المال: إله العصر الحديث وتحولات القوى المجتمعية

بقلم: د. عدنان بوزان

في عالمنا المعاصر، أصبحت المادة أو المال القوة المحركة الرئيسية التي تتحكم في مجريات الحياة اليومية للبشر. هذا المفهوم ليس جديداً، بل هو تجسيد حديث لحقيقة قديمة: أن المال، بطبيعته، يحمل في طياته القدرة على تغيير المصائر والتحكم في مصائر الأفراد والمجتمعات. مع هذا الفهم، يتجلى المال كإله حديث للكون والمجتمعات، حيث يفرض سيطرته دون مراعاة للثقافة أو العلم أو الأخلاق.

في المجتمع الحديث، الشخص الذي يمتلك المال يعتبر شخصاً ذو نفوذ وسلطة، حتى وإن كان يفتقر إلى الثقافة أو المعرفة. هذا التمكين الذي يمنحه المال يجعل من المال أداة قادرة على تحويل الآخرين إلى أدوات أو عبيد. فالمال يتيح لمن يملكه إمكانية التحكم بمصائر الآخرين، ويمنحه السلطة لاتخاذ قرارات تؤثر على حياتهم. بهذا الشكل، يصبح المال وسيلة للسيطرة والتحكم، ويعزز الفجوة بين من يملكون ومن لا يملكون.

هذه السيطرة التي يمنحها المال تبرز في مختلف جوانب الحياة. في السياسة، يمكن للمال أن يشتري النفوذ والتأثير، حيث يمكن للأثرياء تمويل الحملات الانتخابية وشراء الولاءات السياسية. في الاقتصاد، يحدد المال من يحصل على الفرص ومن يبقى محروماً منها، مما يؤدي إلى خلق طبقات اجتماعية متفاوتة. حتى في الحياة الاجتماعية، يمكن للمال أن يحدد من يُحترم ومن يُحتقر، ومن يُمنح الفرص ومن يُحرم منها.

هذا التركيز على المال كقوة رئيسية يطرح تساؤلات فلسفية عميقة حول طبيعة القيم الإنسانية. هل المال، حقاً، يجب أن يكون المعيار الذي تُقاس به قيمة الإنسان؟ أم أن هناك قيماً أعمق وأسمى ينبغي أن تُقدّر؟ في ظل سيطرة المال، قد تُهمش القيم الأخلاقية والثقافية، وتصبح المعايير الإنسانية محصورة في إطار القيمة المادية فقط.

من ناحية فلسفية، يمكن أن نرى في هذا التوجه تجسيداً للفكرة النيتشوية عن "إرادة القوة"، حيث يصبح المال هو القوة المطلقة التي يسعى الجميع لتحقيقها والسيطرة بها. لكن هذه السيطرة ليست دائمة، فهي تعتمد على القبول الاجتماعي لمفهوم أن المال يساوي السلطة والنفوذ. إذا تغيرت هذه المفاهيم، قد يفقد المال قوته المطلقة، وتعود القيم الإنسانية الأخرى لتأخذ مكانها الصحيح في تحديد مكانة الأفراد في المجتمع.

إن الإيمان بالمال كإله العصر الحديث يعكس انحرافاً عن القيم التقليدية التي كانت ترى في العلم والمعرفة والأخلاق أسساً لتقييم الإنسان. في المجتمعات القديمة، كان الحكيم والفيلسوف والعالم يحتلون مكانة عالية، لكن اليوم نرى أن هذه المكانة قد اغتصبها المال. هذا التحول قد يكون له آثار بعيدة المدى على تطور المجتمعات الإنسانية، حيث قد يؤدي إلى تعزيز النزعة المادية وتهميش الجوانب الروحية والأخلاقية في الحياة.

لذلك، يجب أن نعيد النظر في مكانة المال في حياتنا، وأن نسعى لتحقيق توازن بين القوة المادية والقيم الإنسانية الأخرى. المال، بلا شك، ضروري لتحقيق حياة كريمة، لكنه يجب ألا يكون المعيار الوحيد لتقييم الإنسان. علينا أن نعيد الاعتبار للمعرفة والثقافة والأخلاق كقيم أساسية تستحق الاحترام والتقدير، وأن نعمل على بناء مجتمع يقدر الإنسان لقيمته الإنسانية وليس لمجرد ما يملكه من أموال.

X

تحذير

لا يمكن النسخ!