بقلم: د. عدنان بوزان
في فجر هذا اليوم، وفي لحظةٍ بدت وكأنها خرجت من نصوص النبوءات الكارثية، اندلعت الشرارة التي قد تُؤرخ لانفجار الحرب العالمية الثالثة، لا من أوروبا كما جرت العادة في الاستراتيجيات الكلاسيكية، بل من قلب الشرق الأوسط: من صحرائه المتوترة، وجباله الملتهبة، وحدوده المجبولة بالدم والغاز والأساطير.
لقد بدأت الشرارة قبل أيام، حين تبادلت إيران وإسرائيل ضربات صاروخية وجوية غير مسبوقة في عنفها واتساع نطاقها الجغرافي. لكن ما جرى خلال الساعات الأخيرة يمثل تصعيداً خطيراً لا رجعة فيه؛ فقد أعلنت الولايات المتحدة دعمها الكامل لإسرائيل، وبدأت بتحريك قطعها البحرية والجوية من البحرين وقطر وقواعدها في المتوسط باتجاه الخليج، في ما يشبه استعداداً لمعركة شاملة ومفتوحة.
لكن ما الذي يجعل هذا النزاع مرشحاً للتحول إلى حربٍ عالمية ثالثة؟
دعونا نقرأ تحت سطح اللهب والدخان قليلاً.
أولاً: من مواجهة ثنائية إلى نزاعٍ متعدد الأقطاب
الحروب العالمية لا تبدأ بضربة واحدة، بل بانهيارٍ في منظومة التوازنات الدولية. وفي حالتنا الراهنة، لا نشهد مجرّد صراعٍ إيراني-إسرائيلي، بل انفجاراً لنظام عالمي قديم بات عاجزاً عن احتواء التناقضات البنيوية الكبرى.
إيران، المثقلة بالعقوبات، والمطوّقة أمريكياً، والمشتبكة في ملفات نووية وأمنية إقليمية، تدفع بكل ما تملك من نفوذ، وصواريخ، وحلفاء غير نظاميين للرد على ما تعتبره "عدواناً إسرائيلياً دائماً على سيادتها ومجالها الحيوي".
أما إسرائيل، المحاطة بجبهات ملتهبة من غزة إلى لبنان وسوريا، فلا ترى في هذا التهديد سوى حرب وجود، خصوصاً في ظل تصاعد تحالفات طهران الإقليمية وتمدّد أذرعها المسلحة.
أما دخول الولايات المتحدة على الخط بشكل مباشر، فهو الحدث المفصلي الذي حوّل الصراع إلى شأنٍ دولي بامتياز؛ إذ إن أي ضربة أمريكية مباشرة لإيران لن تمر دون ردٍّ واسع، لا من طهران فحسب، بل من حلفائها الدوليين أيضاً: روسيا، الصين، كوريا الشمالية، وربما حتى من أطراف أوروبية منقسمة بين مصالحها الاقتصادية والاصطفاف الأطلسي.
ثانياً: الشرق الأوسط – ساحة لتصفية الحسابات العالمية
لطالما شكّل الشرق الأوسط مسرحاً لصراعاتٍ بالوكالة، لكنّ الحرب الحالية تختلف نوعياً عن سابقاتها:
- روسيا التي تخوض مواجهة مفتوحة مع الغرب في أوكرانيا، لن تبقى متفرجة على حليفتها إيران وهي تتعرض لقصف أمريكي-إسرائيلي مباشر، خاصة إذا كان الهدف إسقاط النظام كما حدث في العراق وليبيا.
- الصين، التي تراقب التحركات الأمريكية في آسيا، قد ترى في هذه الحرب فرصة استراتيجية لإزاحة النفوذ الأمريكي البحري، وربما شنّ هجوم مفاجئ على تايوان في ظل انشغال واشنطن بجبهاتٍ متعددة.
- كوريا الشمالية، التي تتعطش للظهور في المعادلة الدولية، قد تستغل هذه الفوضى لتجارب نووية جديدة، أو حتى لإطلاق صواريخ بعيدة المدى باتجاه اليابان أو الجنوب.
- دول الخليج تقف بين المطرقة والسندان: بعضها متورط مباشرة في الصراع الإقليمي مع إيران (مثل السعودية والإمارات)، وبعضها الآخر يحاول السير على حبل مشدود بين واشنطن وطهران، مخافة الانزلاق نحو هاوية لا تُحمد عواقبها.
ثالثاً: نهاية عصر "الضربات المحدودة"
الضربات المتبادلة خلال الأيام الماضية لم تكن رمزية أو ردعية كما جرت العادة، بل كانت موجهة إلى أهداف ذات حساسية استراتيجية:
- قواعد عسكرية سيادية.
- مراكز أبحاث نووية.
- مخازن أسلحة استراتيجية.
- منشآت مدنية حيوية (مثل الموانئ ومحطات الطاقة).
هذا النمط الجديد من المواجهة يُسقط منظومة الردع التقليدية، ويُدخل الأطراف في منطق الحرب الشاملة، حيث لم يعد هناك خط رجعة، وكل ضربة تُنتج تصعيداً مضاعفاً، لا تراجعاً.
رابعاً: الأسلحة الجديدة في الحرب القادمة
هذه الحرب، وإن استمرت أياماً فقط، ستكون الأشد فتكاً في تاريخ البشرية المعاصر، ليس بسبب احتمالها النووي فقط، بل بسبب تنوع أدوات الدمار الحديثة:
- حرب سيبرانية شاملة: تستهدف البنوك، شبكات الكهرباء، الأقمار الصناعية، وتُفكك البنية التحتية الرقمية للدول.
- حرب نفسية/إعلامية متطورة: يتم تشكيل وعي الشعوب لحظة بلحظة، عبر الذكاء الاصطناعي، ومنصات إعلامية تموَّل وتُدار لأغراض دعائية وتخريبية.
- حرب اقتصادية مدمرة: سينهار الاقتصاد العالمي، وسينفجر سعر النفط، وستدخل الأسواق في موجات متزامنة من التضخم والانكماش والانهيار.
خامساً: العالم بعد الحرب... إن بقي عالم
في السيناريو الأكثر تشاؤماً، قد تنهار عدة دول في الشرق الأوسط في فوضى تشبه ما حدث في سوريا والعراق وليبيا، لكن بوتيرة أعلى بكثير، لأن هذه المرة تشمل دولاً مركزية مثل إيران، وإسرائيل، وربما تركيا.
أما في حال استخدام السلاح النووي – حتى لو على مستوى "قنابل تكتيكية" في الخليج أو أوكرانيا أو بحر الصين – فإننا سندخل حقبة "ما بعد الإنسان"، حيث تتلاشى القوانين الدولية، وتنهار الأعراف الدبلوماسية، ويتحول العالم إلى مزيج من الرعب والنجاة الفردية.
السيناريو الأكثر واقعية في الأفق القريب، هو انهيار جزئي للنظام الدولي، وظهور تحالفات جديدة خارجة عن المنظومة الغربية التقليدية:
قد تنسحب الولايات المتحدة جزئياً من الشرق الأوسط منهكة، وتخرج روسيا خاسرة لكنها محاربة، وتبرز الصين باعتبارها القوّة التي ستعيد رسم الخريطة الجيوسياسية للعالم.
سادساً: هل من فرصة للتراجع؟
الجواب الواقعي: شبه معدومة.
لقد تجاوز العالم عتبة الرجوع، لا بسبب التهور وحده، بل لأن الحسابات الداخلية لكل طرف لم تعد تسمح بالتراجع:
- الولايات المتحدة بعد فوز ترامب بولاية ثانية، تتبنى سياسة هجومية صارمة هدفها استعادة “هيبة الردع الأمريكي” في العالم، وترى في أي تراجع نكسةً استراتيجية في وجه الصين وروسيا.
- إيران، وقد فقدت حليفها الأهم في دمشق، وانسحب حزب الله من المشهد اللبناني بعد ضربة قاصمة، أصبحت ترى أن معركتها مع إسرائيل وأمريكا هي معركة بقاء لا مناص منها، خصوصاً بعد فشل كل محاولات التهدئة عبر القنوات الخلفية.
- إسرائيل لم تعد تثق بأي ضمانات مستقبلية، خصوصاً بعد انهيار النظام السوري وتفكك محور المقاومة التقليدي، وتعتبر أن الفرصة سانحة لتصفية التهديد الإيراني إلى الأبد.
- روسيا والصين، اللتان واجهتا لسنوات محاولات تطويق ونزيف عبر العقوبات والحروب بالوكالة، لا تريان في هذا الانفجار الإقليمي خطراً، بل لحظة تاريخية لإعادة صياغة ميزان القوى العالمي، حتى ولو بثمن مرتفع.
في ظل هذه الاصطفافات والمواقف، لم يبقَ للمفاوضات مكان. لقد تم اغتيال لغة الدبلوماسية، وصمتت كل قنوات الوساطة. الميدان وحده يتحدث الآن، وما سيقوله لا يُترجم إلا بلغة الدم والخراب.
سابعاً: الحرب النفسية والمعلوماتية – السلاح غير المرئي الذي يحسم نتائج المواجهة
في زمنٍ تتشكل فيه "الحقائق" عبر الشاشات لا في ساحات القتال، غدت الحرب الإعلامية أحد أخطر أدوات الهيمنة والتدمير في هذا الصراع. فقبل أن تنطلق الطائرات، كانت الجيوش الرقمية قد بدأت فعلاً هجومها:
- التضليل الإعلامي: كل طرف يسوّق روايته، يصنع "حقائقه الخاصة"، ويعيد تشكيل وعي الجماهير بما يخدم مصالحه.
- الهجمات السيبرانية: شلل في الأنظمة المصرفية، إسقاط لشبكات الملاحة، تعطيل للمستشفيات، ونشر ممنهج للذعر.
- الذكاء الاصطناعي كمحارب خفي: أدوات تكتب الأخبار الزائفة، تحلل الرأي العام، وتوجه المزاج الشعبي بما يناسب الطرف المهيمن.
وما يثير القلق أن هذه الحرب تُخاض ضد الشعوب أكثر مما تُخاض ضد الجيوش، فتنهار الجبهات من الداخل، قبل أن تُسمع أولى صافرات الإنذار.
ثامناً: الدول العربية – بين الهروب من الجحيم والانزلاق فيه
تجد الدول العربية نفسها اليوم في لحظة وجودية حرجة؛ فهي من جهة مُدرجة ضمن خرائط النفوذ، ومن جهة أخرى غارقة في صراعاتها البنيوية الداخلية، وغالبيتها غير مهيأة لتحمل تبعات حرب عالمية كبرى.
- العراق: سيكون أولى ساحات التمدد أو الانتقام الإيراني عبر الميليشيات المتحالفة معها.
- سوريا: لم تعد الساحة الإيرانية التي كانت لعقد من الزمن. مع سقوط نظام الأسد وانهيار البنية العسكرية الرسمية، تحولت البلاد إلى فراغ جيوسياسي مفتوح تتصارع عليه قوى إقليمية ومحلية دون مركز قرار واضح. الوجود الإيراني تقلّص إلى جيوب مشتتة، ما جعل طهران تفقد واحدة من أهم منصات الردع الإقليمي.
- لبنان: يعيش لحظة ما بعد تفكك فعلي لحزب الله كقوة قتالية مركزية، بعد سلسلة ضربات عسكرية ومصرفية ومجتمعية جعلت الحزب ينهار من الداخل. الجنوب لم يعد جبهة نشطة، وبيروت لم تعد مسرحاً للحرب المفتوحة، بل أصبحت منطقة هشّة في قلب عاصفة، يمكن أن تستغلها قوى أخرى لخلق فوضى أمنية أو اغتيالات سياسية، لكن ليس كجزء من جبهة مقاومة منظّمة كما في السابق.
- الخليج: عرضة لضربات انتقامية مباشرة، سواء على منشآت النفط أو على البنى التحتية الحيوية.
- مصر والأردن: في وضع حرج بين التزامات اتفاقيات السلام والضغوط الشعبية الرافضة لأي اصطفاف.
وما لم تُبدِ هذه الدول قدراً عالياً من الحكمة والتنسيق الدفاعي المشترك، فإنها مهددة بالتحول إلى قطع شطرنج في معركة لا تملك قرار بدئها، ولا تملك وسيلة لإيقافها.
تاسعاً: تركيا – المتأرجحة بين الحلم الإمبراطوري والجحيم الإقليمي
تقف تركيا اليوم في وضع استراتيجي معقّد:
- هي حليفة للناتو، لكنها تحتفظ بعلاقة تكتيكية مع روسيا.
- تعارض السياسات الإيرانية، لكنها تخشى من فراغ إقليمي في حال سقوط النظام في طهران.
- تسعى للهيمنة على شمال سوريا والعراق، لكنها تخشى التورط في صراع متعدد الجبهات.
وفي حال انخرطت عسكرياً إلى جانب الولايات المتحدة أو إسرائيل، فستواجه رداً عنيفاً من طهران ووكلائها. أما إن اختارت الحياد، فربما تفقد دورها الإقليمي لصالح أطراف أخرى.
من المرجح أن تلعب أنقرة دوراً رمادياً مزدوجاً: تدعم بعض العمليات خلف الكواليس، وتطرح نفسها وسيطاً علناً، بينما تحشد قواتها على حدودها الجنوبية تحسباً لانفجار شامل.
عاشراً: أوروبا – المتفرج القلق والمأزوم اقتصادياً
يعيش الاتحاد الأوروبي حالة انقسام داخلي عميق:
- فرنسا وألمانيا: تسعيان إلى الحؤول دون حرب جديدة بعد تجربة أوكرانيا الكارثية.
- بريطانيا وبولندا: تضغطان باتجاه دعم غير مشروط لإسرائيل والولايات المتحدة.
لكن أي انخراط أوروبي مباشر سيؤدي إلى:
- موجة لجوء جديدة وغير مسبوقة من الشرق الأوسط.
- ارتفاع جنوني في أسعار الطاقة، تهدد بإغراق أوروبا في ركود اقتصادي طويل.
- ازدياد خطر العمليات الإرهابية أو الهجمات السيبرانية ضد مدنها الكبرى.
لذا، فإن الموقف الأوروبي هش ومُتردد، وأقل قدرة على الصمود في وجه الضغط القادم من ميادين النار والمصالح المتشابكة.
الحادي عشر: إسرائيل – بين البقاء والانتحار الاستراتيجي
تخوض إسرائيل اليوم أخطر حروبها الوجودية:
- من جهة، تسعى إلى القضاء على الخطر الإيراني المتصاعد، وتفكيك أذرع طهران المسلحة المحيطة بها (حماس، حزب الله، الحشد الشعبي...).
- من جهة أخرى، تواجه أزمة داخلية غير مسبوقة: انقسام سياسي، اختناق اقتصادي، وتمزق اجتماعي.
وفي حال استُهدفت منشآت استراتيجية كـ"ديمونا" أو صواريخ طويلة المدى، فقد تلجأ إسرائيل إلى خيار شمشون: تدمير المنطقة قبل أن تُدمر هي.
ذلك السيناريو، رغم فداحته، لم يعد مستبعداً في ظل انفلات التصعيد.
الثاني عشر: روسيا – من أوكرانيا إلى الخليج
روسيا، المنهكة في أوكرانيا، ترى في أي محاولة أمريكية لإسقاط النظام الإيراني تهديداً مباشراً:
- لأنها ستفقد أحد أبرز حلفائها.
- ولأنها ستُطرد فعلياً من الخليج والشرق الأوسط.
قد لا تتدخل موسكو عسكرياً في إيران، لكنها قد تلجأ إلى فتح جبهات بديلة:
- تصعيد الحرب في أوكرانيا.
- إشعال التوتر في البلقان.
- تزويد إيران بأنظمة دفاعية متقدمة ووسائل ردع استراتيجية.
أياً يكن، فإن روسيا لن تسمح بانتصار أمريكي صريح، وستوظف كل أوراقها لإعادة فرض "توازن الرعب".
الثالث عشر: الصين – المستفيد الصامت الذي قد ينقض فجأة
تتابع الصين المشهد بحذر، ولكن دون غفلة. وهي تنتظر اللحظة التي تنشغل فيها واشنطن بجبهات متعددة لتقوم بتحركات كبرى:
- ضم تايوان أو فرض أمر واقع بحري جديد.
- السيطرة على بحر الصين الجنوبي وممرات التجارة العالمية.
- كسر هيمنة الدولار وإعادة صياغة الاقتصاد العالمي.
كما أن بكين قد تدعم إيران اقتصادياً، وتزيد تعاونها الاستخباراتي والعسكري مع موسكو، على أمل إعادة تشكيل ميزان القوى العالمي لصالح الشرق.
الرابع عشر: سيناريوهات الردع النووي – هل اقترب "الزر" من الإصبع؟
الخطر الأكبر في هذه الحرب ليس عدد الجنود، بل عدد الرؤوس النووية. وماذا لو:
- قصفت إسرائيل مفاعل "نطنز" النووي الإيراني؟
- ردّت إيران بقصف "ديمونا"؟
- روسيا ستستخدم "قنبلة نووية تكتيكية" في أوكرانيا؟
- أعلنت كوريا الشمالية ستدخل الحرب وستطلق صواريخ باليستية بعيدة المدى؟
مجرد استخدام واحد للسلاح النووي – ولو على نطاق محدود – سيكسر المحرم الدولي، ويفتح الباب أمام سباق تسلّح أو فناء جماعي لا يمكن وقفه.
الخامس عشر: هل نحن أمام إعادة ترسيم خريطة العالم؟
هذه الحرب لن تنتهي بتوقيع معاهدة، بل بانهيار منظومات:
- الدولة الوطنية كما نعرفها ستفقد معناها في عدة مناطق.
- التحالفات الدولية ستُعاد صياغتها بالكامل، وقد تُستبدل "أمريكا أولاً" بـ"أمريكا أخيراً".
- الخريطة الجيوسياسية ستُرسم بالدم، لا بالحبر.
- الإنسان نفسه سيكون ضحية – لا فقط بالموت، بل بانهيار المعنى والانتماء والثقة.
نتائج الحرب العالمية الثالثة: من فناء النظام القديم إلى ولادة نظام كوني جديد
- نهاية الأقطاب... وانهيار النظام الدولي القديم
مع نهاية هذه الحرب، لن يبقى في العالم ما يُعرف بـ"القطبية السياسية". لا القطب الأمريكي، ولا الروسي، ولا حتى الصيني سيخرج منتصراً كما في الحروب التقليدية.
بل ستحدث تحولات كبرى على الشكل التالي:
- تفكك مفهوم "القوة العظمى": إذ ستُستنزَف كل قوة في جبهتها الخاصة، ولن تتمكن أي واحدة من الانفراد بقيادة العالم.
- نشوء نظام ما بعد القطبية: عالمٌ مفتّت إلى كتل اقتصادية وثقافية، تتقاطع لا على أساس القوة العسكرية، بل على أسس تكنولوجية ومناخية وسكانية.
- سقوط النظام الغربي الليبرالي: بعد أن استنفد شرعيته الأخلاقية باستخدامه العقوبات والحروب كأدوات دبلوماسية، سيدخل الغرب مرحلة ما بعد الهيمنة، متراجعاً إلى الداخل.
إنها نهاية "عصر الإمبراطوريات" السياسية، وبداية "زمن الشبكات" والعوالم الموازية، التي تُبنى خارج الجغرافيا والسيادة التقليدية.
- من النيوليبرالية إلى اشتراكية رقمية كوكبية
الاقتصاد العالمي، بعد ما شهد من انهيارات، سيدخل طوراً جديداً قاعدته البقاء الجماعي بدل الربح الفردي. فبعد تفكك الأسواق، وانقطاع سلاسل التوريد، وانهيار البورصات، سيسعى العالم إلى نظام أكثر عدالة واستقراراً.
ومن أبرز ملامحه:
- ظهور اشتراكية رقمية: تعتمد تقنين الثروة وتوزيع الموارد عبر أنظمة ذكاء اصطناعي، وتُؤطر الاستهلاك ضمن مفاهيم "الاستهلاك الأخلاقي".
- إعادة تأميم القطاعات الحيوية: كالطاقة، والغذاء، والصحة، والمياه، بعد أن أثبتت الأسواق الحرة فشلها في إدارة الأزمات.
- نشوء حكومات رقمية شبه شيوعية: لا تقوم بالضرورة على أيديولوجيا ماركسية، بل على برمجيات تحكم وتخطط وتنفّذ بلا فساد أو تسييس.
اقتصاد السوق المتوحش يُدفن، وتولد عقلانية جماعية تهدف إلى إنقاذ الإنسان من الإنسان ذاته.
- عملة رقمية موحدة... ونهاية الدولار
أحد أكثر التحولات تأثيراً سيكون في البنية النقدية العالمية:
- انهيار الدولار كعملة احتياطية: نتيجة فقدان الثقة بالاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، وتحويل العقوبات إلى سلاح مالي فتاك.
- ظهور عملة رقمية كوكبية موحدة: قد تُصدر عن هيئة مالية عالمية جديدة، أو تحالف دولي بقيادة الصين وروسيا، وربما تُدار بشكل لامركزي بتقنية البلوك تشين.
- هذه العملة ستكون معيار التبادل العالمي، وتنهي سيطرة العملات الوطنية على الأسواق.
إنه سقوط السيادة النقدية للدولة، وبداية عصر الهيمنة الرقمية المالية العابرة للحدود.
- تفكك الأديان التقليدية وبروز "الدين الإبراهيمي الموحد"
الحرب لم تقتل الجغرافيا فقط، بل أصابت الميتافيزيقا في مقتل. الأديان التوحيدية الثلاثة ستواجه لحظة زلزال داخلي وجودي:
- فشل الخطاب الديني الكلاسيكي في احتواء الكراهية أو منع المجازر سيؤدي إلى انهيار مصداقية المؤسسات الدينية.
- سقوط الطوائف والمذاهب: نتيجة فقدان الحدود، وتهجير الشعوب، وتلاشي الانتماءات المحلية.
- ظهور "الدين الإبراهيمي الموحد": لا كدين تقليدي، بل كرؤية فلسفية توحيدية، تُقدَّم كحل روحاني بديل يوحّد القيم الأخلاقية، وتدعمه قوى دولية لإحلال السلام الرمزي بعد الانهيار.
قد يتحول هذا الدين إلى "مرجعية أخلاقية كونية"، بديلة عن الشريعة والكنيسة والحاخامية.
- تحوّلات الإنسان: من المواطن إلى الكائن الشبكي
الإنسان، ما بعد الحرب، لن يكون كما كان قبلها:
- انهيار مفهوم "المواطنة القومية" لصالح "الهوية الشبكية"، حيث ينتمي الأفراد إلى مجتمعات رقمية عابرة للحدود.
- تحول الإنسان إلى كائن رقمي-ميتافيزيقي: يعيش بين الواقع والواقع المعزز، يبحث عن المعنى بعد فناء القيم.
- إعادة تعريف الإنسان: هل هو سياسي؟ رقمي؟ أخلاقي؟ مبرمج؟ أم ناجٍ من العدم فقط؟
سنشهد لحظة إعادة اختراع الإنسان: فلسفياً، أخلاقياً، وتكنولوجياً.
- بداية "عصر ما بعد الأرض" – نحو حضارة فضائية
ربما تكون من أعظم نتائج الحرب هذه:
- تسارع مشاريع الاستيطان في الفضاء: لم يعد المريخ خيالاً علمياً، بل ملجأً استراتيجياً للهاربين من الأرض.
- تطوير تقنيات العيش خارج الكوكب: مدن تحت سطح الكواكب، أنظمة غذائية مغلقة، وشبكات اتصالات فضائية.
- ظهور فلسفة "الإنسان النجمي": الذي لم يعد يرى الأرض وطناً، بل نقطة بداية لرحلة الكائن العاقل في الكون.
ختاماً: حرب لم يعد بالإمكان تجنبها؟
في اللحظة التي تساقطت فيها الصواريخ على طهران وتل أبيب، لم تكن الحرب قد بدأت فحسب، بل ربما كانت محاولات السلام القديمة قد دُفنت إلى الأبد. فالحرب العالمية الثالثة لم تكن حدثاً مفاجئاً، بل نتيجة طبيعية لعقود من الكراهية المؤجلة، والمصالح المتضاربة، ونظام عالمي قائم على الخداع والهيمنة.
السؤال اليوم لم يعد:
"هل بدأت الحرب؟"
بل:
"من سينجو منها؟ وهل ما تبقى من هذا العالم يستحق النجاة؟"