لنا رأي آخر: عندما تنتصر المصلحة الخاصة على المصلحة العامة، ينهزم الوطن
بقلم: د. عدنان بوزان
في العمق الفلسفي للحياة السياسية، تكمن أسئلة خالدة حول العدالة والصالح العام والمسؤولية الأخلاقية للفرد تجاه مجتمعه. يطرح التناقض بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة نفسه كإشكالية مستمرة تعصف بأروقة السياسة وتحكم بمصائر الأمم. في هذا الزمن، حيث تعلو أصوات الفردانية وتتقدم المصالح الخاصة على حساب الجماعة، يُطرح السؤال: متى ينهزم الوطن؟
لقد أصبحت السياسة، في كثير من الأحيان، ساحة معركة يتقاتل فيها الأفراد والجماعات للظفر بأكبر قدر ممكن من المنافع، متناسين أن الصراع على المصالح الخاصة يمكن أن يؤدي إلى تآكل النسيج الاجتماعي وينذر بانهيار البنية التحتية للأخلاق العامة. هذا التقاتل، عندما يغلب على المصلحة العامة، يُعرِّض الدولة للخطر ويجعل من الوطن مجرد ساحة للصراعات الداخلية والمنافسات الأنانية.
الفلسفة السياسية تعلمنا أن العدالة هي أساس الدول وأن العمل من أجل المصلحة العامة هو المعيار الذي ينبغي أن تُقاس به أفعال الحكام والمحكومين على حد سواء. إن الانحراف عن هذه القاعدة يُمثل خطراً ليس فقط على النظام السياسي، بل وعلى الهوية الثقافية والوجود المشترك للمواطنين داخل الدولة. فالوطن الذي يُسيّر بوصلته نحو تعظيم المصلحة الخاصة يخسر تدريجياً معنى الانتماء المشترك ويصبح عرضة للفرقة والانقسام.
في ثقافة الكثير من الأمم، نجد أن الاستمرارية على قيم العدل والمساواة والمشاركة الاجتماعية. هذه القيم تشكل ركائز أساسية في بناء المجتمعات وصون تماسكها. عندما نتجاهل هذه القيم الأساسية ونغرق في بحر المصالح الخاصة، نفقد البوصلة التي من شأنها أن تقودنا نحو بر الأمان.
من هنا تأتي الحاجة الملحة لإعادة التفكير في دور الفرد والمجتمع في تشكيل الواقع السياسي والثقافي. يجب أن نستلهم من تاريخنا وثقافتنا الأدوات اللازمة لبناء نظام يعمل لمصلحة الجميع ويحمي حقوق الفرد دون أن يتجاهل الصالح العام. الوطن ليس ملكاً لفرد أو جماعة، بل هو تراث مشترك يجب أن يُحمى ويُعزز من خلال العدل والمساواة.
إن التحدي الذي يواجهنا اليوم ليس فقط في تحقيق التوازن بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة، بل في إعادة تعريف معنى هذه المصالح في سياق يُركّز على الاستدامة والتنمية الشاملة. يجب أن نبني نظاماً سياسياً واجتماعياً يعترف بالتنوع ويقدر الاختلاف كقوة وليس كنقطة ضعف. هذا يتطلب قيادة رشيدة ومشاركة فعالة من قبل المواطنين في صناعة القرار وفي الرقابة على السلطات لضمان عدم تغليب المصلحة الخاصة على حساب الصالح العام. على المستوى الثقافي، يجب أن نعمل على نشر وتعزيز الوعي بأهمية الصالح العام.
التعليم، الإعلام، الفن، كل هذه الأدوات يمكن أن تلعب دوراً محورياً في تغيير الأنماط السلوكية وتعزيز قيم التضامن والمسؤولية المشتركة. يجب أن تكون هذه الجهود متضافرة لبناء وعي جماعي يقدّر العدل ويسعى إلى تحقيقه.
إن الشعوب المتماسكة تمتلك قوة لا يمكن للمحن أن تزعزعها بسهولة، فالوحدة الاجتماعية والتماسك الوطني هما حجر الزاوية لأي مجتمع يسعى لتجاوز الأزمات والمحافظة على استقراره وسلامته. بالنظر إلى الأحداث المأساوية التي شهدتها سوريا، نجد أن الفرقة والانقسام كان لهما دور بالغ في تعميق الجراح وتفاقم الدمار.
في سوريا، كما في كل بلدان العالم التي مرت بأزمات مماثلة، كانت هناك عوامل عديدة أسهمت في الانقسام والفرقة بين أبناء الشعب الواحد. الانتماءات الطائفية، الخلافات السياسية، التدخلات الأجنبية، كل هذه العوامل وغيرها قد لعبت دوراً في تفكيك النسيج الوطني وإضعاف القدرة الجماعية على مواجهة التحديات. النتيجة كانت كارثية: دمار واسع النطاق، تشريد ملايين الأشخاص، وهلاك الكثيرين.
لو كانت الشعوب السورية متماسكة وموحدة في مواجهة التحديات، ربما كان بالإمكان تجنب بعض هذه الأهوال. التماسك الاجتماعي يُمكّن المجتمع من العمل بشكل جماعي لحماية مصالحه العليا ويساعد في بناء دولة قادرة على صد الضغوط والصراعات الداخلية والخارجية. يتطلب هذا النوع من التماسك وعياً عميقاً بأهمية الوحدة والتضامن، وقيادة حكيمة قادرة على رأب الصدع وجمع الشمل.
إن دروس الأزمة السورية يجب أن تكون محور تأمل لكل الشعوب التي تواجه تحديات مماثلة. من الضروري العمل على تعزيز الهوية الوطنية التي تتجاوز كل الفوارق الفرعية وتركز على ما هو مشترك وجوهري. يجب أن تكون التربية والإعلام والثقافة أدوات لتحقيق هذه الغاية، بتعزيز قيم الوحدة والتضامن والمواطنة.
في نهاية المطاف، الشعوب المتماسكة هي التي تستطيع أن تبني مستقبلاً أفضل لأجيالها القادمة. هذه الوحدة تجعل من الصعب على الأزمات أن تهزم وطناً بأكمله، وتعزز من قدرته على النهوض مجدداً من الرماد. الشعوب المتماسكة لديها القدرة على تحويل التحديات إلى فرص للنمو والتطور، وعلى توحيد جهودها في سبيل بناء دولة تتسم بالاستقرار والازدهار.
التعليم والثقافة يجب أن يلعبا دوراً محورياً في هذه العملية. من خلال التعليم، يمكن غرس قيم التفاهم والتسامح والتعايش السلمي بين مختلف الفئات والأطياف داخل المجتمع. الثقافة، من جهتها، يمكن أن تعمل كجسر للتواصل والتفاهم المتبادل بين الأفراد، وكوسيلة لتعزيز الهوية الوطنية وتقدير التنوع الثقافي كثروة وليس كمصدر للانقسام.
الإعلام يجب أن يتحمل مسؤوليته في هذه العملية بكل جدية. بدلاً من أن يكون محركاً للانقسام والفتنة، ينبغي للإعلام أن يعمل على نشر رسائل توحيدية، تسلط الضوء على قصص النجاح المشتركة والتحديات التي تم التغلب عليها من خلال التعاون والتضامن الوطني.
القيادة السياسية لها دور لا يمكن تجاهله في تعزيز التماسك الاجتماعي. يجب على القادة السياسيين أن يكونوا مثالاً للنزاهة والشفافية، وأن يعملوا بلا كلل من أجل مصالح الشعب بأكمله، وليس فقط لصالح جماعات معينة. ينبغي أن يستخدموا مناصبهم لخدمة الشعب، وليس لتحقيق مكاسب شخصية أو جماعية على حساب الوطن.
من خلال هذه الجهود المتضافرة والموجهة، يمكن للشعوب التي تواجه تحديات مماثلة لتلك التي واجهتها سوريا أن تجد الطريق نحو التعافي والتقدم. الوحدة والتماسك ليسا فقط الدرع الذي يحمي الشعوب في أوقات الأزمات، بل هما أيضاً الأساس الذي يمكن أن تبنى عليه مستقبل مشرق ومستقر. وفي النهاية، لكل شعب قوة في وحدته، قوة تمكنه من تحويل مسار التاريخ نحو الأفضل.
في النهاية، يجب ألا ننسى أن الوطن الذي ينهزم عندما تنتصر المصلحة الخاصة على المصلحة العامة، يمكن أن يُعاد بناؤه وتجديده بأيدي مواطنيه. لا تقتصر مسؤولية البناء على القادة فقط، بل هي مسؤولية تقع على عاتق كل فرد في المجتمع. عبر التعاون والتكاتف والإيمان بالقيم المشتركة، يمكن للوطن أن ينهض من جديد كفينيق يخرج من رماد الأنانية والتفكك.