجسد، بين المقدّس والغريزة. فالشرق، رغم عنفه الرمزي أحياناً، يحتفظ بصورة المرأة كقوة ضرورية، بينما يُظهر الغرب قلقاً وجودياً من الأنوثة بوصفها خللاً يجب ضبطه.
✦ ثانياً: المرأة بين الألوهة والضحية
مقارنة الصورة الدينية – الأسطورية
▫ المرأة الإلهة في الشرق:
في الميثولوجيا الشرقية، تُمنح المرأة منزلة إلهية لا بمعزل عن الجسد، بل من خلال الجسد.
- الخصوبة ليست عاراً، بل رمزاً كونياً.
- الطمث ليس نجاسة، بل موسم مقدس.
- الحبل، الولادة، الحُب، العناق، الرقص – كلها طقوس تعكس الحضور الأنثوي الإلهي.
حتى في الديانات القديمة التي ورثت هذه الرموز (كالمجوسية، الزرادشتية، الهندوسية)، تظهر المرأة كشريك في الإلهي، لا كظلّ له.
▫ المرأة الضحية في الغرب:
في المقابل، يتحوّل الرمز في الغرب إلى حكاية سقوط:
- حواء لا تخلق، بل تُخلق من ضلع.
- باندورا تُرسل كخداع.
- النساء في الأوديسة والإلياذة أدوات اختبار للرجل، لا شركاء في المصير.
والأسوأ أن الجسد الأنثوي يُعاقَب لأنه جميل. يُنظر إليه كـ "مصدر فتنة"، فيُشيطن، أو يُفرض عليه الحجاب الأخلاقي، أو يُحمّل بالخطيئة الأولى.
الدين المسيحي حين ورث هذه الرموز، لم يُلغِها بل قام بتأطيرها، فجعل المرأة إما قديسة (مريم)، أو خاطئة (حواء/مجدلية). أي أن الأنوثة انقسمت أخلاقياً، وفُقدت صورتها الكونية الموحدة.
الفرق هنا ليس فقط بين صورتين، بل بين رؤيتين للعالم:
- رؤية ترى المرأة كمرآة للوجود (الشرق)،
- وأخرى تراها ككسرٍ في انتظام الوجود (الغرب).
✦ ثالثاً: التمثيلات الاجتماعية والأخلاقية الناتجة
من الرمز إلى المجتمع، من الأسطورة إلى البنية
▫ الشرق: المرأة حضور مركزي رغم العنف
حتى عندما انحدر الشرق لاحقاً إلى مجتمعات أبوية، ظلت الأساطير القديمة تسكن الوعي الشعبي، وتمنح المرأة بعض القوّة الرمزية.
- في الأغاني الشعبية الكوردية، والعرافات في البوادي السورية،
- وفي طقوس الزواج، والرثاء، و"نساء النذر"، نجد امتداداً لتلك الرموز الأمومية.
فالمرأة ليست فقط "الزوجة" بل "الناحلة للمعنى"، حافظة الذاكرة، صانعة الخبز والنار.
ومع أن السلطة الذكورية طغت، فإن الميثولوجيا الشرقية تركت للمرأة بصمة لا تزول.
▫ الغرب: المرأة بين العذراء والخطيئة
في الغرب، ساهمت الميثولوجيا في إنتاج صورة مزدوجة للمرأة:
- فهي إما عذراء مخلّصة،
- أو فاتنة مدمّرة.
والمجتمع الغربي – رغم تحرّره الظاهري – لا يزال محكوماً بهذه البنية اللاواعية.
- في السينما، تُقدَّم المرأة كمصدر شهوة أو إنقاذ.
- في الأدب، هي ملهمة أو قاتلة.
- في اللاهوت، يُعاد إنتاج "عقدة حواء" في خطاب الطهارة، الفضيلة، والسقوط.
المرأة هنا ليست ذاتاً، بل موضعاً للمعنى. ليست حرة، بل محاطة بسياج التفسير.
✦ خاتمة الفصل:
إن المقارنة بين الشرق والغرب لا تهدف إلى إصدار أحكام معيارية، بل إلى كشف كيف أن الأسطورة لا تموت، بل تتناسخ داخل اللغة، والوعي، والنظام الأخلاقي. وما بدأ كرمز في الميثولوجيا، أصبح قيداً في الثقافة، أو محرّكاً للمخيلة، أو ميداناً للسلطة.
فالمرأة التي ظهرت في الشرق كإلهة، تحوّلت في الغرب إلى لغزٍ يجب احتواءه، أو رغبة يجب ضبطها. لكن في كلتا الحالتين، تبقى الأنوثة في قلب الصراع الرمزي حول المعنى، والوجود، والمقدس.
وفي الفصل الأخير من هذا العمل، سننتقل من التحليل المقارن إلى طرح سؤال أكثر جرأة وراهنية:
هل يمكن إعادة تخيّل الأنوثة خارج الأسطورة؟
هل بإمكاننا تحرير المرأة من الرموز التي كبّلتها منذ آلاف السنين؟
أم أن الإنسان لا يستطيع فهم المرأة إلا عبر الأسطورة – والخوف منها؟
الفصل السادس: الأنثى خارج الأسطورة
(نحو تفكيك الرمز واستعادة الذات)
أولاً: المرأة كأسطورة – والحدود القاتلة للرمز
ثانياً: تفكيك الموروث الرمزي – قراءة نقدية للأسطورة
ثالثًا: الأنوثة بوصفها مشروع تحرّر رمزي
رابعاً: من استعادة "الأنوثة" إلى استعادة "الذات"
هل يمكن تخيّل المرأة خارج الأسطورة؟
وهل يمكن للأنوثة أن تنجو من التاريخ الذي صاغها في هيئة رمز، قناع، وظيفة، أو أسطورة متحرّكة؟
إنه سؤال ليس بسيطاً ولا عابراً، بل هو السؤال الجوهري في كل مشروع تحرّري ثقافي وفكري للمرأة، وهو ما يُحاول هذا الفصل أن يلامسه، لا بالإجابات الجاهزة، بل بالغوص العميق في جذور التشكل الرمزي للأنوثة، وطرح احتمالات "الخروج من النص".
الأسطورة – كما كشفنا في الفصول السابقة – ليست حكاية قديمة بل بنية ثقافية متواصلة، تعيد إنتاج نفسها في الدين، في اللغة، في الأخلاق، في المؤسسة، وفي الخيال الجمعي. والمرأة، ضمن هذا النسق، لم تُمنح صوتاً حراً، بل كُتبت عنها رواياتٌ تحولت إلى قوالب، ورسومات إلى أقنعة، وأقنعة إلى مصائر.
في هذا الفصل، نطرح السؤال: كيف تتحرر الأنثى من كونها رمزاً؟
وكيف يمكن للمرأة أن تستعيد ذاتها، لا كمجاز، بل ككائن محسوس، ككيان غير قابل للاختزال؟
هل يمكن تخيّل أنوثة لا تُحدّدها الأفعى، أو القمر، أو الخطيئة، أو الأمومة، أو الإغواء؟
وهل يمكن تفكيك الأسطورة دون تدمير الذات التي تكوّنت من خلالها؟
✦ أولاً: المرأة كأسطورة – والحدود القاتلة للرمز
لم تكن المرأة في الميثولوجيا شخصاً، بل كانت دائماً رمزاً لشيء آخر:
- رمزاً للخصب،
- أو للموت،
- أو للفوضى،
- أو للحكمة المحرّمة.
وكلما ازدادت الأسطورة غموضاً، ازداد الرمز سلطويةً على الجسد الحقيقي. فالمرأة لم تُروَ باعتبارها "أنا"، بل كـ "هي" – تلك التي تُفسَّر وتُحدَّد. وبهذا، تمّ سجنها في الأدوار الرمزية:
- العذراء الطاهرة،
- الأم المضحية،
- العاشقة الفاتنة،
- الشيطانة المغوية،
- الساحرة الملعونة.
كلها صور، كلها رموز، كلها أقنعة... ولكن أين الذات؟
هل تستطيع المرأة، وهي تُبنى دائماً داخل الرمز، أن تعثر على صورتها الخاصة؟
هل يمكن أن توجد "الأنثى" كحضور وجودي، لا كتمثيل ثقافي؟
✦ ثانياً: تفكيك الموروث الرمزي – قراءة نقدية للأسطورة
تفكيك الرموز لا يعني محو الأسطورة، بل يعني فضح الطريقة التي تحوّلت بها إلى أداة سلطة.
الأسطورة ليست بريئة؛ إنها تنسج بنية أخلاقية ومجتمعية، تُعيد تشكيل المخيال الجمعي، وتزرع في لا وعينا ما نظنه "طبيعة"، وهو في الواقع "خطاب".
لذا، لا بد من تفكيك الأسطورة على مستويين:
▫ في اللغة:
علينا أن ننتبه كيف تتحرك المفردات:
- المرأة "تُغوي" لا "تحب"،
- "تسقط" لا "تقرر"،
- "تُعطى" لا "تختار".
اللغة ذاتها تحمل الموروث الأسطوري، وتُعيد صياغته في التعبير اليومي، في الدين، في التربية، وفي الإعلام.
▫ في المخيال الجماعي:
لا تزال الأسطورة تعمل داخل الدراما، السينما، القصص، وحتى داخل الحركات السياسية.
- البطلة يجب أن تكون جميلة،
- الأم فاضلة،
- الزوجة صامتة،
- والمتمردة غالباً ما تُقتل، أو تُوصم.
الأسطورة تعمل بصمت، داخل خيال الناس، فتُقنعهم بأن ما يرونه هو "الواقع"، بينما هو الرمز الذي لم يمت بعد.
✦ ثالثاً: الأنوثة بوصفها مشروع تحرّر رمزي
إذا كانت الذكورة في الثقافة الكلاسيكية هي المركز، والفعل، والصوت، فإن الأنوثة ظلت "صورة"، "صدى"، أو "ظلًّا".
لذلك، لا يكفي التحرّر القانوني، أو السياسي، أو الاقتصادي، إن لم يُرافقه تحرّر رمزي – أي تفكيك التمثيلات القديمة، وتخليق رموز جديدة، أو ربما، الانفلات من الرمز نفسه.
هذا يتطلب أن تُكتب الأنثى بيدها، لا بوصفها موضوعاً، بل بوصفها كاتبة ذاتها، وراوية معناها.
لا إلهة، ولا ضحية، بل إنسانة تخترع هويتها خارج القالب الأسطوري.
وهذا المشروع لا ينحصر في المرأة فحسب، بل في كل من اختُزل في دور رمزي داخل الثقافة: من المرأة، إلى الجسد، إلى الطبيعة، إلى الشعوب المهمّشة.
إنه مشروع إنساني شامل: تحرير الذات من أسر الأسطورة.
✦ رابعاً: من استعادة "الأنوثة" إلى استعادة "الذات"
في نهاية المطاف، لا تكمن المشكلة في الأسطورة بوصفها سردية خيالية، بل في استعمالها كأداة هيمنة رمزية.
ولا يكمن الحل في استبدال رمزٍ بآخر، بل في تفكيك الحاجة إلى الرمز ذاته.
أن تكوني أنثى، لا يعني أن تكوني عشتار أو باندورا، مريم أو ليليث، بل يعني أن تكوني ما لا يُختزل في نموذج.
أن تكوني امرأة، لا يعني أن تكوني "الآخر"، بل أن تكوني "الأنا".
في هذا المعنى، فإن "الأنثى خارج الأسطورة" ليست كائناً جديداً، بل الأنثى الحقيقية التي كانت دوماً خلف النصوص، تنتظر أن يُزال عنها القناع.
✦ خاتمة:
بدأنا هذا العمل داخل عمق الميثولوجيا، لنسبر تمثيلات المرأة كما صاغتها الثقافات القديمة، من الشرق إلى الغرب، من الرموز الخصيبية إلى الأساطير الأخلاقية، من الإلهة إلى الساحرة، ومن الأم إلى الخطيئة. وكشفنا أن الميثولوجيا ليست مرآة صافية، بل نصّاً أيديولوجياً مشبعاً بالخوف والرغبة والسلطة.
وفي كل تلك الحكايات، بقيت المرأة قلب المعنى ومركز السؤال.
لكننا نطمح اليوم إلى مرحلة جديدة:
- حيث لا تُقرأ الأنوثة عبر الرمز،
- ولا يُفهم الجسد عبر الأسطورة،
- ولا يُنطق المعنى إلا من داخله، لا فوقه.
إنها دعوة إلى أن نكتب الذات خارج الأسطورة، لا لنُنكرها، بل لنحرّرها.
فالأسطورة لا تموت... لكنها تُقاوَم.
الفصل السابع: الأثر على الثقافة المعاصرة
- كيف استُخدمت هذه الصور في الأدب، الفن، الدين، والسياسة لاحقاً؟
- حضور هذه الرموز في الحركات النسوية أو نقدها.
- إعادة قراءة الميثولوجيا من منظور نسوي حديث.
(من الميثولوجيا إلى الثقافة: الرموز لا تموت بل تتنكّر)
الميثولوجيا لا تبقى حبيسة الزمن القديم، ولا تتكلّس في أرشيف الأساطير، بل تعبر إلى الحاضر في أشكال متجددة، خفيّة أحياناً، وعلنية أحياناً أخرى. فكل ثقافة، مهما بدت حداثية، تحمل في أعماقها رموزها الأولى، وصورها البدئية التي تتخفّى في اللغة، والفن، والهوية، والمخيال العام. وفي هذا الفصل، نرصد كيف تحوّلت الصور الميثولوجية للمرأة من تماثيل حجرية وآلهة قديمة إلى أيقونات فنية، وسرديات أدبية، ونماذج دينية، ونقاشات سياسية، وأدوات نقد نسوي في آنٍ معاً.
✦ أولاً: حضور الرموز الأنثوية في الأدب، الفن، الدين، والسياسة
▫ في الأدب:
من الملاحم الكلاسيكية إلى الرواية الحديثة، نجد أن صورة المرأة الميثولوجية لا تزال تُعاد إنتاجها، وإن كانت بثياب جديدة.
- شخصيات مثل ميدوزا، سيرسي، باندورا أعيد بعثها في الأدب كرموز للغواية، أو الغموض، أو التمرّد.
- في الأدب العربي، تتجلى المرأة تارة كليلى المعشوقة، وتارة كعشتار المدمرة، وتارة كالحبيبة التي لا تُنال.
- الرمز لم يختفِ، بل أصبح أكثر شفافية: المرأة لا تُوصَف بأنها إلهة، لكنها تُعامل كغموض لا يُفهم أو يُخشى أو يُراد امتلاكه.
▫ في الفن:
الفن التشكيلي، السينما، المسرح، والإعلان التجاري، كلها وسائط تستعيد الرموز الميثولوجية – أحياناً دون وعي – وتعيد تدويرها.
- المرأة العارية المتجسّدة في الضوء ما هي إلا امتداد لأفروديت الخارجة من البحر.
- النساء ذوات الأجنحة، أو المرايا، أو النار، أو الدم في اللوحات الحداثية، كثيراً ما يستنطقن ميراثاً ميثولوجياً دفيناً.
- في السينما، هناك ترميز لا ينفك عن الثنائية القديمة: المرأة كمخلِّصة أو مدمّرة.
▫ في الدين والسياسة:
رغم تحديث المجتمعات، لم تنفكّ أنظمة السلطة الدينية والسياسية عن استدعاء الصور القديمة للمرأة.
- تُروَّج نماذج "المرأة الطاهرة"، أو "الفاتنة الخطِرة"، أو "الزوجة الصامتة"، وكلها امتدادات ميثولوجية في قلب الخطاب الأخلاقي.
- الأنثى كرمز للانضباط أو الانفلات لا تزال تُمثل عقدة مركزية في الجدل السياسي حول اللباس، الحرية، الأمومة، والمشاركة.
وهكذا يتبين أن الميثولوجيا لم تُنسَ، بل استعمرت الثقافة الحديثة من الداخل. الفارق الوحيد أن الرمز لم يعد يُقال صراحة، بل يُبثّ عبر الصور، والسرد، والمجاز، والتشريعات.
✦ ثانياً: الرموز الميثولوجية في الحركات النسوية
بين النقد والتفكيك وإعادة التملّك
لم تكن الحركات النسوية غافلة عن حضور هذه الرموز. بل على العكس، كثير منها جعل من تحليل الميثولوجيا نقطة انطلاق لفهم البنية الذكورية للثقافة.
▫ النقد:
النسوية الراديكالية والوجودية (كما عند سيمون دي بوفوار، لوس إريغاراي، وغيرهن) رأت في الميثولوجيا مخزناً للصور الذكورية عن المرأة، حيث تتكرّس الأنثى كـ "آخر" للرجل، لا كذات مستقلة.
- حواء، باندورا، ليليث – كلّهن خُلقن ليبررن ضعف الرجل أو خطاياه أو سلطته.
- النماذج "الإلهية" لم تكن بدائل، بل أقنعة: الإلهة خاضعة لدورة، أو وظيفة، أو تضحية.
▫ التفكيك:
المدرسة ما بعد البنيوية والنسوية الثقافية، عملت على تفكيك هذه الرموز وكشف أصولها السلطوية.
- لماذا تُرتبط المرأة دوماً بالقمر؟ ولماذا الأفعى رمز نسوي؟
- من وضع ثنائية الطهارة/الدنس؟
- ولماذا تُصوَّر المرأة إما كأم، أو كعاهرة، ولا بينهما؟
▫ إعادة التملّك:
بعض التيارات النسوية المعاصرة (خصوصاً الروحية والبيئية) سعت إلى استعادة بعض الرموز الميثولوجية الأنثوية بقصد منحها معنى جديداً.
- عشتار ليست فقط إلهة للجنس، بل للخصب والمعرفة.
- ليليث ليست شيطانة، بل أول امرأة رفضت الخضوع.
- القمر ليس دليلاً على الدورات البيولوجية فقط، بل رمزٌ للتجدد والتأمل.
هذا الاتجاه لا يسعى إلى إنكار الرمز، بل تغييره من الداخل، أي تفكيك قوته السلطوية وتحويله إلى أداة تمكين ذاتي وثقافي.
✦ ثالثاً: نحو إعادة قراءة الميثولوجيا من منظور نسوي حديث
إعادة قراءة الميثولوجيا لا تعني إلغاءها، بل فتحها من جديد على أسئلة لم تكن مسموحة قديماً:
- من كتب الأساطير؟ ولماذا صيغت بهذه الطريقة؟
- ماذا لو روت النساء تلك الحكايات؟ كيف كانت ستبدو إنانا، أو باندورا، أو إيف، أو أفروديت؟
- ما المسكوت عنه في الأسطورة؟ وما الوجه الآخر للرمز؟
الرؤية النسوية الحديثة تحاول كسر مركزية الذكر في السرد الميثولوجي، وتحرير الرموز من القوالب الأخلاقية. إنها تحاول أن تقول:
- إن المرأة ليست "هي"، بل "أنا".
- وإن الأسطورة ليست قدراً، بل نصاً قابلاً لإعادة الكتابة.
وبهذا تتحول الميثولوجيا من أداة تقييد، إلى أفق تحرّر رمزي.
تصبح الحكايات القديمة ميداناً للمقاومة، وإعادة اكتشاف الذات، لا ككائن غامض، بل كصوت قادر على إعادة خلق رموزه بيده.
✦ خاتمة الفصل:
إن حضور الرموز الميثولوجية للمرأة في الثقافة المعاصرة يؤكد أن الأسطورة لم تختفِ، بل تعمّقت. وما لم نواجه هذه الرموز ونفكك آلياتها، ستستمر في تشكيل تصوّراتنا عن الجسد، والأخلاق، والمصير.
لكن المأساة تحوّلت إلى فرصة:
فالمرأة اليوم لا تقف فقط أمام المرايا القديمة، بل تحمل المطرقة وتعيد صوغ المرايا ذاتها. بهذا المعنى، فإن تحرّر المرأة لا يتم فقط بالقوانين، بل بالرموز. وأنَّ كسر الأسطورة هو أحد أكثر أشكال الحرية عمقاً.
إن ما تكشفه هذه المسارات جميعها، هو أن الميثولوجيا لا تزال تتحكم في اللغة التي نصف بها المرأة، حتى عندما نعتقد أننا تجاوزنا الماضي. فالصور القديمة تتخفى خلف ستار "الواقعية"، لكنها لا تزال تملي أدواراً اجتماعية، وتُحدّد الممكن والممنوع، وتُقسّم النساء إلى نماذج أخلاقية معلّبة. الأسطورة لم تمت، بل غيرت اسمها إلى "ثقافة"، "عُرف"، "جمال"، أو حتى "حرية". لكن هذا لا يعني الاستسلام، بل إدراك أن كل نظام رمزي يمكن خلخلته من الداخل. وكما استطاعت الحركات النسوية، والمبدعات، والمفكرات، أن يُقلبن الرموز ضد سلطتها الأصلية، فإن المستقبل الرمزي للمرأة لا يزال مفتوحاً على احتمالات التأويل، وعلى القدرة الخلّاقة لإعادة كتابة الذات خارج سطوة النموذج، وخارج الثنائيات القاتلة. إننا، في نهاية المطاف، لا نبحث فقط عن "أنثى جديدة"، بل عن إنسان جديد يخرج من قبضة الأسطورة، ويصوغ وجوده بوعي نقدي محرّر، متصالح مع رموزه، لا عبداً لها.
الفصل الثامن: الاستنتاج
- هل قدّست الميثولوجيا المرأة أم جرّدتها من إنسانيتها؟
- هل تختلف الأساطير في تمثيلها للمرأة بحسب البيئة والثقافة؟
- دور إعادة قراءة هذه الميثولوجيات في فهم الحاضر والمستقبل الثقافي للمرأة.
(بين القداسة والتجريد، بين الرمز والذات)
إن تتبّع صورة المرأة في الميثولوجيا، من أقدم تمثلاتها في الشرق إلى أكثر رموزها انكساراً في الغرب، لا يقودنا إلى خلاصات سهلة أو نتائج نهائية. فالأسطورة، كما ظهر في هذا البحث، ليست مرآة بسيطة لما تؤمن به الشعوب، بل لغة رمزية معقدة، تتفاعل مع الخوف والرغبة والسلطة والهوية في آنٍ معاً. والمرأة، في قلب هذه اللغة، لم تكن موضوعاً ثابتاً، بل رمزاً متحوّلاً – مرة يُؤلَّه، ومرة يُحتقر، وفي كلتا الحالتين يُصاغ من خارج ذاته.
✦ هل قدّست الميثولوجيا المرأة أم جرّدتها من إنسانيتها؟
هذا هو السؤال المركزي الذي يدور حوله العمل كله، ولا يُمكن اختزاله بإجابة "نعم" أو "لا".
الميثولوجيا، في بداياتها الأولى، قدّمت المرأة بوصفها كياناً كونياً فاعلاً:
- عشتار، إيزيس، تيامات، فريغا، إينانا… كلّهن كنّ تمثيلات لقوى الخلق والخصب والعنف والموت.
- المرأة لم تكن "ثانوية"، بل غالباً "سيدة الكون" أو "بوابته".
لكن مع تحوّل الميثولوجيا إلى أداة تأويل أخلاقي – ومع صعود السلطة الذكورية واللاهوت الأبوي – بدأت المرأة تُختزل إلى وظيفتها الجسدية أو خطرها الأخلاقي.
- لم تعد تُرى ككاهنة بل كغواية،
- ولا كإلهة بل كسببٍ للسقوط،
- ولا كصوت، بل كأداة سرد.
وهكذا، لم تقدّس الميثولوجيا المرأة بقدر ما أسطرتها، وهذا بذاته شكل من التجريد. فالإلهة لا تعني إنساناً حراً، بل رمزاً مسيطراً عليه. والقداسة، حين تكون بدون حرية، تُصبح قيداً من نوعٍ آخر.
✦ هل تختلف الأساطير في تمثيلها للمرأة بحسب البيئة والثقافة؟
نعم، بلا شك. الأسطورة ابنة بيئتها، وهي تُعيد إنتاج بنية المجتمع الذي تولد فيه.
- في البيئات الزراعية الخصيبية، كانت المرأة غالباً رمزاً للأرض، للأم، للدورة، للحياة.
- في المجتمعات الحربية أو الكهنوتية، غدت المرأة رمزاً للفوضى، أو للشر، أو للحدّ الذي يجب ضبطه.
وهكذا، فإن تمثيل المرأة في الميثولوجيا ليس مجرد انعكاس للخيال، بل تجسيد ثقافي لنمط السلطة والمعرفة والعلاقة بالجسد والطبيعة.
ومع هذا، لا يمكن الحديث عن انقسام حاد بين "الشرق والغرب"، بقدر ما يمكن الحديث عن تحوّلات رمزية مترابطة، تتغذى من بعض، وتختلف بحسب الحاجة الاجتماعية – الدينية – السياسية لتوظيف الأنثى كرمز.
✦ ما دور إعادة قراءة هذه الميثولوجيات في فهم الحاضر والمستقبل الثقافي للمرأة؟
إن إعادة قراءة الميثولوجيا اليوم ليست مجرد فعل ثقافي، بل ضرورة فلسفية وسياسية.
فنحن نعيش في زمنٍ تعود فيه الصور القديمة بأقنعة جديدة:
- تُستعمل المرأة في الإعلانات كجسد،
- وتُحتقر في بعض الخطابات كغريزة،
- وتُؤلَّه في أخرى كأمٍ مقدّسة.
لكنها، في كثير من الأحيان، لا تزال غائبة كذاتٍ حرّة.
ولذلك، فإن استعادة الميثولوجيا بوصفها نصاً مفتوحاً للتأويل لا قدراً مكتوباً، هو خطوة أساسية نحو تفكيك الصور المترسّبة في لا وعينا الثقافي.
فالأسطورة لا تزال تؤثر في كيف نُحب، ونخاف، ونربّي، ونحكم، ونحلم.
وإذا لم نعد كتابتها، ستظل تكتبنا من حيث لا ندري.
المستقبل الثقافي للمرأة يبدأ من مساءلة هذه الرموز.
- من تحويل عشتار من "إلهة" إلى "صوت"،
- ومن استرداد ليليث كحقّ،
- ومن تحويل الجسد من "موضوع أسطوري" إلى "مكان للحرية".
✦ خاتمة الفصل:
المرأة ليست خرافة، لكنها سُجنت طويلاً في قوالب الخرافة. الميثولوجيا لم تكن يوماً بريئة؛ كانت ساحة صراع بين ما نخشاه وما نرغب فيه، بين ما نؤمن به وما نخفيه.
ووسط هذا الصراع، وُضعت الأنثى كرمز، كمعنى، كقناع، وقلّما كذات.
لكن الإنسان لا يمكنه التحرر من الرموز دون أن يمرّ بها، ولا يمكنه أن يصوغ حريته دون أن يُفكّك الحكاية القديمة التي صنعته.
وهكذا، فإن رحلة المرأة من الأسطورة إلى الذات، من الرمز إلى الحرية، ليست فقط سيرة الأنثى... بل أعمق ما يمكن أن يبلغه وعي الإنسان بذاته.
✦ الخاتمة :
(عندما تخلع المرأة قناعها الأخير)
ليست هذه الصفحات مجرّد تأريخ للأساطير، ولا مجرد مقارنة بين رموز من الشرق والغرب، بل هي رحلة في أكثر المرايا عمقاً: مرآة الإنسان التي انعكست فيها صورة المرأة، لا كما هي، بل كما أرادها الخوف، والرغبة، والسلطة أن تكون.
من عشتار إلى باندورا، من إيزيس إلى ميدوزا، من كاهنات النار إلى العذراء الموعودة، بقيت المرأة في قلب الأسطورة – لكنها لم تكن يومًا صوتها. كانت دائماً رمزاً: للخلق أو للهلاك، للخصوبة أو للخطيئة، للمجهول أو للغواية. وكلما اقتربت من الألوهة، ابتعدت عن الإنسان. وكلما اقتربت من الجسد، ابتعدت عن الحرية.
وإذا كان الشرق قد ألهها ثم كبّلها، والغرب قد شيطنها ثم قدّسها، فإن الحقيقة الأكثر مرارة تكمن في هذا السؤال:
هل كانت المرأة يوماً ذاتاً حقيقية داخل الميثولوجيا؟ أم كانت فقط قناعاً نُسج من ذكريات الحنين والخوف، من طقوس النار، ومن سياسات الذكورة المقدّسة؟
الأسطورة، كما ظهر لنا، ليست أثراً ماضوياً، بل نسيجٌ حيٌّ يعيش في لغتنا، في شِعرنا، في قوانيننا، في ضمائرنا الأخلاقية. هي التي تُخبرنا – دون أن نعلم – من تكون المرأة، ومتى تكون خطأً، ومتى تكون تضحية، ومتى تكون جميلة بما يكفي لتُعاقَب.
لكننا اليوم في زمنٍ لم يعد يقبل بهذا السرد الواحد. المرأة بدأت تكتب أسطورتها بنفسها، لا لتعيد إنتاج الرموز، بل لتكسرها، وتُعيد تشكيل اللغة من داخلها.
لم تعد تنتظر أن تُوصف، بل تُفكّك الوصف.
لم تعد تبحث عن مرآة، بل عن نافذة.
لم تعد تطلب الخلاص من الآلهة، بل تسترد ذاتها من فم الزمن.
وهكذا، فإن هذا البحث – رغم اتساعه الرمزي – ليس دعوة لتقديس الماضي، ولا لنقضه بالكامل، بل لإعادة قراءته بمنظار جديد، حيث الأنثى ليست رمزاً، بل كائناً حرّاً ينهض من بين الرماد، لا ليكون أسطورة جديدة، بل ليكون نفسه.
في نهاية المطاف، المرأة ليست سؤالاً ميثولوجياً... بل هي ما تبقّى من الأسطورة عندما تسقط كلّ الأقنعة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- Joseph Campbell – The Power of Myth -(Anchor Books, 1988)
- Marija Gimbutas – The Goddesses and Gods of Old Europe: Myths and Cult Images
(University of California Press, 1982) - Clarissa Pinkola Estés – Women Who Run With the Wolves: Myths and Stories of the Wild Woman Archetype -(Ballantine Books, 1992)
- Carl G. Jung & Marie-Louise von Franz – Man and His Symbols -(Dell Publishing, 1964)
- Robert Graves – The White Goddess: A Historical Grammar of Poetic Myth -(Farrar, Straus and Giroux, 1948)
· Elaine Pagels – Adam, Eve, and the Serpent (Vintage, 1988) - Jean Shinoda Bolen – Goddesses in Everywoman: Powerful Archetypes in Women's Lives
(Harper & Row, 1984) - Gerda Lerner – The Creation of Patriarchy (Oxford University Press, 1986)