عندما يأتي الضجيج من الداخل
بقلم: د. عدنان بوزان
في أحيان كثيرة، تجد نفسك جالساً في مكانٍ هادئٍ تماماً، حيث السكون يلفك كما لو كان يحاول أن يحتضنك بلطف. الهواء ساكن، لا صوت للرياح، ولا ضجيج للمدينة. فقط أنت والمكان، ينعم كلاكما بالصمت، صمت قد يبدو للوهلة الأولى كأنه علاج للنفس المتعبة. ولكن، ما الفائدة من هذا السكون إن كان الصخب الحقيقي يأتي من داخلك؟ إذا كانت زوبعة الأفكار والمشاعر لا تهدأ في قلبك وعقلك، فلا سكون المكان يمكن أن يريحك، ولا هدوء اللحظة يمكن أن ينقذك من العاصفة التي تسكن روحك.
الصمت الخارجي مجرد خدعة، أحياناً يوهمنا بأن الهدوء سيجلب لنا الطمأنينة. لكن الحقيقة هي أن الصمت لا يستطيع إسكات الضجيج الذي ينبع من دواخلنا. كم من مرة جلست في غرفة هادئة، بعيداً عن كل المنغصات، فقط لتكتشف أن صوت أفكارك أعلى من كل ضجيج الحياة؟ في تلك اللحظات تدرك أن الهدوء الخارجي ليس إلا قشرة هشة، تغطي اضطرابات نفسية ومعارك عقلية لا تنتهي.
إن الضجيج الداخلي هو صراع مستمر، هو كل تلك الأفكار التي تداهمك في الليل، كل الأسئلة التي تبقى بلا إجابة، كل الندم، وكل التردد الذي يثقل على قلبك. هو صدى للأحلام التي لم تتحقق، والطموحات التي تم قمعها، والمخاوف التي تسكنك رغم كل محاولاتك لتجاهلها. ذلك الضجيج الداخلي لا يمكن الهروب منه، لأنه جزء منك، إنه مرافق دائم في رحلة الحياة.
نحن غالباً ما نبحث عن الهدوء في الأماكن الخاطئة، نظن أن الهروب من الضوضاء الخارجية كفيل بأن يجلب لنا السلام. نغلق الأبواب، نبحث عن العزلة، نغرق في الصمت الخارجي، ولكن ننسى أن الضجيج الحقيقي هو ذاك الذي يتسلل من أعماقنا. إنه ذاك الصوت الداخلي الذي ينبض دون توقف، يتحرك ويهتز، يقفز بين الأفكار والمشاعر، يبني عوالم من التساؤلات والتناقضات.
الصمت الخارجي قد يمنحنا وهم السكينة، لكنه لا يستطيع أن يعالج جروح النفس. كلما حاولت أن تهرب من الضجيج الداخلي، كلما زادت قوته. إنه كالأمواج التي تضرب صخور الشاطئ، لا تتوقف، ولا تخفت، بل تستمر في التردد على ذهنك وقلبك، حتى عندما تعتقد أنك وجدت مكانًا بعيدًا عن كل الضجيج.
العلاج الحقيقي للضجيج الداخلي لا يكمن في السكون الخارجي، بل في مواجهة ما يجري داخلك. عليك أن تصغي لأفكارك ومشاعرك، أن تحاور نفسك بدلاً من الهروب منها. الأسئلة التي تزعجك، الأحاسيس التي تقيدك، كلها تحتاج إلى أن تُسمع، أن تُفهم، وأن تُحل. السكون الخارجي قد يكون بدايةً، لكنه لن يكون النهاية. المواجهة مع الذات هي المعركة التي لا يمكن تأجيلها أو تجاهلها.
كثيراً ما نلجأ إلى السكون هرباً من هذا الضجيج، نأمل أن الوقت أو المسافة سيفعلان ما نعجز عن فعله، لكن الحقيقة هي أن السكون الخارجي أشبه بمرآة تعكس كل ما نحاول إخفاءه. في الهدوء، نجد أنفسنا مضطرين للانتباه إلى تلك الأصوات التي تتحدث بصوتٍ خافتٍ داخلنا، لكنها قوية بما يكفي لتسيطر على حياتنا بأكملها.
عندما يأتي الضجيج من الداخل، لا شيء في الخارج يمكنه أن يسكنه. لا الفضاء الفسيح، ولا غرفة مغلقة، ولا جبل بعيد يمكن أن يوقف صدى تلك الأفكار. هي تدور في عقلك كدوامة، تلتهم كل لحظة من هدوئك المفترض، وتجعل من السكون مشهداً خادعاً. لكن في نفس الوقت، هذا الضجيج يحمل معه فرصة للنمو. فالأفكار المضطربة والمشاعر المتناقضة ليست سوى علامات على أن هناك شيئاً بحاجة إلى الانتباه والعلاج.
ربما يكون الضجيج الداخلي هو فرصة لفهم أعمق للنفس. فكلما تعمق الإنسان في نفسه، كلما اكتشف زوايا خفية من روحه، قد لا يكون على دراية بها من قبل. قد يحمل هذا الضجيج معه ذكريات مدفونة، أحلام منسية، أو حتى أحاسيس مكبوتة تنتظر الفرصة لتظهر إلى السطح. لكن فقط من خلال مواجهتها يمكن للإنسان أن يجد السلام الداخلي.
إن السكون الحقيقي لا يأتي من الخارج، بل ينبع من داخل النفس. يأتي من التفاهم مع أفكارنا، ومن مواجهة مخاوفنا، ومن القدرة على تقبل أنفسنا بما فيها من تناقضات. هو ذلك اللحظة التي تستطيع فيها أن تنظر إلى داخلك وتجد سلامًا بين كل تلك الأصوات.
في النهاية، عليك أن تدرك أن الضجيج الداخلي ليس عدواً، بل هو إشارة، هو نداء من أعماقك ليتم الاستماع إليه. فلا تبحث عن السكون في الأماكن البعيدة، بل ابحث عنه في قلبك، هناك حيث يمكن أن تجد السلام الحقيقي.