بقلم: د. عدنان بوزان
إن ما أكتبه، وما تراه أنت — أيها الزائر الكريم — ليس سرداً شخصياً، ولا خواطر عابرة، بل هو تجلٍّ لوعيٍ يتجسّد في اللغة ليقرأ ذاته من خلال الآخر. إن العناوين التي تلمحها على عجل ليست مجرد إشارات، بل هي صدى لذاتي في مرآة الوجود، محاولات خجولة لفهم ما لا يُفهَم، أو — على الأقل — لإضفاء المعنى على ما يبدو أنه بلا معنى.
أنا لا أكتب لأنني أمتلك أجوبة، بل لأنني أبحث عن الأسئلة. ولا أكتب لأنني أمتلك الحقيقة، بل لأن الحقيقة ذاتها تكتبني في هيئة سؤال دائم. فالكتابة ليست أداةً للتعبير، بل هي الكائن الذي يعبُر من خلالي. ولهذا، فإن فلسفتي في الحياة ليست موقفاً من العالم، بل هي فهمي لنفسي بوصفها كائناً يتكوَّن عبر علاقته بالعالم، لا قبله.
أنا أكتب، إذن أنا أوجَد... لا لأثبت وجودي، بل لأشكّك فيه.
لقد تحدّث الفلاسفة من قبل عن الإنسان بوصفه عقلاً، أو كائناً مفكراً، أو حيواناً ناطقاً، أو كائناً يتّجه نحو الموت، أو ذاتاً حرّة. لكنني أرى — كما أعي — أن الإنسان هو اللغة التي تقرأ نفسها في مرآة الزمان والمكان، وأن كل محاولة لفهم العالم، ما هي إلا محاولة لفهم الذات عبر تشظياتها في هذا العالم.
الوجود ليس شيئاً خارجنا، بل هو انعكاس وعينا على نسيج الزمن. العالم لا يسبق الذات، ولا الذات تسبق العالم، بل الاثنان يُولدان معاً حين يُولَد السؤال. أنا لا أسبق كتابتي، بل أُولَد في لحظة النص، تماماً كما يُخلق المعنى في لحظة التأويل.
لا أفكّر في الحياة، بل أعيشها كفكرة.
إن رؤيتي الفلسفية تقوم على قلب المعادلة: الفكرة لا تنبع من الإنسان، بل الإنسان ينبع من الفكرة. نحن لا نمتلك الأفكار، بل نحن نُوجَد فيها. ولهذا، فإن معاناتي، وتساؤلاتي، وشكوكي، ليست أعراضاً لوجودي، بل هي صيغته الحيّة. فالألم ليس حادثاً طارئاً، بل هو البنية التحتية للوعي، لأنه يولّد السؤال، والسؤال هو جوهر الإنسان.
الإنسان: الكائن الذي يقرأ ذاته في العدم.
نحن لا نبحث عن الحقيقة إلا لأننا كُتبنا في صفحة بيضاء تُدعى "الوجود". والعدم ليس نقيضاً للحياة، بل شرطها. من دون العدم، لا معنى للامتلاء. ولهذا، فإن كتابتي كلّها ليست سوى محاولة لفهم: لماذا كُتبنا أصلاً؟ ولماذا لا يُترجم هذا "النص الكوني" إلى معنى واحد، بل إلى لا نهائية في التأويل؟
هذه الرؤية — إن شئتَ تسميتها كذلك — ليست فلسفةً مكتملة، بل جرحٌ مفتوح في العقل، يرفض أن يُخاط. إنّها صرخةُ الذات في وجه العدم، وهمسةُ المعنى في أُذن الغموض.