بقلم: د. عدنان بوزان
مضيت عمري هباءً، لا لأن الحياة خانتني، بل لأنني كنت دائماً أصدق الوعود التي تدفئني لحظةً وتتركني رماداً دهراً. كنت أمشي في الطرقات كأنني أبحث عن بابٍ أعلم يقيناً أنه غير موجود، ومع ذلك أطرقه بعناد طفلٍ يصرّ على أن للريح ذاكرة. كبرتُ وفي داخلي مدنٌ تهدّمت، وأحلامٌ خرجت من ثيابها البيضاء لتلبس السواد. وكلما حاولتُ أن أقول لنفسي إن الغياب مجرد ظلّ، اكتشفتُ أنه وطنٌ آخر يسكن في صدري. والوحدة ليست فراغاً كما يظن الناس، بل هي امتلاءٌ خانق بشيءٍ لا يقال، كأن القلب يرغب بالصراخ لكنه تربى طويلاً على الصمت.
تعبتُ من لومي لنفسي ومن الأسئلة التي لا تنتهي: لماذا تأخرتُ عن نفسي؟ لماذا لم أحمل قلبي يوم كان طرياً وأهرب به إلى مكانٍ لا يعرف هذا العالم؟ لماذا تركتُ أحلامي على عتبة الأيام فالتهمها البرد؟ قلتُ مراراً: سأعود… سأعود. لكن الطرق كانت تتبدل، والوجوه تتلاشى، والنوافذ التي كانت تضيء لي دربي صار زجاجها معتماً كعيونٍ انطفأ فيها الرجاء.
حتى المرآة، تلك التي كانت ملجئي الصريح، لم تعد تذكرني. صرتُ غريباً حتى أمامي، كأن حياتي حادثة عبورٍ طويلة. كنتُ أتدثر بالكبرياء كي لا يرى أحدٌ ندوب قلبي، وأضع ابتسامة هادئة كي لا يفهم العالم أني أبكي من الداخل. وكلما حاولت أن أكتب حزني على الورق، شعرتُ أن اللغة أضيق من أن تسعني، وأن الكلمات مجرد أوعية صغيرة لبحرٍ لا شاطئ له.
ما أقسى أن تتعلم كيف تكون قوياً، لا لأنك قوي، بل لأن الألم لم يمنحك خياراً آخر. وما أقسى أن يمر العمر كطبقٍ من النسيان، نأكل منه سنواتنا ونحن نظن أننا نحتفل بما نحب، فإذا بنا ننتهي غرباء عن كل شيء، حتى عن أنفسنا. أحياناً أشعر أني لم أعش، بل كنتُ أتفرج على حياتي من خلف زجاج: أرى نفسي أمشي، أضحك، أتحدث، ألتقي، أودع، أكتب، أسافر… بينما كان قلبي في دربٍ آخر، يفتّش عن يدٍ لم تأتِ يوماً، وعن صدرٍ يحميني من هذا العالم الذي يلتهم المشاعر كما تلتهم النار الورق.
وفي لحظات الليل الثقيلة، حين يسقط الصمت على كتفي كصخرةٍ داكنة، أفهم أني لم أخسر شيئاً كما خسرتُ نفسي وأنا أحاول أن أكون ما يريده الآخرون. كنتُ مسافراً نحو اللاشيء وأنا أظن أنني أبحث عن وطن. والآن، بعد هذا العمر، صرتُ أعلم أن الرحيل لا يحتاج إلى قطار، بل إلى قلبٍ تعب من الانتظار. وأن الألم لا يشفى، بل يروض. وأن أجمل ما في الإنسان أنه يحاول أن يكمل، رغم كل الانكسارات التي لا يراها أحد.
وهكذا، مضيتُ عمري بين حلمٍ لم أبلغه، وحنينٍ لم يغادرني، ووجعٍ سكنني كروحٍ ثانية. وأنا اليوم لستُ نادماً، بل حزيناً فقط… حزيناً لأنني كنتُ مسافراً نحو النجوم، بينما كان العالم كله يصرخ بي أن أنظر تحت قدمي… لكني لم أفعل، وما زلتُ لا أفعل، وما زلتُ — رغم كل شيء — أؤمن أن في آخر هذا التيه نافذة صغيرة، تفتح على ضوءٍ يعرف اسمي.