بقلم: د. عدنان بوزان
لا تسألني عن حالي... فأنا، كما العادة، أكتب.
أكتب لا لأجيب، بل لأخلع عن السؤال قناعه الزائف. أكتب كي أفرغ رأسي من الزحام، وقلبي من الغبار. أكتب لأنني لا أملك أرضاً أزرع فيها أحلامي، سوى سطور هذا الورق المنسي، ولا وطناً أقيم فيه إلا مملكة المعنى، حيث الكلمات لا تُجبر على حمل السلاح.
لماذا نكتب؟
سؤالٌ تطرحه جيوش الصمت على جنود القلم كل صباح؛ سؤالٌ يشبه صفعةً ناعمةً على خدّ الزمن، صفعةً لا يُقصد بها الإهانة، بل الاستفاقة.
نكتب لأن فينا شيئاً من الجنون النبيل، من تلك النار التي أوقدها الإنسان الأول ليُخيف بها الليل، من رعشة الطفل حين يسمع أول كلمة حب، ومن شهقة العاشق حين يقرأ أول قصيدة وجد. نكتب لأن الصراخ كثير، والإنصات نادر، فنمدّ سطورنا كجسرٍ فوق الهاوية كي لا يسقط المعنى.
يا من تسأل، لا تُصغِ لأولئك الذين يقولون إن الكتابة لا تُشبع جوعاً، ولا تدفع فواتير الحياة... لأنهم لا يدركون أن الجوع الأكبر ليس في البطون، بل في العقول، وأن أفقر الفقراء هو من مات قلبه وهو لا يعلم.
نكتب لأن المدن التي خذلتنا، والبلاد التي نسيت أسماءنا، لم تترك لنا غير زوايا الحروف نحتمي بها، كلاجئين من عبثية العالم.
كلما أمسكتُ قلمي، وجدته لا يشبه القوس الذي يُطلق السهام، بل يشبه الجرح الذي يقطر حقيقة. وكلما غمسته في الحبر، شعرتُ كأنني أغسله من كذب الحياة بماء النقاء.
وأحياناً... أحياناً حين أكتب، أشعر وكأنني أستدعي أنبياء المعنى من منافيهم الطويلة... وكأن الكلمات صلاة لا تصعد إلى السماء، بل تهبط على أرواحنا، تطهّرها من دنس اليوميّ والاعتياديّ والمبتذل.
قالوا: القلم سلاح العاجزين. فابتسمتُ، لأنهم لم يعرفوا أن العاجز الحقّ هو من لا يجد كلمةً واحدةً يبني بها جسراً نحو قلبٍ وحيد.
قالوا: الكلمات لا تُشبع. فقلت لهم: بل تُنبت سنابل في أرض الإنسان. وهل هناك فقر أشدّ من أرضٍ لا تحلم؟ وهل هناك غنى أكرم من فكرةٍ تُنقذ إنساناً من اليأس؟
أنا أكتب، لا لأنني أبحث عن منصب بين الحبر والهواء، بل لأنني أفتّش عن وجهي في مرآة اللغة، عن اسمي بين رماد القرون. أكتب كي لا تنسى الإنسانية ملامحها في زحمة الوحوش، وكي لا تتخلى الطيبة عن معطفها الأخير تحت مطر السخرية والخراب.
بالكلمة تبدأ المعجزة. بالكلمة قُسِم القمر، وبالكلمة انشقت الحروب واندملت. بالكلمة تتعانق الأرواح، أو تتقاتل. بالكلمة ينهض وطنٌ ويُدفن آخر.
نحن لا نكتب للذين يبتلعون المعنى كما يبتلعون حبّة دواء، بل لأولئك الذين يذوقونه كما تُذاق القطرة الأولى من المطر بعد جفافٍ طويل... نكتب لأولئك الذين يسمعون أنين الورق حين يُخدش، ويشمّون رائحة النار تحت الرماد حين يمرّ حرفٌ مشتعل.
نكتب لزرع الورود في خرائط الدم، ولرسم النوافذ في جدران السجون... نكتب لأننا، ببساطة، لا نستطيع ألا نكتب.
في البدء، لم يكن الإنسان.
في البدء، كانت الكلمة.