بقلم: د. عدنان بوزان
في هذه اللحظة المحتدمة، حيث تتقاطع الصواريخ مع القرارات، وتتداخل الجبهات مع المصالح الدولية، يعود الشرق الأوسط ليقف مجدداً فوق فوهة التاريخ، لا بوصفه مجرد جغرافيا مشتعلة، بل باعتباره المختبر الأكبر لإنتاج خرائط جديدة من رماد الدول المنهارة.
حرب أخرى تُضاف إلى سجل الحروب التي لم تُغلق صفحاتها يوماً.
لكن هذه الحرب مختلفة؛ لأنها ليست مجرد نزاع مسلح بين طرفين، بل معركة كبرى تُشبه نهاية مرحلة وبداية أخرى.
إنها التنفيذ العلني لخارطة "الشرق الأوسط الجديد"، لا بالحبر كما كان يُخطط لها في المكاتب، بل بالدم والدمار، وبقرارات مؤجلة يعود تنفيذها الآن بالقوة.
- حرب إيران – إسرائيل: من الظل إلى الانفجار
منذ أيام، اندلعت مواجهة مفتوحة بين إيران وإسرائيل، تجاوزت حدود الاشتباكات غير المعلنة التي استمرت لسنوات في الخفاء.
لم يعد الصراع مقتصراً على "حرب بالوكالة" تديرها الميليشيات من اليمن إلى لبنان، بل تحول إلى مواجهة مباشرة تُستهدف فيها المدن، والمراكز العسكرية، ومفاصل القوة الحيوية.
إنه صراع إقليمي شامل، يتدحرج نحو حرب كبرى تهدد النظام الإقليمي برمّته، وتعيد تشكيل التحالفات، وترسم خرائط جديدة للنفوذ السياسي والعسكري في المنطقة.
المدن تتعرض لقصف واسع النطاق. شبكات الكهرباء، المطارات، القواعد العسكرية، ومراكز القيادة الإيرانية في طهران وفي سوريا والعراق ستُدمّر تباعاً.
إسرائيل، بدعم استخباراتي وتقني واسع، تحاول توجيه ضربات دقيقة إلى بنية المشروع الإيراني الإقليمي، بينما ترد إيران بأسلحتها التقليدية والصاروخية البالستية مباشرة وعبر أذرعها المنتشرة في الإقليم.
- الولايات المتحدة: ما قبل العاصفة... والمشاركة المؤجلة
حتى لحظة كتابة هذه الكلمة، لم تتدخل الولايات المتحدة رسمياً في الحرب، غير أن المؤشرات السياسية والعسكرية توحي بأن دخولها بات وشيكاً، وربما لا يفصلنا عنه سوى ساعات أو أيام قليلة.
التحركات البحرية، رفع الجاهزية في قواعدها بالخليج، والاجتماعات الطارئة في البنتاغون، تشير جميعها إلى أن قرار التدخل قد اتُخذ، وأن ما يجري الآن هو تحديد التوقيت والسياق المناسبين للتنفيذ.
ولا يُنظر إلى التدخل الأميركي اليوم بوصفه مجرد "مساندة لحليفتها إسرائيل"، بل باعتباره خطوة استراتيجية أعمق: تنفيذٌ عملي لمخطط قديم-جديد يهدف إلى تفكيك مراكز القوة في الشرق الأوسط، وبناء نظام إقليمي جديد على أنقاض الدولة المركزية، تماماً كما حدث في العراق، وكما يُجرّ إليه المشهد الإيراني اليوم.
- "الشرق الأوسط الجديد": من الخرائط الورقية إلى الخرائط الدموية
منذ أكثر من عقدين، تم الترويج لمشروع "الشرق الأوسط الجديد"، بوصفه رؤية تتجاوز خرائط سايكس – بيكو القديمة، وتسعى إلى تفتيت الدول الكبرى وتحويلها إلى كيانات طائفية أو قومية أو إثنية متناحرة.
الحرب الجارية اليوم ليست مجرد رد فعل على حادث أو تصعيد، بل هي لحظة البدء الفعلي في تنفيذ هذا المشروع على الأرض بالنار والدم:
- تفكيك إيران يعني سقوط آخر دولة مركزية متماسكة في الإقليم، بعد العراق وسوريا.
- العراق مهدد بالعودة إلى الفوضى، في ظل هشاشة توازناته الطائفية والسياسية.
- سوريا، المنهكة والمجوفة، ستُستخدم كأرض عبور ومعركة متعددة الجبهات.
- لبنان مرشّح لانفجار داخلي كبير بشكل أوسع في الصراع.
- اليمن سيُوظَّف كورقة ضغط على الخليج، عبر الحوثيين المرتبطين بطهران.
- أما الخليج، فلن يكون بمنأى عن الخطر، في ظل تهديد مباشر للمنشآت النفطية والممرات المائية الاستراتيجية.
- ما بعد الحرب... ما الذي سيتبقى من الدولة؟
ليست هذه حرب جيوش تقليدية، بل حرب شاملة على مفهوم "الدولة الوطنية" في الشرق الأوسط نفسه. ففي كل حرب معاصرة، كانت الدولة تخرج أضعف، والمجتمع أكثر انقساماً، والهوية الوطنية أكثر هشاشة. نحن أمام مشروع تفكيك طويل الأمد، لا يفضي إلى سلام، بل إلى فوضى مزمنة تُستثمر استراتيجياً من قِبل القوى الكبرى.
إذا سقطت إيران كدولة مركزية، فلن تظهر على أنقاضها ديمقراطية، بل فسيفساء من الدويلات: كوردية، أذرية، بلوشية، عربية، ومناطق فارسية مغلقة على نفسها.
وحين تسقط آخر أعمدة الدولة المركزية، تتحول المنطقة بأسرها إلى ساحة مفتوحة للتدويل، حيث يُنقل القرار من العواصم الوطنية إلى غرف العمليات في واشنطن وتل أبيب وموسكو.
- ما العمل؟ وأين صوت العقل؟
في زمن الصواريخ، تضعف الحكمة. وفي ضجيج الطائرات، يُهمَس صوت العقل. لكن لا مفر من السؤال: هل ما زالت هناك فرصة لولادة مشروع من داخل شعوب المنطقة، لا يقوم على السلاح بل على الوعي والرؤية والمسؤولية؟ هل يمكن لشرق أوسط جديد أن يولد لا من تحت الركام، بل من داخل الإرادة الشعبية، على أساس من العدالة، والحرية، والكرامة، والديمقراطية؟
الشرق الأوسط يُعاد تشكيله الآن، رغماً عن إرادة شعوبه. لكن التاريخ علّمنا أن الشعوب التي تنهار لا تموت، وأن تحت الرماد دوماً يبقى جمر ينتظر ريحاً نقيّة كي تشتعل به من جديد.
فهل تكون هذه الحرب بداية النهاية، أم بداية الانبعاث من قلب الحطام؟