بقلم: د. عدنان بوزان
ما زلتُ أراهنُ الصمت… كأنني أضعُ روحي على طاولةٍ من زجاجٍ شفاف، وأنتظرُ الشقوقَ وهي تتسلل في ملامحها ببطءٍ موجع، ببطءٍ يشبه موتَ زهرةٍ كانت تعتقد أن الضوء لا يخون.
كأنني أزرعُ الريحَ في صدري، وأعدُّ الأنفاس التي تموت قبل أن تبلغ أول الطريق إلى الحياة، فأشعر أنني ممتلئ بالهواء… لكنني لا أتنفس.
الصمتُ، يا صديقي، ليس هدوءاً… الصمتُ هو الضجيجُ الذي لا يسمعه أحد، هو الصراخ الذي بلا نبرة، هو الحزن الذي يمشي على أطراف أصابعه كي لا يوقظ العالم، ويوقظك أنت وحدك.
كلما حاولتُ أن أتكلم، انكسرت الكلمات في حلقي كزجاجٍ مكسور.
وكلما حاولتُ أن أبكي، جفت الدموع عند حافة العين، كأنها هي أيضاً ضاقت بالحكاية، وعادت أدراجها دون أن تمسّ الخد.
فاخترتُ الصمت… لا لأن الصمتَ نجاة، بل لأن الكلام صار جرحاً لا ينزف إلا أمام من لا يستحق.
ما زلتُ أراهنُ هذا الصمت… أخضع له كمن يسلم المفاتيح الأخيرة لمدينةٍ سقطت، وأعود إليه كلما ضاقت بي اللغة، وكلما انطفأت المدن في عيوني، وكلما خرجت الخيبات من تحت جلدي مثل أشواكٍ تنبتُ من الداخل ولا يمكن اقتلاعها.
أعرف أن الصمت لا ينقذ أحداً، ولا يعيد غائباً، ولا يرمم قلباً ترك مكشوفاً في منتصف العاصفة. لكنني أتمسك به كما يتمسك الغريقُ بلوحٍ صغيرٍ يظنه شاطئاً، لأن الغريق لا يملك ترف التفكير، بل يملك خوف الغرق فقط.
لقد تعبتُ من الحكايات التي تبدأ ولا تكتمل، من الأبواب التي تبقى نصفَ مفتوحةٍ ونصفَ مغلقة، من الوجوه التي تقترب لتودع، ومن الأحلام التي تصافحني بيدٍ وترحل بالأخرى.
تعبتُ من أن أكون أنا… من هذا الاتساع الذي يسكن صدري، من هذه الروح التي تنكسر ببطءٍ أبدي دون أن تصدر صوتاً، كأنها تخشى أن يسمعها أحد… فيسأل.
لهذا… ما زلتُ أراهنُ الصمت. أمسكُ به كيدٍ باردةٍ أعرف أنها إن أفلتتْ، انفجرتْ كل الأصوات مرةً واحدة. أخفي في ظله تفاصيل قلبي المرهق، وأترك العالم يظن أنني بخير، وأبتسم… لأن لا أحد يفهم أن بعض الابتسامات هي شكل آخر من أشكال البكاء.
أما الحقيقة؟
فهي أنني لم أعد أريد من الحياة شيئاً، إلا أن تهدأَ هذه الحرب الصغيرة، الحرب التي تدارُ بهدوءٍ مروعٍ في قلبٍ لم يعد يجد مساحةً للنجاة.