بقلم: د. عدنان بوزان
في ليلٍ استلقى على أهدابِ الوقت، وفي ركنٍ بعيدٍ من الغرفة، حيثُ تسكن الوحدةُ كعاشقةٍ مُتعبة، جلستُ أمام الورق، أُرقب البياض كما يُرقَب البحرُ قبل الغرق. بين يديّ صفحةٌ بيضاء، لا تشكو، لا تفرح، لكنها تنتظر... تنتظر أن تبوح روحي، أن تتنفس حبرها بصمت، أن تترك أثراً يشبه الأنين حين يُكتب بلا صوت.
كلُّ حرفٍ أكتبه ليس مجرد مدادٍ يسيل، بل هو نَفَس؛ نَفَسُ قلبٍ ضاق به الصدر، ولم يجد ملاذاً إلا في الورق. إنني لا أكتب... بل أتنهد، أزفر ما علق بروحي من خيباتٍ لم تجد لها مفرّاً، من أحلامٍ تجمّدت على حوافِّ الأمل، ومن وجوهٍ مرّت كالعطر ثم اختفت، لكنها تركت عبقاً يتسلل إلى كل سطر.
أنفاسي تتثاءب بين السطور، مبلّلةٌ بذكرياتٍ لم تجد لغتها بعد، كأنّ الحبر مرآةٌ تنعكس عليها ملامحُ لم أعد أتعرف إليها. الورق لا يسأل، لكنه يُصغي... يُصغي كصديقٍ صامت، لا يُقاطع، لا يُجادل، لكنه يُجيد الاحتواء. فيه أضع وجعي كما تضع الأرملةُ خاتمها في صندوقٍ صغير، تُخفيه عن العالم، لكنها تفتحه كلّ ليلة.
أكتب، لا لأقول شيئاً، بل لأتخلّص من كل شيء. أكتب لأنني كلما حاولت الكلام، خذلتني اللغة، وخابت بي الحناجر. لكن الورق... الورق يفتح ذراعيه، ويُمهّد لي المدى، يمدّ لي مسافةً بيني وبين الهاوية، ويجعلني أطير... حتى لو بجناحٍ واحد.
كل نقطةِ حبرٍ هي نَفَسٌ مكتوم خرج أخيراً. كل فاصلةٍ هي تردُّد، هي التنهيدة قبل الانهيار. وكل سطرٍ هو خطوةٌ في طريقٍ طويلٍ لا يؤدي إلى أحد، لكنه يُبعِدني عنّي قليلاً، عن ذلك الجرح المفتوح الذي لم يجرؤ أحدٌ على النظر فيه.
وكم من أنفاسٍ سجنتُها في الرسائل التي لم تُرسل؟ وكم من تنهيدةٍ خبّأتُها في حوافّ دفترٍ قديم، بقي شاهداً على تلك الليلة التي بكيتُ فيها بصمت، وتركتُ الصفحة مبلّلةً بدمعي بدل الحبر؟
الورق وحده يعرف كم مرّة وُلدتُ من رمادي، وكم مرّة قتلتني الكلمة. الورق وحده كان حاضراً حين خُذلت ولم أصرخ، حين تمنّيت ولم أنَل، حين أحببتُ أكثر من اللازم، وكتبتُ أقل من اللازم.
ما زلتُ أكتب، لا لأنني أُجيد الكتابة، بل لأنني لا أُجيد الحياة دونها. الكتابة ليست مهارة، بل نجاة... هي الهواء الذي أتنفسه حين يختنق القلب بما لا يُقال. هي الطُهر الوحيد الذي لم تُدنّسه خيانة، ولم يُلوّثه الزيف.
أنفاسي على الورق ليست مجرّد حروف... إنها ندوب، آثارُ أصابع تحاول أن تُمسِّد على ذاكرةٍ موجعة، أن تُربّت على كتفٍ داخليٍّ يقول: "اصبر، فالكلمة تُشفى، ولو بعد وجعٍ طويل."
هكذا أتنفّس... لا من الرئتين، بل من القلم. وهكذا أعيش... لا بين الناس، بل بين السطور. وهكذا أُحب... في النصوص التي لا تُرسل، في القصائد التي لم تُقرأ، وفي العبارات التي تنام على الوسادة دون أن تُقال.
فيا مَن تقرأ، تذكّر دائماً: ليس كلُّ نصٍّ هو قصة، لكنه دائماً نبض. ليس كلُّ ما كُتب حكاية، لكنه حتماً تنفّس. وفي كلّ حرفٍ تجدني... روحاً تتنهّد، وقلباً يسكن ورقة، ويهمس من بعيد:
"أنا هنا... أنفاسٌ على ورقٍ يتنهّد."