بقلم: د. عدنان بوزان
ما يجري في سوريا لم يعد مأساةً غامضة، ولا صراعاً معقداً كما يراد له أن يبدو، بل هو نتيجة مباشرة لإنكار الحقوق وغياب الشجاعة. دولة أُديرت لعقود بعقلية الإقصاء، فانهارت عند أول اختبار حقيقي، ثم تحولت إلى ساحة صراع مفتوحة لأن الداخل كان هشاً في الأساس.
من يراقب ما يحدث في أوكرانيا يدرك بوضوح أن العالم لا يتعامل مع الحروب بمعيار واحد. هناك، توصَف الحرب بوصفها تهديداً للنظام الدولي، وتفتح لها أبواب الدعم السياسي والعسكري والإعلامي. أما في سوريا، فقد جرى تطبيع الجريمة، وتحويل المأساة إلى ملف تفاوضي طويل الأمد، كأن السوريين شعب قابل للاستهلاك السياسي، أو قضية قابلة للتأجيل إلى ما لا نهاية.
لكن القاسم المشترك بين الحالتين واضح ولا لبس فيه:
السياسة التي تتجاهل التعدد والحقوق تقود حتمًا إلى الحرب.
في أوكرانيا، شكل تجاهل الهواجس التاريخية والهوية المركبة أحد وقود الصراع. وفي سوريا، كان إنكار التعدد القومي، وفي مقدمته الوجود والحقوق الكوردية، ورفض أي انتقال ديمقراطي حقيقي، من الأسباب البنيوية التي قادت إلى انفجار البلاد واستمرار نزيفها.
ومن هنا، يصبح الموقف الواضح ضرورة لا خياراً:
لا حل في سوريا من دون اعتراف صريح وكامل بحقوق جميع مكوناتها، بلا استثناء ولا انتقائية.
لا دولة قابلة للحياة مع عقلية «الأكثرية الحاكمة» أو شعار «الأمن أولاً».
ولا وحدة وطنية تبنى بالقوة، أو بالتخوين، أو بالإقصاء والنفي السياسي.
إن أي مسار سياسي لا يضع الديمقراطية، والمساواة، واللامركزية السياسية في صلب الحل، ليس سوى مسار لإعادة إنتاج الأزمة لا لإنهائها. لقد أثبتت التجربة السورية أن المركزية الشديدة لم تحمِ الدولة، بل ساهمت في تفككها، وأن القمع لم يصن السيادة، بل فتح الأبواب أمام كل أشكال التدخل الخارجي.
ما تحتاجه سوريا اليوم ليس مؤتمرات إضافية، ولا بيانات قلق جديدة، بل موقفاً سياسياً جريئاً يعترف بالحقائق التالية:
- سوريا بلد متعدد، ولن يكون مستقراً إلا باعتراف دستوري صريح بهذا التعدد.
- الحقوق الكوردية ليست تهديداً للوحدة، بل ضمانة حقيقية لها.
- العدالة الانتقالية ليست ترفاً سياسياً، بل شرطاً أساسياً لأي سلام مستدام.
- والحرية ليست شعاراً خطابياً، بل أساس الشرعية وأي عقد اجتماعي جديد.
بين كييف ودمشق، درس واحد يتجاهله كثيرون:
حين تفشل السياسة في بناء عقد اجتماعي عادل، تتقدم الحرب لملء الفراغ.
وحين يمنَع الكلام الحر، يصبح السلاح لغة البلاد الوحيدة.
وعليه، فإن سوريا لن تنقذ بالقوة، ولا بالإنكار، ولا بتأجيل الحقوق.
ستنقذها فقط سياسة جديدة تعترف بالإنسان قبل الجغرافيا، وبالحقوق قبل الشعارات، وبالشراكة قبل الغلبة.
ومن دون ذلك، فإن الحديث عن «الاستقرار» لن يكون سوى إدارةٍ أطول للأزمة، لا أكثر.