بقلم: د. عدنان بوزان
ها نحن نسير، لا لأن الأرض مفروشة بالسكينة، بل لأن أرواحنا تأبى أن تختزل في الركام. نمضي فوق الحصى الحادّ، وأقدامنا مثقوبة بالصمت، نحمل وجوهاً هادئة كأنها لم تعرف العواصف، فيما تتأجج في أعماقنا براكين لا تفيض. نضم شظايانا بحذر، نخيط تمزقاتنا بخيوط من عناد، ونرتق الفراغات التي أحدثها الغياب، حتى لا يرى أحد كم تكسرنا في الخفاء.
نجهد صدورنا كي تبقى قائمة، ونحشو نبضنا بالصلابة، ونقف على حواف الانكسار وكأننا لم نسقط يوماً في هوّة. نحمل أوزان الأيام كجنود منسيين، لا يسمع أنينهم، ولا يلتفت إليهم أحد، لكنهم يواصلون السير لأن المعركة لا تنتظر.
لا نكمل الطريق لأن الطريق سهل، بل لأننا خلقنا على هيئة الذين لا يعرفون الاستسلام، أولئك الذين يتعلمون كيف يتنفسون تحت ركام الخيبات، وكيف يبتسمون وهم على وشك السقوط. نكسر صمت الألم بابتسامة تخفي ما لا يقال، ونغلق على دموعنا أبواب الجفون حتى لا تهرب أمام الغرباء.
لقد اعتدنا أن نحيا في قلب المعركة، أن نرفع وجوهنا في وجه الريح، أن نزرع في حنايا صدورنا ألف شجرة صبر، وأن نداري نزيف الروح بضمادات الأمل. نمشي متهالكين، لكننا نبدو للعابرين بخير، لأننا منذ زمن أدركنا أن البقاء ليس للذين لا يصابون، بل للذين يتقنون فنّ النهوض بعد كل سقطة، ولو كانت السقطة الأخيرة.
إننا لا نكمل لأننا أقوياء، بل لأننا لا نعرف كيف نتوقف، ولأن فينا بذرة تقاوم حتى حين تيبس كل الحقول. نحن الذين نحمل في صدورنا وجعاً يكفي لمدن بأكملها، لكننا نوزعه على نبضاتنا بالتساوي، فلا يثقل قلبنا أكثر مما يحتمل. نمشي، ولو انكسرت أرواحنا، ونقول: "نحن بخير"… لا لنقنع الآخرين، بل لنقنع أنفسنا أننا ما زلنا هنا، وأننا ما زلنا أحياء.