بقلم: د. عدنان بوزان
كأنّنا كنّا نركض داخل حلمٍ يُطفئ أقدامنا كلّما اقتربنا من ضوئه.
كأنّ العمر لم يكن سوى طريقٍ تملؤه نوافذ مغلقة، نحدّق من خلف زجاجها بخوفٍ صامت، نترقّب شيئاً لا نعرف اسمه، وننتظر أحداً لا نعرف وجهه. مررنا كالعابرين في قصيدةٍ لم تكتمل؛ كنّا نكتب أنفسنا بالحبر الخفيّ، ونرسم وجوهنا على ضباب الزمن، وكلّما اقتربنا من اليقين... مسحه الوقت بكفّه وابتسم ساخراً.
لقد شابت الأيام قبل أن يشيب الرأس، وهرِمت اللحظة من ثقل الانتظار، واختبأت الطفولة في تجاويف القلب كعصفورٍ مذعورٍ من رعد الكبار. كبرنا ونحن نظنّ أنّنا نمسك بخيوط الحلم، ولم ندرك أنّ الحلم، مثل الدخان، كلّما قبضنا عليه... اختفى.
كأنّنا عقدنا هدنةً مع الحياة دون أن نوقّع. عشنا كما أرادت، لا كما تمنّينا. كنّا نحلم ببيتٍ تطلّ شرفته على سماء زرقاء، فتحوّل البيت إلى جدران صامتة لا تردّ السلام. أردنا أن نضحك، ولكنّ الضحكة كانت تتكسّر في الحلق كشظايا الزجاج. تمنّينا أن نحب، فإذا بنا نمنح الحبّ لقلبٍ لا يسمع... وننزف من قلبٍ لا ننساه.
كلّ شيء بدا بسيطاً... حتى الحلم. كنّا نريده بيتاً دافئاً، يدًا تُمسك بنا حين تتعب الروح، أغنيةً نهمسها في الغروب، لا أكثر. ولكنّ الزمان كان بخيلاً، يقيس عطاياه بالملمترات، ويمنحنا الفرح بجرعاتٍ كأنّها منقّطة على خرائط الخيال.
وأمّا الذكريات... فهي أجمل كذبةٍ صادقة. تحنو علينا حين تنكسر الأيام، لكنّها لا تملك القدرة على إرجاع دقيقةٍ واحدة ممّا انقضى. هي كنقشٍ على الرمل، تبقى لتشهد، لكنّها لا تحمينا من المدّ.
نحن الذين أحببنا الحياة، وغنّينا لها، وسهرنا نعدّ نجماتها، صفعتنا فجأةً بوجهها الآخر: وجهها الملطّخ بالخذلان، والمثقّل بالأسئلة التي لا أجوبة لها. نحن الذين ظننّا أنّ الأيام تسير على توقيت قلوبنا، أدركنا أنّها تمضي على مزاجها، لا على صبرنا.
يا لغرابة هذا الوجود! كأنّنا دُمى تلهو بها ريحُ الغياب. كأنّ كلّ شيء كُتب بالحبر السرّي على صفحات الزمن، لا يُقرأ إلّا بعد أن ينتهي الفصل.
لكن... لا بأس.
فالخسارات علّمتنا أن نكون أقوى من الدموع، وأنّ الجروح ليست سوى أبوابٍ نُجبر على عبورها كي نكتشف أنفسنا من جديد.
علّنا، في نهاية هذا الطريق، حين يهدأ كلّ شيء، نجد طفولتنا تنتظرنا في زاوية الضوء، تمدّ يدها إلينا وتقول:
"تأخّرتم... لكنّكم عدتم."