في مسار الروح: قوة الاختيار بين طريقي الوجود والإنسانية
بقلم: د. عدنان بوزان
في فلسفة الوجود ومعضلات الحياة التي تكتنف الروح الإنسانية بأسئلتها الوجودية، تبرز مفارقة صادمة تحاكي أعمق غاويات النفس وتستفز الوجدان في صميمه. إنها تلك اللحظة الحرجة حين يُفرض على الإنسان اختيار مساره بين طريقين متناقضين بالجوهر، لكنهما متشابكين في رقصة الحياة الأزلية: أن يكون القاتل أو المقتول، الظالم أو المظلوم، الجاني أو الضحية.
إنها دعوة للتأمل في مفهوم القوة والضعف، وفي السياق الأبعد، تساؤل عن جوهر الوجود نفسه. هل القوة حقاً في انتزاع السيادة على الآخر، في تجسيد دور القاتل، الظالم، أو الجاني؟ أم هي في القدرة على الصمود والمقاومة والنهوض من جديد، حتى وإن كنت في موقع المقتول، المظلوم، أو الضحية؟
في هذه المعضلة، يبدو الاختيار أقرب إلى اختبار أخلاقي محض، يقيس عمق القيم والمبادئ التي يتمسك بها الفرد. لكن، هل يجب فعلاً أن يختار الإنسان بين هذه الأدوار المتناقضة؟ أو هل يمكنه أن ينحت لنفسه مساراً ثالثاً يتجاوز هذه التقسيمات الثنائية المخلة بالكرامة الإنسانية؟
القوة الحقيقية، في أسمى تجلياتها، تكمن في القدرة على العيش بمبادئ تعلي من شأن الحياة والكرامة الإنسانية، بغض النظر عن الدور الذي يفرضه علينا الزمان والمكان. إنها تلك القوة التي تمكن الفرد من الوقوف في وجه التيارات العاتية بشموخ، محافظاً على جوهر إنسانيته، متمسكاً بقيم العدالة والرحمة، حتى في أشد اللحظات قتامة.
أن تكون قوياً لا يعني إذعاناً لمنطق الغلبة والسطوة، بل يعني الاحتفاظ بصفاء الروح ونقاء القلب، والسعي لإيجاد طريقة للعيش تحترم الذات وتكرم الآخر. في هذا العالم المترامي الأطراف، حيث تتقاذفنا أمواج الظروف القاهرة، يبقى السعي نحو هذه القوة الداخلية هو السبيل الأمثل للمضي قدماً بكرامة وعزة، في مواجهة التحديات الجسام.
الحياة، بكل تعقيداتها ومفارقاتها، تعلمنا أن القوة لا تكمن فقط في السيطرة والغلبة، بل أيضاً في القدرة على التعاطف والتفهم والصفح. إن الشجاعة الحقيقية تبرز ليس حين نختار أن نكون القاتل بدلاً من المقتول، أو الظالم بدلاً من المظلوم، بل حين نرفض أن نكون جزءاً من هذه المعادلة البائسة التي تفرض علينا الاختيار بين دورين، كلاهما ينتقص من إنسانيتنا.
فالحقيقة الأعمق هي أن القوة الأسمى تكمن في القدرة على خلق توازن بين العقل والقلب، بين العدل والرحمة، بين الصمود أمام الظلم والسعي لتحقيق السلام. هذه القوة تنبثق من الوعي بأننا، في جوهرنا، أكثر من مجرد أدوار نؤديها تحت ضغط الظروف، وأن قيمتنا كأفراد وكمجتمع تتجاوز بكثير هذه التقسيمات السطحية.
علينا أن نسعى دوماً لأن نكون مصدراً للإلهام والأمل، بدلاً من الخوف والدمار. يتطلب ذلك قوة روحية عظيمة وإرادة صلبة للمقاومة والتحدي، لكن أيضاً للتسامح والعطاء بلا حدود. السعي لأن نكون هذا النور الذي يضيء ظلمات الوجود، واليد التي تبني بدلاً من أن تهدم، والقلب الذي يحتضن بدلاً من أن ينبذ.
في نهاية المطاف، الحياة ليست معركة بين القاتل والمقتول، الظالم والمظلوم، أو الجاني والضحية. بل هي رحلة نحو فهم أعمق لذواتنا وللعالم من حولنا، رحلة نحو العثور على القوة في اللطف، العظمة في التواضع، والشجاعة في الرأفة. ليس من الضعف أن نختار طريق السلام والمحبة، بل هو أعلى تجليات القوة الإنسانية وأسمى تعبير عن سنة الحياة والكون.