بقلم: د. عدنان بوزان
اعتنق الصمت كما يعتنق البحر أسراره في أعماقه، وكما يخبئ الليل أنين العاشقين في ظلمته؛ فالصمت أحياناً ليس انكساراً، بل تاجٌ يعلو على ضجيج العالم. لا شيء أنبل من أن تحاور نفسك بعيداً عن أصواتٍ تشبه الطبول في الفراغ، ولا أجمل من أن تصغي لنداء روحك يتردّد في هدوء داخلي لا تدركه إلا الأرواح النقية.
دع الناس يمضون كما تمضي الظلال عند المغيب؛ بعضهم برقٌ خاطف، وبعضهم دخانٌ يتلاشى مع أول نسمة. لا تضع قلبك في كفّ كل عابرٍ، فالقلب أثمن من أن يسلم لوجوهٍ تصنع ابتساماتها كما تصنع الأقنعة. تذكر أن كثيراً مما يقال لا يساوي وزن الريح، وأن كثيراً من المواقف لا تستحق أن تثقل بها حقيبة العمر.
أما الحياة، فلا تحملها كما لو أنك ولدت لتكون خادماً لها. عِشها خفيفاً كما يعبر الطائر سماءه، وكما تندفع الجدائل في مهبّ الريح دون مقاومة. لا تجعلها سلسلةً في عنقك، بل اجعلها بستاناً تمر فيه، فتقطف منه ما شئت من ثمار، وتترك أشواكه خلفك.
ولا تفرط في عاطفتك؛ فإن القلب إذا غمره العطاء بلا وعي ذبل، كما يذبل النهر إن سقي البحر حتى آخر قطرة. امنح بحكمة، أحب بوعي، وابكِ بكرامة. لا تترك نفسك ساحةً مفتوحة لكل ريحٍ عابرة، ولا أرضاً بوراً يلقى فيها الحصى بلا حساب. كن حارساً لمشاعرك كما يحرس الفجر بزوغ الشمس، فلا يبديه إلا حين يحين وقته.
ولا تبتذل روحك في إرضاء الآخرين؛ فالرضى الذي ينتزع من أعماقك قيد، والابتسامة التي تباع على حساب حزنك خيانة لنورك. اجعل نفسك ميزانك، لا توازن بحياة أحد، ولا تقارن قلبك بموازين الآخرين. عشْ لنفسك أولاً، ثم امنح العالم ما يتبقى من فيضك، لا العكس.
وتعلّم أن الصمت أحياناً جوابٌ أبلغ من الكلام، وأن الانسحاب من جدالٍ عقيم أرفع من ألف انتصارٍ على من لا يفهمك. فالعظمة ليست في أن ترفع صوتك، بل في أن تمتلك القدرة على أن تصغي لداخلك حيث يقيم اليقين.
كن كالجبل: لا تهزه العواصف، ولا تغريه المظاهر. وكن كالنخيل: كلما رمي بالحجارة أثمر أطيب الثمار. وكن كالزيتون: صامداً في وجه القرون، عميق الجذور، ثابتاً في العواصف. واحمل داخلك سكينة النهر، فلا يعلو صوته إلا حين يصطدم بالصخور.
واعشْ حراً كما ينهض الفجر دون استئذان، وكما يغسل البحر رمال الشاطئ بمده وجزره، وكما تهب الريح على الجبال دون أن تستشير أحداً. فالحرية ليست أن تفعل ما تشاء أمام الناس، بل أن تمتلك سلامك الداخلي حين تنطفئ الأضواء ويخلو الطريق.
احفظ نار قلبك من أن تتحول رماداً، واحفظ سكونك من أن يبدده صخب العالم. فإن السلام الذي تسكنه نفسك أعظم من كل حروبٍ خارجية، وأثمن من كل انتصارات الآخرين. وتذكر أن العالم قد يسرق منك الوقت، وقد يسرق الناس منك الثقة، لكن لا أحد يملك أن ينتزع منك صمتك إن اخترته ملاذاً، ولا أحد يملك أن يسلبك يقينك إن جعلته وطناً.
فلتَمضِ في الحياة كما لو أنك عابرٌ حكيم: يبتسم للورود ويمضي، يرى العواصف ولا ينكسر، يسمع الضجيج ولا يرهقه. كن أنت، فقط أنت، لا أكثر ولا أقل، فذلك أعظم انتصارٍ يمكن أن تحققه في هذا الوجود.