بقلم: د. عدنان بوزان
إن رأيتَ لا مكانَ لكَ بين وجوهٍ ألفتَها صبيّاً، ثم غدت مرايا عمياء لا ترى فيك سوى غريبٍ يطرق الأبواب على استحياء، فانهض... وهاجر.
هاجر، وإن كان الفجرُ يبكي على حافة وسادتك كلَّ صباح. وإن تركتَ خلفك أرصفةً كتبتَ عليها أشعارك الأولى، وأشجارَ توتٍ كانت تحفظ اسمك، وعجوزاً كانت تضع لك الخبز على النافذة.
هاجر، وإن خانتك خطاك حين هممتَ بالرحيل، فإنما هي الرجفةُ الأخيرةُ لقدمٍ علقت في وحلِ وطنٍ لم يتسع لقلبك.
أنقذْ ما تبقّى من عمرك... ذاك الذي ضاع كحبرٍ على ورقٍ لم يُقرأ، كأغنيةٍ لم تجد أذناً تُنصت، كقصيدةٍ تمزقت في مهبّ خطبٍ لا تنصت إلا لمن يصرخ بالكذب، ويُجيد الرقص في مزاد الخيانة.
لا تظن أنك وحدك... نحن كثيرون. نحمل حقائبنا في صدورنا، لا في أيدينا، ونكتب على جدران القلب: "هنا مرّ وطنٌ، ولم يتوقّف."
يا من لم يجد لنفسه ظلّاً في شمس عشيرته، ولا مقعداً في عرس قبيلته، ولا اسمه في قائمة المنتظرين حول مائدة العدل... لا تخف، فالمنفى أرحم من عناقٍ مشوبٍ بالخناجر، ومن وطنٍ يراكَ غريباً إن فكّرت، متهماً إن صمتَّ، وخائناً إن حلمتَ بأكثر من جدارٍ، ولقمةٍ، ونشيدٍ كاذب.
هاجر... فإنك حين تعبر الحدود، لا تهرب من الناس، بل تهرب من النسخ المزوَّرة منهم، من أولئك الذين فرّغوك من ذاتك، وعلّقوا على ظهرك يافطةً تقول: "لا يصلح إلا خادماً لطوابيرهم."
اخرجْ كما يخرج الحرفُ من رحم الصمت، كما يهرب الضوءُ من ثقوب الظلام. لا تلتفت، فالحنين قاتلٌ مأجورٌ في هذه الحكاية، يتقن طعنات الذاكرة.
واعلَمْ... أن الشجرة لا تموت إن اقتُلعت من أرضها، لكنها تحتاج إلى تربةٍ لا تبصق جذورها، إلى سماءٍ لا تمطر حجارة، إلى رياحٍ لا تكسر أغصانها لأنها غريبة.
قد يكون المنفى هو الوطن الأول... ذاك الذي يمنحك اسمك دون وصاية، ويمنحك حق البكاء دون تجريم، ويفتح لك باب الحرية دون أن يسألك عن نسبك.
فلا تتردَّد...
أنقِذْ ظلك من المقصلة، أنقِذْ قلبك من المهانة، وأنقِذْ ما تبقَّى من عمرك المهدور. فالكرامة لا تُباع في الأسواق، لكنها تُشترى بثمن الرحيل.
وإن سألوك يوماً: "لمَ غادرت؟"
فقل: "لأنني لم أجد مكاناً لي بينهم... فصنعت لي مقعداً في الغربة، أضع عليه قلبي، وأكتب."