بقلم: د. عدنان بوزان
ثمة مساحات بين الفكر والشعور، حيث تلتقي الفلسفة بالشعر، وحيث يختلط عبق التأمل بدموع الحروف. في هذا الامتزاج الغريب، تتحول الكلمات إلى أنفاسٍ تحاول الإمساك بجوهر الوجود، وتنحني الدموع كطقوس اعترافٍ صامتة أمام المجهول الذي لا يكفّ عن طرق أبواب الأسئلة.
الفلسفة، تلك العجوز الحكيمة، تجلس على أطراف الحياة، تتأمل الكون بنظرة من يعرف كل شيء ولا شيء في آنٍ معاً. تبتسم بمرارة أمام عبث الوجود، ثم تهمس: "كل فكرةٍ انعكاسٌ لصدى حلمٍ غابر، وكل إجابة لا تزيدنا إلا حيرة." أما الحروف، فتتدلى من شفاه الشعراء، تتساقط كما أوراق الخريف، تحمل في طياتها وجع المسافات، وحنين الأرواح الهائمة خلف المعاني التي لم تُكتب بعد.
ما الذي يجعل الفكر يدمع؟ وهل تبكي الفلسفة حين تعجز عن تفسير الألم؟
حين يعجز المنطق عن فكّ شفرة الدمع، ترفع الفلسفة يديها مستسلمة، وتترك للشعر مهمة التعبير عن ارتعاشة الروح أمام أسرار الكون. هناك، في زوايا الورق، تنسكب الكلمات في حزنٍ عميق،
كأنها تبحث عن ملاذٍ من التيه. كل نقطة حبرٍ هي شهقة فكر، كل فاصلةٍ وقفةٌ بين جملة الحياة والموت، وكل نقطة نهايةٍ محاولةٌ يائسةٌ لإغلاق أبواب الأسئلة التي لا تنتهي.
في أعماق الليل، حين يسكن الضجيج، يجلس الفيلسوف أمام شمعةٍ تهتز كأنها تتنفس أسئلته، يراقب ظلها وهو يرقص على الجدران، فيدرك أن الحقيقة ليست سوى انعكاسٍ يتغير مع زاوية النظر.
يضع يده على جبينه، يتنهّد، ثم يلتقط قلمه كأنه يمسك خيطاً واهياً بينه وبين فهم العالم.
يكتب، لكنه يعلم أن كل كلمةٍ يخطّها ليست سوى قطرةٍ من بحرٍ لا ساحل له.
أما الحروف، فهي تبكي على صدر الورق، تتوسل أن تفهمها العيون قبل أن تجفّ،
لكن هل تستطيع العيون أن ترى ما وراء الحبر؟
هل يمكن للكلمات أن تحمل حجم الألم الذي يسكن بين طياتها؟
في كل سطرٍ تُكتب تنهيدة، في كل فكرةٍ تُولد صرخة، وفي كل نصٍّ تنزف روحٌ لم تجد ملاذاً سوى اللغة.
عبق الفلسفة يشبه العطر القديم، يلتصق بالروح لكنه لا يمنحها يقينًا، بل يتركها معلّقةً بين السؤال والجواب.
أما دموع الحروف، فهي لآلئ تتساقط على خدّ الورق، تخبرنا أن الشعور، وإن صاغه العقل بحكمة، يظل أوسع من أن يُحصر في تعريف، وأعمق من أن يُقال في جملة واحدة.
وهكذا، تظل الفلسفة تتنفس في العقول، وتظل الحروف تبكي في القلوب، ويبقى الإنسان، ذاك الكائن المتسائل، معلّقاً بين عبق الفكر ودموع الشعور، يبحث عن إجابةٍ قد لا تأتي، لكنه، رغم ذلك، يواصل الكتابة؛ علّه يوماً ما يجد بين السطور ملاذاً، أو -على الأقل– يجد في البوح عزاء.