بقلم: د. عدنان بوزان
لا شيء أقسى من أن تنظر خلفك، فتجد أن كل ما مضى لم يكن سوى كذبةٍ جميلةٍ تتقن الخداع. وأن الزمن، الذي ظننّاه حليفاً، كان طوال الوقت يعدّ أنفاسنا، يسرق دفءَ أحلامنا، ويقايض أعمارنا بذكرياتٍ مشوّهة.
في ليلةٍ خرساء، كانت الأرواح تغفو على الأرصفة، والعين ساهرة تحدق في الفراغ، كأنها تنتظر شيئاً لن يأتي. في تلك الليلة بالذات، وقفتُ أمام المرآة فلم أرَ شيئاً. كنتُ هناك، جسدٌ مبللٌ بالخذلان، وروحٌ ترتجف من البرد… ليس برد الشتاء، بل برد اللامعنى… برد السنين التي تمضي ولا تخلّف سوى تجاويفٍ عميقة.
الزمن لم يكن يوماً عادلاً. كُتب علينا أن نكون ضحاياه، أن نحمل أوزار الحكايات الناقصة، أن نولد في الجُمل المعترضة، ونُدفن في النقاط الأخيرة. من قال إن السنين تُعلّم؟ لقد أخذت منا أكثر مما منحت. نهبت براءتنا، وسرقت وجوه أحبّتنا، وعلّمتنا أن لا شيء يدوم… حتى الذاكرة.
كتبت الحياة قسوتها على صدر الليل، كأن الليل دفتر أحزانها، وكأن صدره وحده يتسع لكل هذا الثقل. كانت تكتب بأظافرها، بدموع اليتامى، بصرخات الأمهات، بأحلامٍ أُجهضت، وبحبٍ لم يُمنح فرصة النضج. الليل يشهد، لكنه لا يتكلم. يضم الجراح كراهبٍ معتزل، يبلع الصرخات ولا يشتكي.
لم نطلب من الزمن شيئاً سوى أن يمرّ بلين، لكنه اختار أن يمر ببطءٍ مهين، كمن يطعننا على مهل، ويبتسم وهو يراقب نزيفنا الداخلي. قالوا إن الزمن يداوي، لكنهم لم يقولوا كم سيموت فينا قبل أن يُشفى جرحٌ واحد. قالوا إن الغد أجمل، لكنهم لم يقولوا إن بعض الغدود تولد ميتة، تموت قبل أن تبزغ شمسها، وأن الطريق إليها محفوفٌ بالخذلان، وأن كل خطوة فيها تُكلف جزءاً من الروح.
وحين أحببنا، كان الحب مجرّد محاولة أخرى للبقاء، للتشبث بشيء حيّ وسط هذا الخراب العام. لكنه أيضاً لم ينجُ من قانون الزمن. فالأحبة يمضون، والوعود تذبل، والمشاعر تُنسى كما تُنسى أسماء الموتى على القبور المجهولة. كأننا عشنا لنشهد أفول كل شيء أحببناه، لنُدفن أحياء في ركام الأشياء التي أردناها لنا.
يا لهذا الزمن… كم كنتَ قاسياً حين جعلتنا نحيا دون حياة، نضحك ونحن ننكسر، نُظهر القوة ونحن ننهار، نكتب عن الأمل بمداد الخوف، ونرسم الشمس على جدران لا يصلها الضوء. لم تكن عجلة الأيام هي ما يسحقنا، بل تلك اللحظات الساكنة التي لا تتحرك، التي تتكرر بلا معنى، بلا جديد، بلا خلاص.
في كل مساء، هناك من يضع رأسه على وسادة باردة، ويهمس: “إنها تمضي… لكنها لا تُشفى.”
وفي كل فجر، هناك من يقوم من فراشه مثقلاً، لا لأنه استراح، بل لأنه لم يمت بعد.
نحن أبناء هذا الزمن، جيل وُلد بين أنقاض الأحلام، وتربّى على حكايات لا تنتهي نهاية سعيدة. نحمل في صدورنا نعوشاً صغيرة، ندفن فيها لحظاتنا، أحبّتنا، طفولتنا، وحتى ضحكاتنا. لا نطلب من الزمن أن يعود، فقط أن يتوقف، ولو قليلاً، أن يمنحنا فرصة للالتقاط، أن يترك لنا مساحة نكتب فيها حياتنا بأيدينا، لا بخطّ فصوله الجافّة.
لكنّ الزمن لا يسمع. الزمن لا يعبأ. وكل ما تبقّى لنا هو أن نكتب، أن ندوّن وجعنا كمن يصنع شاهد قبر، لعلّ أحدهم، ذات مساء، يمرّ على الكلمات… ويفهم.