بقلم: د. عدنان بوزان
الإنسان، في جوهره، هو ذلك التمرد الدائم على كل ما يُفرض عليه من خارجه، على كل بنية قيدته أو حاولت تقييده داخل حدود مفهوم ثابت. إنه الكائن الذي لا يرضى أن يُصنّف أو يُحتوى، فكل محاولة لوضعه ضمن إطار مسبق، سواء كان دينياً أو فلسفياً أو اجتماعياً، تصطدم بحاجز الرفض الداخلي لهذا الكائن، الذي هو في الأصل كيان مفتوح لا يُغلق.
هذا الانفتاح اللامتناهي، أو بالأدق "اللا انتماء" إلى أي جوهر أو هوية نهائية، هو ما يجعل الإنسان مركزاً للعبث الإبداعي؛ عبث لا يعني اللامعنى أو اللا جدوى، بل يعني خلق معنى جديد في كل لحظة، معانٍ لا تثبت ولا تُكرّر.
هنا يكمن جوهر الحرية: ليست حرية أن تختار ضمن خيارات جاهزة، بل هي حرية أن تبتكر خيارات جديدة، أن تُعيد صياغة ذاتك وأفقك الوجودي في مواجهة فراغ اللامعنى.
ولنأخذ مثالاً من فلسفة سارتر، الذي وصف الإنسان بأنه "محكوم عليه بالحرية"، لا لأنه حر في كل شيء، بل لأنه مسؤول عن خلق ذاته في عالم بلا خالق أو معلم يسبق وجوده. الإنسان، أمام هذا الفراغ الوجودي، الذي هو الفراغ ذاته، لا يستطيع الهروب إلا بالتمرد على العدمية من خلال الخلق.
لكن هذا التمرد ليس سهلاً، فهو دائماً مصحوب بـ"القلق الوجودي" أو "الاغتراب"، كما عبر عنه هيدغر، ذلك الشعور بالغربة عن العالم وعن الذات، لأن الإنسان يدرك أنه لا يستطيع أن يجد ذاته في شيء ثابت، ولا يستطيع أن يختبئ في هوية محددة أو دور اجتماعي جامد.
ومن هنا، يصبح الإنسان "الهاجس الذي لا يهدأ"، يعيد تشكيل العالم والذات في آن واحد. هو كالرياح التي لا ترضى بالجمود، تثير الرمال والغيوم، تحمل بذوراً جديدة للحياة في وسط الخراب. وهذا التوتر بين التكوين والتفكيك، بين البناء والهدم، هو ما يجعل من وجود الإنسان ظاهرة فريدة لا تشبه سوى نفسها.
في هذا الإطار، يتحول السؤال الوجودي الكلاسيكي "من أنا؟" إلى سؤال أكثر تعقيداً:
كيف أكون مستمراً في أن أكون، دون أن أغلق نفسي في قالب، ودون أن أتنازل عن حريتي في أن أُبدع ذاتي من جديد؟
كيف يمكنني أن أحتضن الفراغ، ذلك اللا مكان، كمساحة للخلق، لا كمكان للضياع؟
هذا هو "التمرد الأخير على اللامعنى"؛ تمرد لا ينفصل عن عجز الإنسان في إيجاد جواب نهائي، بل يتماهى مع هذا العجز كشرط للحرية والخلق. الإنسان إذن لا يبحث عن خلاص، بل عن لحظة إبداع مستمرة ترفض السكون، وعن معنى لا يُفرض بل يُختبر، معنى ينبثق من خضمّ الفوضى واللا معنى.
في عصرنا المعاصر، حيث تتهاوى الروايات الكبرى وتتفتت الثوابت، يصبح هذا التمرد الإبداعي هو المسار الوحيد لوجود إنساني حقيقي، حقيقي بمعنى الخلق المستمر، ليس كاتباً لسيرته فحسب، بل راقصاً فوق عتبة اللا معنى، على وقع نبض الفوضى وجمالها الغامض.