بقلم: د. عدنان بوزان
إنّ قيمة الإنسان ليست صفةً يكتسبها من الخارج، ولا وساماً يعلقه على صدره ليقنع الآخرين بسموه؛ إنها، قبل كل شيء، حقيقةٌ كامنةٌ في أعماقه، تصاغ من نسيج مبادئه، وتتجلى في اللحظات التي ينتزع فيها الزمن الأقنعةَ واحداً تلو الآخر. فالإنسان قادرٌ على ادعاء الفضيلة بيسرٍ لا يكلفه سوى لحنٍ جميلٍ في الكلام، أو موقفٍ مصطنعٍ يقدمه للناس في ساعةٍ يظن فيها أنّ الأنظار متجهةٌ إليه. غير أنّ الزمن — هذا الفيلسوف الصامت الذي لا يخطئ — لا يسمح للادعاءات بأن تعيش طويلاً؛ فهو يمتحنها، ويعري زيفها، ويعيد ترتيب الظلال بحيث لا يبقى في الضوء إلا الجوهر الحقيقي.
ولعل أعظم ما في الإنسان أنه كائنٌ يختبر لا حين يتحدث، بل حين يجبر على الفعل. فالكلمات تنشئ عوالم، لكن الأفعال وحدها تستطيع أن تهدم أو تبني ما لا تملك البلاغة قدرةً على ستره. وبين القول والفعل مساحةٌ لا تقاس بطول الطريق، بل بعمق الصدق فيها. وفي تلك المساحة يسقط كثيرون ممن صنعوا لأنفسهم صورةً زائفة، لأن فضيلتهم لم تكن سوى معطفٍ ارتدوه أمام الآخرين، لا جلدٍ نما من داخل الروح.
إنّ المبادئ ليست شعاراتٍ للزينة الأخلاقية، بل امتحاناتٌ تخاض على مدى العمر. فموقفٌ واحد قد يكشف ما أخفته سنواتٌ من الادعاء، وقد ينسف جداراً بناه صاحبه من الكلمات المتأنقة والتصريحات المنمقة. والنفس التي تغنت طويلاً بالمروءة، إن لم تؤمن بها إيماناً وجودياً، فإن أول عاصفة ستجعلها تتهاوى كقشةٍ في مهب الريح. وهنا يكشف الزمن عن قسوته العادلة؛ فهو لا يستأذن حين يسقط الأقنعة، ولا يرحم من ظن أنّ الفضيلة يمكن استعارتها من الآخرين.
وليس الامتحان الأخلاقي الحقيقي في مواجهة الشدائد وحدها، بل في تلك اللحظات التي يمنح فيها الإنسان القدرة، ويتاح له أن يتصرف بلا رقيب. ففي الخفاء، حين تتعطل سلطة النظرة الاجتماعية، يظهر وجه الإنسان الحقيقي؛ فمَن امتلك كرامةً داخلية لا يحتاج إلى عينٍ تراقبه ليكون مستقيماً، لأن استقامته ليست التزاماً بقانونٍ خارجي، بل خضوعاً لقانونٍ داخلي لا يمليه عليه إلا ضميره. أما من يظهر الفضيلة خوفاً من العقاب أو طمعاً في المديح، فهو لا يملك فضيلةً على الإطلاق، بل صورة فضيلةٍ تنهار عند أول فرصةٍ للتمرد.
وهكذا يصبح الزمن مرآةً لا تجامل أحداً؛ يجلو بها الصادقون نور صفائهم، وينكشف من خلالها زيف أولئك الذين ظنوا أنّ الأخلاق ثوبٌ يستبدل عند الحاجة. والزمن لا يكتفي بالكشف؛ بل يصقل مبادئ الصادقين ويجعلها أكثر رسوخاً، لأن التجارب التي يمرون بها تحول مبادئهم من أفكارٍ إلى طبائع، ومن شعاراتٍ إلى خصالٍ تلتصق بجوهرهم. فالإنسان الذي يحافظ على فضيلته في اللحظة التي كان بوسعه خيانتها هو وحده الذي يحق له أن يقول إن مبادئه ليست زينةً، بل هوية.
إنّ جوهر الإنسان يقاس بقدرته على أن يظل وفياً لنفسه حين تتغير الظروف، وبقدرته على ألا يسمح لأهوائه أن تقوده إلى ما يناقض قيمه، وباستعداده لتحمل ثمن صدقه في عالمٍ لا يكافئ الصادقين دائماً. فليس أصعب على المرء من أن يكون صادقاً في زمنٍ يُعدّ فيه الصدق سذاجة، وأن يكون نبيلاً في مجتمعٍ يحتفي بالدهاء، وأن يكون وفياً في عالمٍ يتقن فنّ الهروب.
ومع ذلك، يبقى الإنسان الصادق هو من لا تغيره الرياح، لأنه اختار أن يكون شجرةً لها جذورٌ لا تقتلع، لا ورقةً تتقاذفها الفصول. هذا الإنسان، حين يمشي في الزمن، لا يخشى انكشافه، لأنه لا يحمل في داخله ما يستحق الإخفاء. أما من يختبئ خلف الأقوال، فإن أول لحظة فعلٍ ستجعله يقف أمام نفسه عارياً، لأن الأفعال — كما قلتَ — شواهد الأقوال، وفي صدق توافقهما يعرف جوهر الإنسان، ويعرف مقدار ما كان يقول وما كان يفعل.
إنّ قيمة الإنسان ليست ما يتصوره عن نفسه، ولا ما يقوله عنه الآخرون؛ بل ما يثبته حين تضعه الحياة تحت مجهرها. وما أكثر اللحظات التي يمر فيها هذا المجهر على البشر فيصفيهم كما تصفي النار المعادن: يبقى الذهب ذهباً مهما طال عليه الاحتراق، بينما يتبخر الطلاء الذي كان يلمع فوق النحاس الرديء.
ولهذا، فإن أعظم درسٍ يمكن أن يتعلمه الإنسان هو أن يعيش كما لو أنّ الزمن واقفٌ خلفه دائماً، يصغي إلى كل كلمة، ويراقب كل فعل، ويدون ما يراه. لأنه لا شيء يتوارى عن الزمن، ولا شيء يبقى في النهاية إلا ما كان أصيلاً في جوهر الإنسان.