بقلم: د. عدنان بوزان
حين يتألمُ القلمُ، وتنحني الحروفُ كما تنحني أغصانُ شجرةٍ عبرَ عاصفةٍ لم تخلف وراءَها إلا صدىً من صمتٍ وندب، أسمعُ في صدري وقعَ حدثٍ لم ينطق بعد. يا قلمي، لا تكن وحيداً في معركةِ الحبر؛ تعالَ نَمشي معاً في أزقةِ الكلام، نوقِظ الكلماتِ التي نامت على وسائدِ الانتظار.
أراكَ اليومَ ترفُّ ريشك على صفحةٍ باردةٍ كجدرانِ بيتٍ مهجور. تتثاقلُ يدكَ فتتركُ أثراً كخيطِ فجرٍ ضعيف، كأثرِ جناحٍ طائرٍ لم يكمل رحلته بعد. ألمٌ يبلوره الورقُ في ثناياه، وحزنٌ تتجلى ملامحه على هامشِ السطر، حيث يلتقي الضوءُ بالظلالِ ويبرزُ وجعاً يعجزُ عنه الوصف. أترى يا صديقي أنَّ الحبرَ اليومَ يكرهُ الرحيل؟ أم أنَّ الحروفَ تعلّمت كتمانَ حزنها في جيوبِ الليل؟
كنتُ أظنُّك ملجأً، ملاذاً آمناً حين تشتدُّ الموجةُ ويغتالُ التعبُ أنفاسَ الصباح. كنتُ أراكَ تشفي جرحاً بكلمةٍ مكسورة، وتحنو على غيماتِ الذكرى حتى تصبِح مطراً. لكنها الأيامُ يا قلمي — تلك التي تصنعُ من الرجلِ طفلاً يتلعثم أمام مرآةِ الذاكرة — فتأخذ منك بريقَك، وتمنحك ثِقَلاً لا يقاس بالمسافات. لا تتهمني: لستُ أنا الذي أرميك في بحرِ العدم، بل أنا المبحر الذي أضاعَ خارطتَه بين همساتِ الخوفِ وصرخاتِ الأملِ.
حين يتألمُ الحرفُ، يصير قصيدةً لا تسمعها آذانُ الناس، بل تنشدها روحي في لحظاتِ الانكسار. ينهارُ ترتيبُ الكلماتِ أمام مجسةِ الذاكرةِ فتخرجُ من فمي جملٌ مفككةٌ كأحجارٍ سقطت عن قوسٍ قديم. والقلقُ يزحفُ على هامشِ الورقِ، يتركُ بصماتِه كأظلالٍ لا تمحى. لكني أعلم — وأنت تعلم — أنَّ الصمتَ أحياناً يكون لغةً أصدقَ من الكلام، وأن فتراتِ الركودِ في اليدِ ليست سوى استعدادٍ لانفجارٍ قادمٍ من الحروف.
تذكر الأيامَ التي سمِعَ فيها صدى قلبي على شفةِ الريشة: كيف كنا نحيلُ الألمَ قصيدةً، ونحوله إلى بابٍ يفتح على مدنٍ لم تسكنها قدمٌ بعد. تذكر الساعاتِ التي غنت فيها الحروف على مِهادِ الليلِ حتى انبثقت نجومٌ صنعت من حبرٍ رقيق، وكيف كنا نسمي الحزنَ باسمٍ آخر: وضوح. يا قلمي، ما هذا الذي يثقل كاهلك الآن؟ هل هو نَفَس موتٍ نعرفه؟ أم لقاءٌ لم يتم؟ أم ذكرى تطوف كالطوفان داخل العظام؟
لا تجزع؛ فكل قلمٍ يبكي، وكل حرفٍ ينهار، لكن في ذلك البكاءِ تكمن ولادة. حين يبكي القلم، تهدأُ المدينةُ داخلي، وتتراكم الحكايا تحت أجنحةِ الليل. هناك، في أقبيةِ الذاكرةِ، نعيد ترتيبَ الحروف كمن يعيد رصفَ شارعٍ تهدم بفعلِ الأمطار. نعيد للسردِ بهارَه ونغسل الكلماتَ من ترابِ النسيان. لا تتوقف عن النزف، فالنزف ليس موتاً، إنما هو طقس التوليد.
أعلم أنني أرهقك، أنني أُطعِمك من لحمِ الجرحِ لعله يشبع عطشَ الحقيقة، لكنك دائماً — حتى في عهدي بالضعف — كنتَ كالسيفِ المنحوت من صبرٍ ووفاء. عندما يعجز الصمت عن حملِ ثِقلِ الوجع، تلح الحروف على أن تقال، حتى لو صارت رفاتَ لغةٍ. سنكتب يا قلمي؛ نكتب لأن الكتابةَ فعل بقاءٍ، لأن الحروفَ تشهد بأننا مررنا، وأن قلوبنا نبضت، وأن أيدينا لم تدفَن مع الظلال.
سأحدثك بصراحةٍ الآن: لعلَّ ما يسلبك الأملَ هو خوفي. خوفي من أن تكون الحكايةُ بلا خاتمةٍ طيبة، من أن يبتلعَ الإحباطُ نهايةَ السطر. لكنك تعلمُ، كما أعلم، أنَّ الخاتمةَ ليست دائماً انتصاراً ولا دائماً هزيمةً؛ هي مجرد نقطةٍ في نَسَقِ الرحلة. وما بقي لي إلا أن أملأ نقاطَ النهايةِ بدايةً. سأرسم من جرحٍ جسراً، ومن كلمةٍ نافذةً، ومن صمتٍ قصيدةً تدعى إلى الضياء.
تذكر معي: أن تجرؤَ على البكاءِ على الصفحةِ ليس استسلاماً، بل هو تعرف على عمقِ الحبر. أن تتركَ الحروفَ تترنّح قليلاً، ثم تقومَ وتصافحَ القارئَ بوجهٍ جديد. أن تكتبَ رغم العتمة، أن تشعل في ورقةٍ خافتةٍ مصباحاً يكفي لصياغةِ اسمٍ واحدٍ — اسمِ إنسانٍ لا غير — وهكذا يعود الوجود إلى كلماته.
لن أطلبَ منك الصمتَ بعد اليوم. سأمسك بك وأعيد ترتيبَ حبرِك، سأمسحُ عنك غبارَ خيبةٍ وأعيدكَ إلى موكبِ السرد. لأنَّ القلمَ لا يخون إلا حين نسمح له أن يقحَم بلا معنىٍ في أفواهِ الفراغ. أما الحروف فستعود لترقص على أنغامِ النبض، تلون السطورَ بألوانِ ما نأمله ونخشى ونحب.
فيا قلمي، إذا بكى ورقي فسأبكي معه، وإذا تلعثمَ حرفي فسأهدهده كطفلٍ، وإذا طالَ الصمت فسأجعله نبضة. سنكتب معاً حتى يترفع الليل عن قلوبنا، حتى تعودَ الكلماتُ من رحلةِ الغيابِ وهي أكثر ضياءً. لأنّما الحبرَ إن جفّ فقد خيراً — وهو البقايا التي تعلمنا أن نبدأ من جديد. وإن وهنَ الرصاص، فلتكن يدنا أقوى: نعيد الحكايةَ ونفعل بها ما يستحق أن تقال.