بقلم: د. عدنان بوزان
آذار.. ذاك الزائر الذي يطرق أبواب القلب بمزيج من الرجاء والحنين، تتداخل في طيّاته نشوة التفتّح ووجع الذكرى. كأنّه صفحة بيضاء أفسح لها الشتاء مجاله، لتخطّ عليها الشمس سطوراً من دفء، وتهمس الريح بأغنيات المطر الذي رحل على عجل، تاركاً خلفه تراتيل الأرض وهي تتزيّن بوشاحٍ أخضر، كعروسٍ تأخّرت عن زفافها.
بين مداد القلم ودمع الروح، يُولد آذار في جوف الكلمة، يكبر بين أنامل الحنين، ويمتدّ كجذرٍ قديم في أعماق الذكرى. تكتب الأقلام عنه بشغف، كأنّها تحاول احتواءه بين السطور، لكنه يأبى أن يكون مجرّد حروفٍ؛ إذ هو حالة من الارتعاش العاطفي، من التأرجح بين الاحتفال بالحياة والانحناء لحزنٍ قديم لم يزل يقطن الذاكرة.
آذار هو موعد اللقاء بين قلبٍ يتوق إلى الدفء وروحٍ تستدرجها الذكريات. كم من أغانٍ عتيقة تعود مع نسماته، تحملنا إلى ساحاتٍ كنّا نظنّها اندثرت، وإلى وجوهٍ تسكننا رغم تلاشيها عن مرآة الواقع. آذار هو ذاك العابر الذي يوقظ فينا شغف الحنين دون أن يمنحنا إجابة، كأنّه يسألنا بصمته: أحقاً ننسى؟
وفي هذا الشهر، يفيض المداد على الورق كما يفيض الدمع على الوجنات، وكأنّ القلم والروح شريكان في البوح، يسكبان وجدهما فوق البياض، علّه يفيض حياةً من جديد. ففي آذار، تبكي الأرض مطراً، وتبكي الأرواح سراً، وفي البين بين، تكتب الأقلام حكايا النور والظلّ، بين ميلاد زهرة ورحيل طيف، بين ابتسامة الشمس ودمعة المساء.
آذار.. كأنّه معزوفة من الفقد واللقاء، من الدمع والحلم، من الشتاء الذي يمضي والربيع الذي يتردّد في القدوم، ومن قلوبٍ تحاول أن تخطّ على صفحة الأيام ما يشبه السلام.
آذار.. كأنّه رسالة مؤجّلة، تصل متأخرة لكنها لا تفقد أثرها، كطائرٍ قضى الشتاء مهاجراً ثم عاد يبحث عن عشّه القديم، يلفّه الخوف من ألّا يجده كما تركه. هو شهر الاختلاجات التي تعصف بالقلب؛ فكلّ زهرةٍ تتفتّح فيه تحمل في طيّاتها ذكرى قديمة، وكلّ نسمةٍ تهبّ تأخذ معها سرّاً لم يُفصح عنه بعد.
حين يمرّ آذار، يكتسي الزمن حيرة المواسم، فهو بين وداعٍ واستقبال، بين بردٍ يتلاشى ودفءٍ يتثاءب على مهل. تشعر فيه الأرواح وكأنّها على أعتاب حلمٍ لم يكتمل، كأنّها تمسك بطرف خيطٍ من ضوء، تخشى أن يضيع منها قبل أن تهتدي إلى وجهتها.
في آذار، تغفو الذكريات على حوافّ الأيام، تصحو فجأةً مع أول رشقة مطرٍ متأخّرة، أو مع نغمةٍ قديمة تهبّ بها الريح من نافذةٍ مفتوحة. إنّه شهر يعيد تشكيل المشاعر، يقلب صفحات الدفاتر المنسيّة، يفتح جرحاً ظننّاه اندمل، لكنه - في ذات الوقت - يمنح القلب فرصةً أخرى للبدء، للبحث عن ربيعٍ داخليّ لا تذروه العواصف.
هو لقاء بين الماضي والحاضر، بين الخطوة التي مضت وتلك التي لم تأتِ بعد. فيه تبكي العيون بدمعٍ شفيف لا يُدرى أهو حزنٌ على ما فات، أم توقٌ لما سيأتي. وفيه يفيض القلم، لا ليكتب فقط، بل ليحمل عن الروح بعضاً من أعبائها، ليُفرغ ما اختزنته الأيام في حبرٍ يموج بالمشاعر، حتى لكأنّ الورق نفسه بات يسمع همسات القلب وارتعاش أنفاسه.
آذار.. يا صديق الذكرى ورفيق التحوّل، تمضي ولا تمضي، تسكننا كما يسكن الموج في البحر، وكما يسكن الضوء في عيون الحالمين. أيّها العابر الثقيل الخفيف، امكث قليلاً، أو خذنا معك، علّنا نكتب في دفترك الأبيض سطراً لا تمحوه الأيام.