ضوء في أعماق الذات: رحلة الوجود بين الأسئلة والأجوبة
بقلم: د. عدنان بوزان
في أعماق ذاتي، حيث الظلال تتراقص على نغمات الوجود المتناقض، أجدني أبحث عن مخرج من لغز كينونتي، تلك المتاهة اللانهائية التي تسكن أرواحنا. "كيف أهرب من ذاتي؟" سؤال يطاردني، يتردد صداه في ردهات وعيي، فتضيع الإجابات بين السؤال ونفسه.
في رحلتي نحو الفهم، أدركت أن الهروب من الذات ليس إلا وهماً، محاولة يائسة للتنصل من مرآة الحقيقة التي تعكس صورتنا الحقيقية، بكل ما فيها من عيوب وجمال. وهكذا، تصبح رحلة الهروب هذه ليست سوى سير في دوائر مفرغة داخل النفس، تتسع مع كل خطوة نحو الخارج، لتعيدنا أخيراً إلى نقطة البداية، حيث يقبع السؤال الأزلي: "من أنا؟"
هل يمكن للمرء أن يهرب من ذاته حقاً، أم أن الهروب نفسه هو مجرد طريق آخر للعودة إلى الذات بعمق أكبر؟ ربما في سعينا للهروب من أنفسنا، نعثر على جوهرنا الحقيقي، تلك الشرارة الخالدة التي تتوهج في أعماقنا، تنير لنا دروب الوجود بأسره.
وفي لحظة فطنة، تبدو الإجابة واضحة كنقش على صفحة الماء، لا يمكن الإمساك بها، لكن يمكن إدراكها بلمحة بصيرة. لا هروب من الذات، بل تقبل لها، استكشاف لأعماقها، ومواجهة لكل ما تخفيه من أسرار. عبر السفر في متاهات الروح، نكتشف أن كل جواب يحمل بطياته سؤالاً جديداً، وكل نهاية هي بداية لرحلة أخرى في عالم الفكر والتأمل.
إن غموض الوجود ليس عائقاً، بل دعوة للغوص في أعمق مياه الروح، حيث الأسئلة لا تبحث عن إجابات نهائية، بل تسعى لفهم أعمق للحياة بكل تعقيداتها. ففي النهاية، تكمن الحكمة ليس في الإجابات التي نجدها، بل في الجرأة على طرح الأسئلة، والشجاعة لمواجهة الذات بكل ما فيها من غموض وعجائب.
وهكذا، تتكشف أمامنا حقيقة عميقة: أن البحث عن الذات ليس مجرد رحلة خارجية، بل هو انغماس في اللحظات الداخلية التي تنسج أرواحنا، غوص في أعماق النفس حيث تلتقي الأضداد وتتحد. في هذا الاندماج الغامض، يُكشف لنا أن الضوء والظلام ليسا سوى وجهين لعملة واحدة، وأن السلام الحقيقي يأتي من التوازن بينهما، لا من السعي وراء أحدهما على حساب الآخر.
لعل الإجابة التي نسعى إليها بشغف، في سعينا للهروب من ذاتنا، تكمن في القبول، في الاعتراف بأن كل لحظة من لحظات وجودنا هي فرصة لاكتشاف جديد داخل النفس، فرصة للتحرر من القيود التي نفرضها على أنفسنا بأيدينا. فالحرية الحقيقية لا تأتي من الهروب، بل من التصالح مع الذات، من استقبال كل جزء منا بقلب مفتوح، متأملين بحب وتقدير.
ومع كل خطوة نتقدمها في هذا الطريق، نكتشف أن الحكمة ليست في الوصول إلى نهاية معينة، بل في التجربة نفسها، في العيش بوعي كامل لكل لحظة، محتفين بالغموض الذي يحيط بنا. فبكل سؤال نطرحه، نتعلم شيئاً جديداً عن أنفسنا وعن العالم من حولنا. بكل إجابة نجدها، نفتح باباً جديداً يقودنا إلى آفاق أرحب من الفهم والتقدير للحياة.
إن الفلسفة الحقيقية للوجود لا تقوم على الإجابات الجاهزة، بل على الشجاعة في مواجهة الأسئلة الصعبة، الغوص في الأعماق حيث لا ضوء يلوح، ومع ذلك، نجد في تلك الأعماق مصدراً للنور الأبدي، ذلك النور الذي ينبثق من فهمنا لذواتنا وللعالم من حولنا. في النهاية، ربما لا يكون الهروب من الذات هو السؤال الصحيح، بل كيف نعيش بسلام وتناغم مع تلك الذات في كل لحظة من لحظات وجودنا.