بقلم: د. عدنان بوزان
في قلب المتاهة الوجودية، حيث يتقاطع الإنسان مع أسئلته الأكثر جذرية، تتجلّى المفارقة الأشدّ إيلاماً في تاريخ الفكر: كيف يمكن للعقل، الذي يُفترض أنه أداة تحرّر، أن يتحوّل إلى قيد؟ كيف للحرية، التي نحتفي بها كذروة للوعي الإنساني، أن تُختزل إلى معادلات منطقية، وقواعد عقلانية، وتخمينات معرفية عاجزة عن بلوغ جوهر الكينونة؟ إننا هنا لسنا بصدد سؤالٍ كلاسيكي عن الحرية كقدرة على الاختيار، بل بصدد الغوص في الأعماق الغامضة لفكرة أن الحرية، في معناها الأصيل، هي انتفاضة ضد وهم الفهم ذاته، ضد العقل حين يتحوّل إلى قفص من ذهب.
لقد اعتادت الفلسفة الكلاسيكية أن تضع العقل في صدارة الوجود الإنساني، وأن تمجّده بوصفه الوسيلة الوحيدة لفهم الواقع، وتشييد المعرفة، وتحديد هوية الذات. غير أن الفكر الوجودي، في أكثر تمظهراته عمقاً، جاء ليقلب هذا المسار رأساً على عقب. فالوجود، بوصفه تدفّقاً غير متناهٍ، وحضوراً متحوّلاً لا يعرف الاستقرار، يتعالى على المحاولات العقلانية لاحتوائه أو تمثيله. العقل، بطبيعته البنيوية والمنهجية، يسعى إلى اختزال الكينونة إلى مفاهيم، إلى تحويل الحياة إلى معادلات، والمعنى إلى تعريفات. فهل يكون بذلك خيانة للوجود ذاته؟ هل يتحوّل العقل إلى سلطة ناعمة، تسلب الوجود أصالته باسم التفسير؟
من هذا المنظور، لا تعود الحرية تلك "القدرة العقلانية" التي يتباهى بها الإنسان الحديث، بل تغدو لحظة تمرد على منطق العقل ذاته، لحظة انكشاف الوجود أمام الإنسان كما هو، دون وسيط، دون قناع نظري أو هيكل مفاهيمي. الحرية ليست في الاختيار بين بدائل، بل في الإفلات من الضرورة التي يفرضها نظام البدائل ذاته. إنها القدرة على أن "تكون"، لا وفق ما يمليه العقل، بل وفق ما يتجلّى من تدفق الوجود العاري.
وهنا يكمن التحوّل الجوهري في سؤال الفلسفة: من سؤال "كيف أفكر؟" إلى سؤال "هل يمكنني أن أكون خارج ما أفكر به؟". الوجود ليس موضوعاً معرفياً يمكن للعقل أن يُخضِعه للقياس والتحليل؛ إنه تجربة متجاوزة، قوامها التوتر، والعدم، والمفارقة. الإنسان، في قلب هذا التوتر، ليس كائناً عاقلاً وحسب، بل هو أيضاً كائن ممزّق بين الحاجة إلى الفهم، والرغبة في الانفلات من الفهم.
إن الفلسفة، حين تلامس حدود الوجود، تصبح بدورها فعلاً وجودياً، لا مجرد نشاط نظري. وحين نتأمل العلاقة بين العقل والحرية، لا يعود السؤال: "هل أنا حر لأنني أعقل؟"، بل "هل يمكنني أن أكون حراً فقط إذا تحررت من سطوة العقل؟". تلك هي معضلة الوجودية، وتلك هي المفارقة التي تقودنا إلى إعادة النظر في المفاهيم الكبرى: أن العقل ليس دائماً ملاذنا، وأن الحرية قد تكون في الجنون، في الشعر، في الحلم، في الصمت، في التوق إلى ما لا يمكن قوله.
إننا لا نكتب هنا فلسفة للعقل، بل فلسفة لما يتجاوز العقل؛ فلسفة تُطلّ من نوافذ الكينونة على العاصفة، وتُصغي لارتجاف الإنسان في لحظة انكشافه العاري أمام المجهول. ليست مهمتنا أن نمنح العقل سلطاناً جديداً، بل أن نفضح سلطانه القديم، أن نعيد للدهشة مقامها، وللرعشة الأولى حقيقتها. إن الإنسان لا يُختزل في تفكيره، ولا في وعيه، بل في ذلك الصمت الذي يقطنه حين يفقد كل إجابة، وفي تلك الحرية التي تُولد من رماد المعنى. حين نكتب، فنحن لا نبني جسراً للعقل نحو اليقين، بل نفتح فجوة في الجدار، نُطلّ منها على هاوية المعنى، لنعترف: لسنا كائنات عاقلة فقط، بل كائنات ممزقة، متصدعة، متمردة على تعريفها. إننا نكتب للإنسان حين يرفض أن يكون صورة عقلية أو تصوراً منطقياً، بل حين يقف في مواجهة المدى، يقول: "لن أكون ما يُفكر به العقل وحده، بل ما تُلهمني به الفوضى، والموت، والحنين، والانكسار". هكذا تبدأ رحلتنا: من لحظة سقوط العقل عن عرشه، من لحظة اعترافه بحدوده، ومن تلك الصرخة البدائية التي تهمس في الظلام: "أنا الإنسان... ولستُ صيغةً نهائية".
إن ما نبحث عنه ليس إجابة، بل المسافة بين السؤال والرجاء، بين الفكر والندبة، حيث يولد المعنى لا من اكتماله بل من عجزه عن الاكتمال. إننا لا نؤلف مذهباً، ولا ننحت نظرية، بل نُصغي للأنين الكوني في قلب الإنسان، حين ينهار المعنى القديم ولا يُولد الجديد بعد. في هذه الهوة بين ما يقدر العقل على قوله، وما يعجز اللسان عن ترجمته، نولد نحن—كفلاسفة لما بعد العقل، ككهنة لسرّ لا معبد له. نحن لا ننشد الحقيقة بوصفها صورة نهائية، بل نحيا داخل شظاياها، داخل التمزق الذي يكشف هشاشة كل يقين. فالفلسفة التي نكتبها ليست بحثاً عن الكمال، بل مقاومة له، لأن الكمال صنم العقل، ونحن نحطم الأصنام. نحن نحيا في اللحظة التي ينكسر فيها السؤال على صخرة الوجود، ونشعر بالرغبة المجنونة في أن نكون لا ما نفهم، بل ما نشعر، وما نحلم، وما نخاف. هذه ليست دعوة لللا عقل، بل لحرية أعمق: حرية أن نكون خارج السياق، خارج المعادلة، خارج ما يُفترض بنا أن نكون. نحن شهود على الإنسان وهو يعبر صحراء المعنى، بعينين دامعتين وقلب لا يزال، رغم كل شيء، يؤمن بأن للتيه حكمة.
برأيي، الفلسفة التي تتوقف عند العقل تشبه مرآة لا تعكس سوى ما هو مألوف؛ أما الفلسفة التي تتجاوزه، فهي كنافذة تُفتح على العاصفة. الإنسان ليس عقلاً فحسب، بل تجربة وجودية معقّدة، مليئة بالخوف، والرغبة، والانكسار، والأمل. إن حرية الإنسان الحقيقية تبدأ حين يعترف بضعفه، لا ليستسلم له، بل ليُعيد تعريف نفسه خارج ما يُمليه عليه العقل، وخارج ما يُبرّره المنطق. في هذه المسافة، يولد الإنسان ككائن حر، لا يُحدّه إلا الوجود نفسه.
أولاً: مفهوم الوجود في الفلسفة الوجودية
- ما هو تعريف الوجود في الفلسفة الوجودية؟
- كيف تعاملت الفلسفة الوجودية مع فكرة "الوجود قبل الماهية"؟
- الوجود كصيرورة: كيف تمثل الوجودية مفهوم الوجود كمجموعة متغيرة؟
- العلاقة بين الوجود الفردي والوجود الجماعي في فلسفة سارتر وهايدغر.
في قلب الفلسفة الوجودية، يحتل مفهوم الوجود مكانة مركزية تكاد تلامس كل القضايا الفلسفية الأخرى. إذ لا يمكن فهم الإنسان في سياقه الفلسفي دون الانطلاق من تساؤل جوهري حول "الوجود"، وهو ما جعل الفلاسفة الوجوديون يتناولون هذه المسألة من زوايا متعددة ومعقدة. وإذا كانت الفلسفات التقليدية قد حاولت تفسير الوجود من خلال مفاهيم مثل الجوهر أو الماهية، فإن الفلسفة الوجودية تنقض هذه التصورات عبر مفهوم "الوجود قبل الماهية"، الذي يُعنى بوجود الإنسان أولاً، ومن ثم يصير الإنسان هو من يحدد ماهيته من خلال أفعاله واختياراته.
في هذا السياق، يعتبر الفيلسوف الوجودي جان بول سارتر أن الإنسان ليس له جوهر ثابت يحدده منذ البداية، بل هو كائن يخلق ذاته من خلال ممارسته للحرية والاختيار. الوجود، بالنسبة لسارتر، هو "أن نكون" قبل أن "نصير" شيئاً محدداً. ومن هنا ينشأ التوتر الوجودي بين الوجود والعقل، حيث أن الوجود لا يُختزل في أطر عقلية أو مفاهيم مسبقة، بل هو تجربة حية، عملية، متجددة وغير قابلة للتفسير الكامل. فالوجود ليس حالة ثابتة أو "موجودة" مجردة يمكن للعقل القبض عليها، بل هو صيرورة مستمرة ترفض أن تُحصر في نموذج معين أو إطار محدد.
كذلك، نجد أن مارتن هايدغر، الفيلسوف الوجودي الألماني، يطرح مفهوماً آخر للوجود يتمثل في "الوجود في العالم"، والذي يلفت الانتباه إلى أن الإنسان لا يمكنه فهم نفسه أو وجوده بمعزل عن العالم الذي يعيش فيه. إذ يصرح هايدغر أن الإنسان كائن "موجود مع" وليس "موجود في" كما هو الحال في الفلسفات التقليدية. الوجود بالنسبة له ليس مجرد فكرة عقلية أو تجريدية، بل هو التواجد الفعلي في العالم الذي يتم فيه استكشاف الذات وتحقيق المعنى.
هذه الفكرة تشير إلى أن الوجود ليس مجرد "موجود" عقلي ثابت، بل هو في حالة دائمة من الانفتاح والتجدد، وفي صيرورة مستمرة ترفض أن تُحصَر في تصورات عقلية مغلقة. الوجود في الفلسفة الوجودية ليس شيئاً يمكن الإمساك به بسهولة، بل هو معركة دائمة بين ما نعرفه عن أنفسنا وبين ما نكتشفه عن أنفسنا من خلال تجربتنا الحية في العالم.
لذلك، يمكن القول إن الفلسفة الوجودية تقدم لنا منظوراً جديداً لفهم الوجود كحالة حية، غير ثابتة، وغير قابلة للتفسير العقلي الكامل. إنها دعوة إلى استكشاف الوجود ليس من خلال الأطر العقلية الصارمة، بل من خلال التجربة الإنسانية المباشرة، التي تتيح للإنسان أن يعبر عن ذاته بحرية كاملة، من دون أن يسجن نفسه في قيود الفكر العقلاني التقليدي.
- ما هو تعريف الوجود في الفلسفة الوجودية؟
الوجود في الفلسفة الوجودية لا يُفهم كشيء ثابت أو جوهري، بل كحالة مستمرة من التجربة الحية. في هذا السياق، فإن مفهوم "الوجود" ليس مجرد حالة موضوعية يمكن إدراكها أو تحديدها بسهولة، بل هو تجربة شخصية ومعيشة يتعرض فيها الفرد لأسئلة الوجود والمصير. الوجودية لا تسعى إلى تحليل الوجود من خلال مفاهيم جوهرية ثابتة أو قوانين عقلية صارمة، بل ترى أن الإنسان يواجه "وجوده" كما هو، غير مستند إلى أية تصورات مسبقة أو معايير خارجية.
يُعرَف الفيلسوف الوجودي جان بول سارتر الوجود بأنه التحقق المستمر للذات عبر اختياراته وأفعاله الحرة. في تصوره، فإن الإنسان لا يولد وهو يملك ماهية محددة، بل "يكون" أولاً قبل أن يصبح شيئاً مُحدداً. هذا يعني أن الإنسان موجود قبل أن يعرف من هو، وهو ليس شيئاً مكتملاً بل مشروع دائم التكوين. الإنسان الوجودي، إذن، ليس مجرد كائن طبيعي بل كائن يخلق ذاته بشكل مستمر من خلال الفعل والاختيار.
أما في فلسفة هايدغر، فالوجود يُفهم من خلال "الوجود في العالم". الوجود لا يُفهم بمعزل عن العالم الذي نعيش فيه، فالإنسان لا يعيش في فراغ معرفي أو مجرد تفكير عقلي، بل هو دائماً في تفاعل مع العالم المادي والاجتماعي. الوجود بالنسبة لهايدغر هو التواجد الفعلي، وليس مجرد فكرة أو مفهوم يمكن عزلها. ولذلك، يعكس مفهوم الوجود عنده تجاذباً مستمراً بين الإنسان والعالم، بين وجود الفرد ووجود الآخرين. إن الوجود ليس شيئاً يمكن التعرف عليه بمفرده، بل هو دائم الارتباط بالمحيط الذي يتواجد فيه الإنسان.
- كيف تعاملت الفلسفة الوجودية مع فكرة "الوجود قبل الماهية"؟
فكرة "الوجود قبل الماهية" هي من المفاهيم الجوهرية التي ساهمت الفلسفة الوجودية في إبرازها. هذه الفكرة تقوم على التفريق بين الماهية التي تتحدد بموجب قوانين أو مفاهيم ثابتة، وبين الوجود الذي يسبق هذا التحديد. بالنسبة لسارتر، هذه الفكرة تعني أن الإنسان ليس موجوداً ككائن معين أو معرف مسبقاً، بل هو موجود في البداية بدون ماهية. الماهية لا تحدد الإنسان، بل هو من يحددها بنفسه من خلال أفعاله واختياراته. بمعنى آخر، الإنسان ليس كائناً يُعرف مسبقاً، بل هو الكائن الذي يصير ويُكوّن ذاته عبر الزمن.
الوجودية تسعى إلى تحرير الإنسان من فكرة "الجبر الميتافيزيقي" الذي يفرض عليه من قبل القيم الاجتماعية أو الثقافية أو العقائدية. فإذا كان الإنسان يُولد مع ماهية معينة، كما يفترض الفلاسفة التقليديون، فإنه يكون محكوماً بها طوال حياته. ولكن في فلسفة سارتر، يتحدد الإنسان عبر أفعاله الشخصية، ويخلق معناه الخاص. فكرة "الوجود قبل الماهية" هنا تمثل نوعاً من الثورية الفلسفية التي تدعو إلى التحرر من الهويات الجاهزة والانطلاق نحو بناء الذات.
- الوجود كصيرورة: كيف تمثل الوجودية مفهوم الوجود كمجموعة متغيرة؟
الوجود في الفلسفة الوجودية يُفهم كصيرورة لا نهاية لها من التغير والتطور، وهو بعيد عن الفهم التقليدي للوجود كشيء ثابت أو موجود بالفعل. الوجود ليس سكوناً، بل هو حركة دائمة نحو الذات وتحرر مستمر من القيود. هذا المفهوم يُمكّن الإنسان من النظر إلى ذاته ككائن غير مكتمل دائماً، يواجه المجهول ويعيش في حالة دائمة من الاحتمال والتغير.
لقد اعتبرت الفلسفة الوجودية أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يدرك وجوده، ومن خلال هذا الوعي يمكنه أن يختار كيف يكون في العالم. صيرورة الوجود تعني أن الإنسان يتطور ويتغير باستمرار وفقاً لما يختار أن يكونه، وهذا يتناقض مع فكرة الثبات. الحرية، هنا، هي أساس الوجود وتحديده. كما أن الألم والشك والعزلة جزء لا يتجزأ من هذه الصيرورة، إذ يواجه الإنسان في كل لحظة من لحظات وجوده أسئلة محورية حول ذاته، عن مغزى الحياة وعن الطريقة التي ينبغي له أن يعيش بها.
مفهوم الصيرورة في الفلسفة الوجودية يعكس صورة عن الإنسان الذي لا ينتهي أبداً من استكشاف نفسه، وهذا يتجسد في أفكار سارتر وهايدغر. بينما يرى سارتر أن الوجود هو مشروع مستمر، وأن الإنسان لا يمكن أن يُعرف إلا من خلال أفعاله وقراراته، يرى هايدغر أن الإنسان هو "كائن في الوقت"، يعني أنه موجود في لحظة معينة من الزمن، ويظل دائماً في حالة انفتاح على المستقبل.
- العلاقة بين الوجود الفردي والوجود الجماعي في فلسفة سارتر وهايدغر
الفلسفة الوجودية ليست مجرد تأمل في الوجود الفردي فحسب، بل تسلط الضوء أيضاً على علاقة الفرد بالآخرين وبالعالم الجماعي. في نظرية سارتر، العلاقة بين الوجود الفردي والوجود الجماعي تُنظر من خلال مفهوم "النظرة" أو "النظرة التي يفرضها الآخر". فكل فرد، في نظر سارتر، هو مشروع يتحقق من خلال التفاعل مع الآخرين، حيث يكتسب معناه وهويته من خلال نظرة الآخر. هذه العلاقة التفاعلية بين الفرد والآخرين تؤدي إلى ما يسميه سارتر "الجحيم هو الآخرون"، حيث يشعر الفرد بالعزلة والضغط بسبب القيود الاجتماعية التي يفرضها الآخرون عليه.
هايدغر، من جهته، ينظر إلى الوجود الفردي من خلال مفهوم "الوجود مع الآخر". في رأيه، لا يمكن فهم الفرد دون فهمه في سياق مجتمعه والعالم الذي يعيش فيه. ففي فلسفته، يُعتبر الإنسان كائناً اجتماعياً بطبعه، حيث أنه لا يستطيع أن يكون ذاته بشكل منفصل عن الآخرين. وعلى الرغم من أن هايدغر يولي اهتماماً كبيراً بالوجود الفردي، فإنه يشدد على أن الإنسان لا يُفهم بشكل كامل إلا من خلال علاقاته العميقة مع الآخرين ومع العالم.
باختصار، بينما يؤكد سارتر على عزلته الفردية وصراع الإنسان مع نفسه والآخرين، ويصوّر الحرية كعبء يُلقى على كاهل الذات المنفردة في عالم خالٍ من المعنى المسبق، يُقدّم هايدغر رؤية أكثر تعقيداً للوجود، حيث لا تُفهم الذات في انفصالها بل في انخراطها العميق ضمن شبكة الوجود المشترك. فبالنسبة لهايدغر، الإنسان ليس ذاتاً معزولة تواجه عبث العالم، بل هو "الدازاين"، الكائن الذي يكون-في-العالم، وهذا الوجود لا يتحقق إلا عبر الانفتاح على الآخر، وعلى الإمكانات التي يُتيحها الحضور المشترك في الزمان والمكان.
الوجود عند هايدغر ليس تجربة داخلية صامتة، بل علاقة، انكشاف، افتقار دائم للثبات، وتجلٍّ مستمر لما لم يُكتشف بعد. في هذا الإطار، لا يكون الآخر جحيماً كما يرى سارتر، بل شرطاً ضرورياً لفهم الذات نفسها. الآخر ليس تهديداً لحريتي، بل هو مرآة وجودي، هو من يُوقظني من غفلتي، ويمنحني فرصة أن أرى ذاتي كما لا أستطيع وحدي. هكذا ينتقل الوجود من كونه صراعاً فردياً إلى كونه حدثاً وجودياً تشاركياً، حيث تنفتح الذات على العالم لا لتُلغى، بل لتُعمّق فهمها لذاتها بوصفها جزءاً من كلّ أكبر، لا يمكن إدراكه إلا عبر التلاقي، والتصادم أحياناً، مع وجودات أخرى.
في هذا المفهوم، لا تكون الحرية مجرد اختيار فردي في فراغ، بل فعلاً أصيلاً ينبع من الوعي بالزمن، بالموت، وبالمسؤولية أمام الذات والآخر والعالم. وهكذا، يمدّ هايدغر الفلسفة الوجودية بجذرها الأنطولوجي العميق، ويجعل من اللقاء مع الآخر لحظة تأسيس للذات، لا تهديدًا لها.
ومن هنا، يصبح الوجود الإنساني عند هايدغر ليس مجرد تجربة ذاتية، بل انكشافاً دائماً في أفق الـ"هناك" (الدازاين) الذي لا يوجد إلا بوصفه منخرطاً في العالم ومع الآخرين. فالإنسان لا يسبق وجوده عالمٌ خارجي ثم يدخل فيه، بل يولد في قلب هذا الانخراط: في اللغة، في الثقافة، في الزمن، وفي القلق الوجودي الذي لا ينفصل عن حضور الآخر. بينما يرى سارتر أن الآخر يسلبني حريتي من خلال نظرته، يجعلني موضوعاً في عالمه، فإن هايدغر يرى أن اللقاء مع الآخر لا يُلغي الذات، بل يوقظها من وهم الاستقلال التام، ويجعلها تدرك أنها ليست "أنا" مكتفية بذاتها، بل "نحن" تتشكل عبر الزمن والانفتاح.
الآخر، في هذا السياق، ليس خصماً بل دلالة على أن الوجود ليس عزلة، بل شبكة من الإمكانيات التي لا تكتمل إلا بالانكشاف والتجاوب. إن الذات لا تُعرّف فقط من خلال ما تختاره، بل من خلال ما تنفتح عليه، وما تتلقاه بوصفها إمكانية أن تكون أكثر مما تظن. هنا تتجاوز الحرية معناها التقليدي كاختيار فردي، لتصبح فعلاً وجودياً نابعاً من الوعي بالكينونة المشتركة. ولهذا، فإن هايدغر لا يبحث عن حلول في الصراع بين الأنا والآخر، بل يدعونا للتأمل في الصمت المشترك بيننا، في التجارب التي لا تُقال، ولكنها تُعاش. هناك، في هذا العمق الصامت، يُعاد بناء المعنى، لا على أنقاض الذات، بل على اتساعها.
ثانياً: العقل وفهم الوجود
- كيف يحدد العقل الوجود؟ وهل العقل يملك القدرة على فهم الوجود؟
- العلاقة بين الوعي والعقل في الفلسفة الوجودية: هل العقل قادر على إدراك الوجود ككل؟
- النقد الوجودي للعقلانية: هل العقل خائن للوجود؟
- هل يمكن للعقل أن يضع إطاراً ثابتاً للفهم في ظل طبيعة الوجود المتغيرة؟
في اللحظة التي وُهب فيها الإنسان القدرة على التفكير، بدأ صراعه الطويل مع الوجود. كان العقل، منذ بداياته، الأداة التي من خلالها سعى الإنسان إلى فهم هذا الوجود المترامي الأطراف، المتحول، المراوغ. غير أن هذه الأداة، على ما فيها من قدرة على التحليل والتركيب، لم تكن يوماً محايدة أو كافية لإدراك المعنى العميق للوجود. هنا تماماً يبدأ التساؤل الفلسفي الذي أتبناه: هل العقل وسيلة لفهم الوجود أم قيد يحدّ من تلقائيته وانفتاحه؟ هل يمكن للعقل أن يستوعب وجوداً يتجاوز اللغة، والمنطق، والنمط؟
الفكر الفلسفي، وخصوصاً في تقاطعه مع النزعة الوجودية، يطرح هذا السؤال بمزيد من الشك العميق: فالعقل – كما في التصورات الديكارتية والكانطية – بُني لفرض النظام، لتكوين النسق، لتقديم تمثّل للعالم يخضع للقوانين. غير أن الوجود، كما أراه، ليس نسقاً، بل اندفاع، توتر، صيرورة، ومفارقة مستمرة. في كل محاولة للعقل أن يُفسر، هناك جزء من الوجود يتسلّل من بين أصابعه، ينسحب نحو الغموض، وكأن ما نحاول إدراكه بالعقل، هو بالضبط ما لا يمكن إدراكه به.
إن الوجودية، وخصوصاً في طرح هايدغر، تتجاوز العقلانية التقليدية التي تنظر إلى الوجود كموضوع قابل للمعرفة. فهايدغر يميّز بوضوح بين "الوجود" و"الكائن"، ويُظهر كيف أن السؤال عن الوجود نفسه قد تم نسيانه في تاريخ الفلسفة لصالح أسئلة أكثر قابلية للتنميط العقلي. أما بالنسبة لسارتر، فالعقل لا يُلغى، بل يُعاد تأطيره ضمن مشروع الحرية. هو أداة، نعم، لكنه ليس الحاكم المطلق على مجالات التجربة الإنسانية، ولا يمكنه الادّعاء بامتلاك الحقيقة كاملة. ولهذا فإن الإنسان، في تجربته الوجودية الأصيلة، لا يفهم الوجود بعقله فقط، بل بقلقه، وحريته، وتردّده، ووعيه بذاته المنفتحة على العدم.
من هنا أرى أن العقل ليس باباً لفهم الوجود، بل أحد الأبواب فقط، وربما الباب الذي يصلح لفهم النظام والكم، لكنه ليس كافياً لفهم "أن تكون"، ولا "أن تصبح"، ولا "أن تتجاوز ذاتك". ففهم الوجود يتطلب انفتاحاً على الحدس، والإرادة، وحتى الصمت، أكثر مما يتطلب برهاناً وتحليلاً. إنه أشبه بمحاولة الإمساك بضوءٍ في الضباب: كلما اقتربنا منه بعين العقل، تلاشى في كثافة المعنى الذي لا يُقال.
هذه المفارقة هي ما يجعل العلاقة بين العقل والوجود من أعقد إشكاليات التفكير الفلسفي، لا لأننا نعجز عن الفهم، بل لأننا نحاول أن نفهم وجوداً يتجاوزنا بأداة نابعة منّا. فهل يكون الحل في تحرير العقل من وهم الكفاية؟ أم في الاعتراف بأن الوجود أعمق من أن يُفهم بالكامل؟ بهذا السؤال، أبدأ بحثي في علاقة العقل بالوجود، لا لأجيب، بل لأعمّق السؤال ذاته.
العقل: أداة للمعرفة أم قيد على الحرية؟
لقد جرى العرف الفلسفي، منذ بدايات الميتافيزيقا الغربية، على تمجيد العقل بوصفه الأداة الأسمى لاكتشاف الحقيقة، وسيلة الإنسان لبلوغ العالم وفهم قوانينه وأبعاده. منذ أفلاطون حتى كانط، وُضع العقل في مركز الوجود، وأُضفيت عليه سلطة تكاد توازي سلطة الإله ذاته. لكنه في نظري، ووفقاً للرؤية الوجودية التي أجد نفسي منسجماً معها، ليس دائماً هذه الأداة المحايدة التي تقودنا إلى الحرية، بل قد يكون – على العكس – أداة للضبط، وسجناً مفاهيمياً، وحجاباً على صيرورة الوجود الحرّ.
ففي سعيه المتواصل إلى النظام والتفسير، يحوّل العقل الوجود إلى نماذج، يُحوّله إلى شيء، إلى "ماهيّة". لكن الوجود، كما أفهمه، ليس ماهية ثابتة يمكن القبض عليها، بل هو حركة وانفتاح وتحوّل دائم. العقل، إذاً، لا يُدرك الوجود بل يُقنّنه، يفرغه من زخمه الحيّ، يحوله إلى "مفهوم" قابل للتكرار والتصنيف. ومن هنا تنشأ المفارقة الكبرى: العقل الذي يُفترض أن يمنح الإنسان المعرفة والحرية، قد يكون هو ذاته ما يحرمه من الانخراط الحرّ في صيرورة الوجود.
في هذا السياق، نرى كيف تماهى العقل في الحداثة مع السلطة، فبات معياراً يقيس به الإنسان ذاته والآخر، ووسيلة لإقصاء ما لا يُفهم، أو ما لا ينضوي تحت معاييره الصارمة. فحين يُجبر الإنسان على أن يكون "عقلانياً"، يُمنع عنه ذلك الانفجار الوجودي العفوي الذي يتجاوز العقل ذاته، وهو ما يشير إليه كيركغور حين يؤكد أن الإيمان أو القفزة الوجودية لا يمكن للعقل تفسيرها أو احتواؤها.
كذلك، نجد عند سارتر أن الحرية ليست نتيجة للعقل بل نابعة من العدم الذي يسكن الوعي، ومن قدرة الإنسان على نفي ما هو عليه. هنا، العقل لا يصنع الحرية، بل قد يقيدها إذا أُخضع الوعي لأطر منطقية صارمة لا تعترف بالإمكان. أما عند هايدغر، فالعقل أداة في خدمة "الحساب"، لكنه ليس مدخلاً إلى "الوجود الأصيل"، ذلك الذي لا يُفهم عبر التحديد بل عبر "الإنصات".
من هنا، فإن سؤالي الفلسفي لا يتمحور حول نفي العقل، بل حول فضح سلطته حين تتضخم، وحين يفرض نفسه كمعيار أوحد للفهم. إنني أرى أن الإنسان لا يتحرر عبر العقل، بل عبر تجاوزه، حين يدرك أن ما لا يُعقل قد يكون أكثر صدقاً مما يُصاغ ضمن قوالب المنطق والبرهان. فالحرية ليست منتجاً للعقل، بل لحظة وعي تتجاوز العقل ذاته، لحظة إدراك أننا نستطيع أن نكون، رغم كل ما يمليه علينا العقل أن نكونه.
- كيف يحدد العقل الوجود؟ وهل العقل يملك القدرة على فهم الوجود؟
العقل، بحسب التقاليد الفلسفية الكلاسيكية، هو ملكة التحديد والفهم، أداة التقنين والتصنيف، إنه النور الذي يُبدد ظلمة الجهل، حسب تعبير ديكارت. غير أن هذا التصور، الذي رفع العقل إلى مقام السيد والمهيمن، يغفل عن بعد جوهري في علاقة الإنسان بالوجود: أن الوجود ليس شيئاً يمكن تحديده، بل هو حركة وتحوّل وتجلٍّ. الوجود، كما أراه، لا يُستوعب ولا يُختزل في تعريفات عقلانية جاهزة، لأنه ليس موضوعاً خارجياً محايداً، بل مجال للانخراط، للصيرورة، للتجربة الحيّة.
حين يحاول العقل تحديد الوجود، فإنه يُسطّح معناه. ذلك أن كل تحديد هو نوع من الإقصاء، من نفي الإمكانيات الأخرى، من تجميد اللحظة المتدفقة للكينونة في صورة ثابتة. وبالتالي فإن سؤال: "هل يستطيع العقل فهم الوجود؟" يتحول إلى سؤال أكثر مأساوية: "هل العقل يُفهم إلا عبر تحطيم الوجود الذي يحاول الإمساك به؟"
هايدغر، في نقده للفلسفة الغربية، رأى أن هذه الأخيرة قد نسيت "سؤال الوجود" لأنها كانت مشغولة دائماً بـ" ماهيّة الموجود"، وليس بـ"أن يكون هناك وجود أصلاً". هذا الانزلاق هو ثمرة لعقل يريد السيطرة، عقل لا يحتمل الغموض، في حين أن الوجود لا يُكشف إلا لمن ينصت، لا لمن يُقنّن. وهكذا، فإن العقل لا يملك القدرة على فهم الوجود إذا ظل متمسكاً بمنطقه المغلق، بل لا يملك حتى حق الادعاء بأنه يفهم، إن لم يتحرر من غريزته نحو السيطرة والتفسير.
- العلاقة بين الوعي والعقل في الفلسفة الوجودية: هل العقل قادر على إدراك الوجود ككل؟
الوعي والعقل ليسا شيئاً واحداً في الفلسفة الوجودية، بل هما بعدان مختلفان في تجربة الإنسان مع العالم. الوعي، في تصوري، هو انفتاح على العالم، هو التوتر الدائم بين الذات والآخر، بين ما هو وما يمكن أن يكون. أما العقل، فهو الجهاز المنطقي الذي ينظم هذا الانفتاح، يقننه، ويخضعه لقوانين التناسق والاستنتاج.
سارتر يميز بين "الوعي لنفسه" (consciousness-for-itself) و"الوعي في ذاته" (consciousness-in-itself)، معتبراً أن الوعي الحرّ لا يمكن أسره ضمن مقولات العقل. الوعي يتجاوز ذاته باستمرار، ينفي ما هو عليه، ولهذا لا يمكن للعقل، الذي يميل إلى الثبات والتحليل، أن يدرك الوجود ككل، لأن الكل لا يُختزل في التجزئة العقلية.
العقل، بحسب هذا المنظور، عاجز عن الإمساك بالكلية لأنه يفهم عبر الانفصال، عبر المسافة. أما الوعي فهو تجربة تَشابُك وتورّط في العالم، لا تباعد وتحليل. إن العقل لا يرى إلا ما يُسلّط عليه الضوء، أما الوجود، فهو يتخفّى، يُراوغ، يظهر في التجربة، في القلق، في الحب، في الموت، لا في التعريفات المنطقية.
فهل يستطيع العقل أن يدرك الوجود ككل؟ لا، لأن الكل لا يُدرك إلا وجودياً، في لحظات الانكشاف الحدّي، لا في خرائط المفهوم. وهكذا، فإن العلاقة بين الوعي والوجود لا تمر عبر العقل، بل تتجلى خارجه، أو ربما رغماً عنه.
- النقد الوجودي للعقلانية: هل العقل خائن للوجود؟
من وجهة نظري – المتقاطعة مع كثير من رؤى كيركغور ونيتشه وهايدغر – فإن العقل ليس فقط غير قادر على فهم الوجود، بل قد يكون خائناً له. وهذا تعبير ثقيل، لكنه ضروري. فالعقل حين يتموضع بوصفه السيد الأعلى للمعنى، ينتهي به الأمر إلى نفي ما لا يمكن تفسيره. ومن هنا تبدأ خيانته: إنه يخون الغموض، يخون اللامعقول، يخون التناقض، يخون التجربة الحية، لأنه لا يقبل إلا بما يستطيع احتواءه.
كيركغور رأى أن الإيمان هو قفزة لا يمكن للعقل أن يبررها. نيتشه حطّم أصنام العقل، لأنه رآه أداة للضعف، للهرب من الحياة. أما هايدغر، فقد رأى في العقلانية الغربية امتداداً لـ"نسيان الوجود". كل هؤلاء، ومعهم تجربتي الفكرية الخاصة، يشيرون إلى أن العقل لا يخون الحقيقة فحسب، بل يخون الحياة ذاتها، حين يطلب منها أن تكون "معقولة"، في حين أن الحياة تتفجّر غالباً خارج المنطق.
نعم، العقل خائن حين يتسلّط، لا حين يكون خادماً متواضعاً. خائن حين يفرض منطقه على الكون، لا حين ينصت بتواضع لما لا يستطيع فهمه. إنه خائن لأن الوجود ليس قانوناً، بل حدثاً. والحياة ليست معادلة، بل قلق وتوق وعشق وسقوط.
- هل يمكن للعقل أن يضع إطاراً ثابتاً للفهم في ظل طبيعة الوجود المتغيرة؟
الوجود، في صميمه، حركة دائمة. لا ثبات فيه إلا ما يتوهمه العقل كي يشعر بالأمان. إن الإطار الثابت الذي يبحث عنه العقل هو قناع منظم للفوضى، محاولة لحماية الذات من هول الانكشاف. لكن هل يمكن فهم الوجود ضمن هذا الإطار؟ أعتقد أن الإجابة هي: لا، لأن الفهم الحقيقي لا يتجلّى في الثبات، بل في الانفتاح، في القدرة على المجازفة، على القفز في المجهول.
الفلسفة الوجودية لا ترفض الفهم، لكنها ترفض الإطارات المغلقة. فالحرية، كما يقول سارتر، لا تعني فقط إمكانية الاختيار، بل تعني أن نكون مسؤولين عن خلق المعنى في عالم بلا معنى مسبق. والعقل، إذا كان يبحث عن إطار ثابت، فإنه ينفي هذه الحرية، ويحاول أن يُطوّق الوجود في قوالب من صنعه.
هايدغر يذكّرنا أن "الوجود سابق على كل تحديد"، وهذا يعني أن كل محاولة لتثبيته في مفاهيم، هي تأجيل للحقيقة، أو على الأقل، تشويه لها. ولذلك، فإن الإطار الذي يضعه العقل للفهم هو مؤقت، هشّ، وهمي في كثير من الأحيان. الوجود لا يُفهم، بل يُعاش. ولا يُفسر، بل يُنصت إليه.
ومن هنا، لا يمكن للعقل، مهما بلغ من الدقة والمنهجية والصرامة، أن يُحيط بالوجود المتغير والمفتوح بإطار ثابت أو بمنطق مغلق؛ لأن الوجود ليس معطى نهائياً، بل حركة دائمة، تيار من التحوّلات، من الانكشافات التي لا تُختزل في تعريف أو تُحبس في نموذج. العقل، إذا أراد أن يتعامل مع هذا الوجود كما هو، لا كما يريد أن يكون، فعليه أن يتنازل عن وهم السيادة، عن سلطته التي تُحوّل الكائن إلى موضوع، وتختزل التجربة إلى معادلة. عليه أن يتحول من آلة استنتاج إلى أذن تُصغي، إلى حوار داخلي متوتر، إلى سؤال مفتوح لا ينتظر إجابة نهائية، بل يرحب باللايقين بوصفه جزءاً من حكمة أعمق من المعرفة.
إن العقل، حين يحتكم إلى منطقه الخاص، يُقصي كل ما لا يُمكن برهنته أو تأطيره، فيُغلق الباب أمام الشعر، والإيمان، والحدس، والعاطفة، والخوف، والدهشة—وكلها تجليات أصيلة للوجود لا تقل عمقاً عن البرهان. لكن حين يتواضع، ويتحول إلى إنصات، إلى تساؤل دائم، يكتشف أفقاً جديداً: أفقاً لا يُقاس بالمفاهيم، بل بالانفتاح. هذا التحول من "العقل السيد" إلى "العقل السائل" هو ما يُعيد للفكر إنسانيته، ويمنح الفلسفة بُعدها الوجودي الحقيقي.
العقل حينذاك لا يكون أداة للسيطرة، بل وسيلة للمشاركة؛ لا يسعى لامتلاك الحقيقة، بل لمرافقتها في مسيرتها الدائمة نحو الانكشاف. وهكذا يصبح العقل ذاته جزءاً من تجربة أعمق، تجربة لا تسعى للإغلاق، بل للعبور. لأن الحقيقة ليست حجراً نُمسكه، بل نهراً نعبره... وكلما ظننا أننا وصلنا إلى ضفته، تغيّرت الضفة، وتحوّلنا نحن.
وحين يعترف العقل بعجزه عن الإحاطة، لا يُصبح ذلك إعلاناً عن نهايته، بل بداية لولادته الحقيقية: ولادة عقل يتجاوز ذاته، ويتخلّى عن وهم التفسير الشامل، ليصبح شاهداً على المعنى بدلاً من صانعه. في هذا الانقلاب، يتحول الفكر من ممارسة للسيطرة إلى فعل تواضع، من هندسة الوجود إلى مشاركته، من صرامة التحليل إلى انفتاح التأمل. وهنا، لا يعود العقل خصماً للغموض، بل حليفاً له؛ إذ يدرك أن بعض جوانب الوجود لا تُفهم إلا حين لا نحاول فهمها بالقوة، بل حين نسمح لها أن تكون.
بهذا المعنى، يصبح العقل طريقاً إلى الحكمة، لا إلى الحقيقة المطلقة؛ إلى الإصغاء، لا إلى النطق الأخير. فكما أن الصمت ليس غياباً للصوت، بل حضوره الأعمق، كذلك العقل حين يتراجع عن الصراخ يُفسح المجال لنورٍ آخر، لا ينبثق من المنطق، بل من الوجود ذاته. ومن هنا، تنبع الفلسفة لا من الأجوبة، بل من عمق الأسئلة التي لا تموت، تلك التي تُرافقنا كالظل، وتكبر معنا، وتُعرّفنا لا بما نعرف، بل بما لا نعرف بعد، وبما قد لا نعرفه أبداً.
وهكذا، حين يصمت العقل عن ادعاء الإحاطة، يبدأ في سماع النداء الأعمق للوجود، ذلك النداء الذي لا يُفهم بالبرهان بل يُعاش بالتجربة. إن أجمل لحظات الفكر ليست تلك التي يصل فيها إلى نتيجة، بل حين يقف مدهوشاً أمام سؤال لا يملك له جواباً. في هذا الوقوف، في هذا التردد، يولد المعنى الحقيقي: لا كيقينٍ يُطمئن، بل كقلقٍ يُوقظ، ويفتح أمام الإنسان أفقاً لا نهائياً من التفسير والتأمل والانتماء الهادئ إلى لغز لا يُراد له أن يُحل.
ثالثاً: الحرية في الفلسفة الوجودية
- كيف يتم تجسيد مفهوم الحرية في الفلسفة الوجودية؟
- الحرية كمفهوم معقد: هل هي فقط القدرة على الاختيار أم شيء أعمق؟
- العلاقة بين الحرية والوجود: هل الحرية هي جوهر الوجود أو تجلي له؟
- الحرية كتحرر من القيود العقلية: هل يمكن أن تكون الحرية الهروب من العقل ذاته؟
في قلب الفلسفة الوجودية تنبض فكرة الحرية، لا كمفهوم نظري أو خيار سياسي، بل كجوهر لما يعنيه أن يكون الإنسان موجوداً. إنها ليست امتيازاً ممنوحاً، ولا إمكانية كامنة تنتظر ظروفاً مواتية، بل هي عبء ontologique (أنطولوجي)، قدر لا مهرب منه، ومصير لا يمكن التملص منه إلا بخيانة الذات. من هذه الزاوية، لا تعني الحرية أن "نختار"، بل أن "نوجد" بوصفنا اختياراً دائماً، فعلاً مستمراً للتجاوز، للمساءلة، للخلق في عالم لا يمنحنا أي ضمانة خارج أنفسنا.
لقد حطّمت الفلسفة الوجودية التصورات الميتافيزيقية التي فصلت بين الإنسان وفعله، بين الجوهر والوجود، بين الإرادة والمصير. فكما أعلن سارتر في أحد أشهر شعاراته: "الوجود يسبق الماهية"، لم يعد الإنسان كائناً محدداً مسبقاً بقانون إلهي أو طبيعة إنسانية جامدة، بل مشروعاً مفتوحاً يتعيّن لحظة بلحظة. في هذه النظرة، الحرية ليست فضيلة أخلاقية، بل هي الكينونة ذاتها في انكشافها، إنها الوجود وقد خُلع عليه الوعي.
ولكن هذه الحرية ليست نشوة أو طمأنينة، بل قلق عميق، وتحمّل مرير للمسؤولية. الإنسان، في نظر سارتر، "محكوم عليه أن يكون حراً"، أي أن حريته لا تعني الانفلات من القيود فحسب، بل أيضاً أن كل ما هو عليه وكل ما يفعله، يعود إليه بالكامل، دون مهرب، ودون عزاء. وهي في ذلك تختلف عن الحرية الليبرالية أو الحداثية التي تقوم على الحقوق والخيارات، لتصبح هنا تجربة وجودية جذريّة، تتطلب شجاعة الانخراط في المجهول.
وإذا كانت الفلسفة العقلانية قد رأت في الحرية نتيجة للمعرفة أو ثمرة للتنوير العقلي، فإن الفلسفة الوجودية تُعيد الحرية إلى جذرها الأولي: إلى الإنسان وهو يواجه العدم، الزمن، الموت، الغربة، اللا جدوى. فحين لا يكون هناك من يُملي علينا ما نفعل، وحين تكون القيم ذاتها محل تساؤل، لا يبقى أمامنا إلا أن نخلق ذواتنا، وأن نبتكر معاييرنا، في صمت الكون، لا بتقليد الأنظمة، بل بمواجهة الفراغ الأخلاقي وملئه بحقيقة نابعة منّا.
وهكذا، تصبح الحرية في الفلسفة الوجودية ليست فقط ممكنة، بل ضرورة، لا يمكن تجاوزها إلا بثمن خيانة الإنسان لذاته، وتحوله إلى "كائن قطيع"، إلى "كائن ما بعد الإنسان"، إلى كذبة تحيا في قشرة من الطمأنينة دون جوهر حقيقي. إن الحرية، بهذا المعنى، ليست ما نملكه، بل ما نحن عليه.
- كيف تفهم الفلسفة الوجودية الحرية؟ هل هي اختيار؟ أم عبء؟ أم كينونة؟
أرى أن الحرية، في منظور الفلسفة الوجودية، ليست فعلاً من أفعال الإرادة الحرة، بل هي الحقيقة الأولى للوجود الإنساني. إنها ليست قراراً نأخذه بعد تأمل، بل هي الصرخة الأولى التي يطلقها الكائن الواعي عندما يُلقى به في هذا العالم دون دليل، دون ماهية جاهزة. الحرية ليست اختياراً... إنها الشرط المسبق للاختيار.
سارتر، مثلاً، لا يترك مجالاً للهرب: الإنسان "محكوم عليه أن يكون حراً"، لا لأن هناك سلطة تجبره على الحرية، بل لأن انعدام المرجعية الخارجية (الدينية، الطبيعية، الأخلاقية المطلقة) يضعه وجهاً لوجه أمام نفسه. الوجود الإنساني هو مشروع حر، وكل تهرّب من هذه الحقيقة هو سقوط في سوء النية. لذلك، أرى أن الحرية ليست "شيئاً" نملكه، بل هي ما نكونه دائماً – كينونة منفتحة على إمكانيات لا نهائية، لكنها إمكانيات يترتب على تحقيقها مسؤولية أخلاقية لا مفر منها.
- الحرية والمسؤولية: لماذا تعتبر الوجودية أن الحرية مسؤولية كبرى لا مهرب منها؟
في رأيي، ما يجعل الحرية مخيفة هو ارتباطها الجوهري بـ المسؤولية. الوجودية لا تترك لنا مجالاً للاختباء خلف الأعذار الاجتماعية أو النفسية أو البيئية. فالحرية ليست مجرد قدرة على الفعل، بل هي مسؤولية عن معنى الوجود ذاته. إن حريتي تعني أنني وحدي المسؤول عن حياتي، عن القيم التي أتبناها، عن اختياراتي التي تكشف من أكون.
حين يختار الإنسان، لا يختار لنفسه فقط، بل يختار الإنسانية كلها، كما قال سارتر. وهنا تكمن فداحة الحرية: أن كل قرار هو إعلان ضمني عن تصور للعالم، عن صورة للإنسان، عن إمكانية للوجود. لذلك، أنا أرى أن الخوف من الحرية ليس إلا الخوف من الاعتراف بأننا أصل كل شيء في حياتنا، وأن العالم الذي نحيا فيه ليس إلا نتيجة خياراتنا أو هروبنا من الاختيار.
- هل يمكن الحديث عن حرية في عالم بلا معنى؟ هل الحرية تُمارس داخل عبث الوجود أم ضده؟
هنا، ألتقي مع ألبير كامو، ولكن أذهب إلى ما هو أبعد منه. إن العبث، كما أفهمه، ليس نقيضاً للحرية، بل هو السياق الذي تتجلى فيه الحرية على حقيقتها. حين يكتشف الإنسان أن العالم لا يمنحه أي معنى جاهز، تصبح الحرية ليست فقط إمكانية، بل ضرورة أخلاقية وفلسفية. فأن تكون حراً في عالم بلا معنى، يعني أن تكون أنت من يمنح المعنى، أن تكون خالقاً للمعنى في قلب العدم.
أنا لا أرى العبث كدعوة للعدمية، بل كأرضٍ محررة من الميتافيزيقا، تسمح للحرية أن تتجلى دون تبرير. الحرية هنا فعل من أفعال الخلق المستمر، لا في مواجهة العبث، بل عبره، في تجاوزه الصامت، في تحويله إلى إبداع.
- كيف ترتبط الحرية بالقلق والاغتراب؟ هل الوجود الحر دائماً مؤلم؟
الحرية ليست راحة. الحرية هي قلق. وكلما زادت حرية الإنسان، زاد شعوره باللايقين والاغتراب. لماذا؟ لأن الإنسان الحر لا يستطيع أن يستند إلى سلطة خارجية، لا إلى تقليد، ولا إلى إله، ولا إلى طبيعة بشرية مفترضة. إنه يقرر وحيداً، ويعيش نتائج قراراته. في لحظة الحرية القصوى، يشعر الإنسان بأنه كائن منفي داخل العالم، غريب حتى عن ذاته، لأنه لم يعد يعرف ما إذا كانت قراراته صائبة، أو إن كانت لها جدوى.
هكذا، يصبح القلق ملازماً للحرية، لا بوصفه ضعفاً، بل بوصفه دليلاً على أصالة التجربة الوجودية. أما الاغتراب، فهو نتيجة حتمية لمحاولة الإنسان أن يكون ذاته في عالم يريد منه أن يكون نسخة مكررة، تابعاً، مستهلكاً، رقماً. في هذا السياق، الحرية لا تكون فقط فعل مقاومة، بل أيضاً فعل ولادة مستمرة للذات في مواجهة الاغتراب العام.
1- كيف يتم تجسيد مفهوم الحرية في الفلسفة الوجودية؟
في قلب الفلسفة الوجودية، لا تُفهم الحرية على أنها مفهوم نظري مجرد، بل هي تجربة معاشة، شرط وجود، ومسؤولية جوهرية. الحرية ليست سلعة نطلبها من الخارج، وليست حالة نفسية مؤقتة، بل هي الجوهر الأكثر أصالة للوجود الإنساني حين يُلقى في العالم بلا دليل أو جوهر مسبق. نحن أحرار لا لأن لدينا "حقّاً" في الاختيار، بل لأننا مرميون في الوجود، ونُجبر على أن نمنح ذواتنا معنى، أن نخلقها من عدم.
في فلسفتي، أرى أن الحرية ليست شيئاً نُجسّده من الخارج، بل شيئاً يُفصح عن نفسه من باطن التجربة الوجودية، حين يُدرك الإنسان فجأة أن لا أحد سواه مسؤول عن تشكيل حقيقته. هنا تُجسّد الحرية نفسها لا عبر الشعارات، بل عبر الألم، والقلق، والإقدام على المعنى وسط صمت الوجود.
سارتر عبّر عن هذه الفكرة بقوله: "الإنسان ليس سوى ما يصنعه بنفسه." ولكنني أذهب أبعد: الإنسان ليس فقط ما يصنعه، بل ما يفشل في الهروب منه: من حرية لا يستطيع التنصل منها، لأنها تلاحقه كمرآة لا تنكسر.
2- الحرية كمفهوم معقد: هل هي فقط القدرة على الاختيار أم شيء أعمق؟
إن تعريف الحرية بوصفها "القدرة على الاختيار" هو تبسيط مخلّ، بل هو تقليص مهين لعمق التجربة الوجودية. أنا لا أرى الحرية مجرد إمكان للاختيار بين هذا أو ذاك، بل هي وعي ميتافيزيقي بالاختيار نفسه، ووعي بأن الوجود لا يمنحنا مآلاً جاهزاً، وأننا وحدنا من يتحمل عبء المعنى.
الحرية الحقيقية – كما أراها – هي أن تدرك أنك المسؤول الأوحد عن تحويل كل صدفة، كل فشل، كل لحظة عابرة، إلى كينونة لها وزن، لها أثر. الحرية ليست مجرد "اختيار"، بل هي انكشاف دائم على سؤال: "ماذا سأكون الآن؟"، ولا مهرب من الجواب.
هكذا تصبح الحرية مفهوماً معقّداً لأنها مأساة معرفية ووجودية: من جهة، تُمكّنك من بناء ذاتك، ومن جهة أخرى، تسلبك أي عذر خارجي. ولهذا فإن الشعور بالحرية يصاحبه دوماً قلق حاد، وانكشاف روحي، كما وصفه كيركغور، لا بسبب الحرية ذاتها، بل لأنها تكشف لنا هشاشتنا وضعفنا في مواجهة اللامعنى.
3- العلاقة بين الحرية والوجود: هل الحرية هي جوهر الوجود أو تجلٍّ له؟
أطرح هنا فكرة تتقاطع مع سارتر وهايدغر ولكن بنبرة فلسفية شخصية: إن الحرية ليست مجرد تجلٍّ لجوهر الوجود، بل هي الجوهر نفسه في حالة انفتاح. الوجود ليس شيئاً ميتافيزيقياً ثابتاً، بل هو إمكان مستمر. وهذا الإمكان، في جوهره، حرية.
حين يقول سارتر إن "الوجود يسبق الماهية"، فهو لا يعني فقط أن الإنسان يوجد أولاً ثم يخلق ماهيته، بل يعني أن الوجود ذاته ليس إلا حركة حرة باتجاه المعنى، لا يُملى من الخارج، بل يُبتكر من الداخل. إن الحرية، إذاً، هي ما يجعل من الوجود صيرورة لا نهائية، لا بنية مغلقة.
في رأيي، الحرية هي القوة التي تحوّل الصمت الميتافيزيقي للعالم إلى خطاب إنساني. هي التي تجعل من اللحظة العابرة حدثاً يستحق أن يُروى. لذلك، لا أفصل بين الحرية والوجود، لأن الحرية ليست عرضاً من أعراض الوجود، بل هي كيف يكون الوجود موجوداً حين يكون واعياً بذاته.
4- الحرية كتحرر من القيود العقلية: هل يمكن أن تكون الحرية هروباً من العقل ذاته؟
هنا أصل إلى المفارقة التي تشغلني: هل العقل، بما هو أداة تحليل وتنظيم وتحديد، يمكن أن يقف في وجه الحرية؟ هل يُمكن للعقل أن يصبح قيداً على انفتاح الكينونة؟
أنا أعتقد ذلك. العقل، في لحظاته الصلبة، يطالبنا بالاتساق، بالتماسك، بالإجابات المنطقية، ولكنه بذلك يُحاصرنا في أطر مغلقة. أما الحرية فهي انفتاح لا يحتمل السياج. الحرية ليست فقط التحرر من القيد الخارجي، بل من القيد العقلي ذاته، حين يصبح العقل سجناً من مفاهيم جاهزة، ومن أنظمة معنى تقتل الدهشة.
هايدغر يشير إلى هذا التوتر بين "الفكر الحسابي" و*"التفكير المتأمل"*، وأنا أرى أن لحظة الحرية الأصيلة لا تحدث في ضوء التحليل العقلاني، بل في لحظة التجاوز الصامت، في الحضور العاري للوجود، حين يقف الإنسان أمام العالم عارياً من مفاهيمه، ويصغي فقط.
إذاً، نعم، في أعمق تجلياتها، الحرية ليست مجرد قدرة على الاختيار ضمن معطيات يفرضها الواقع أو يحدّدها العقل، بل هي تحرّر من العقلنة ذاتها حين تتحوّل إلى قيد، إلى قوالب مكرورة تُفرغ التجربة من عفويتها، وتُحوّل الحياة إلى مخطط حسابي. الحرية، في هذا المعنى، هي انكشاف على ذلك العمق الغامض فينا، تلك المساحة التي تقاوم التعريف، والتي لا يسكنها المنطق بل الحضور، ولا يسري فيها التبرير بل الصدق، صدق التجربة حين تكون كما هي، بلا تزييف ذهني.
في هذه المساحة، نلتقي بما لم نكن ننتظره، وننصت لما لم نكن نسمعه، ونُقاد لا بما نعرفه، بل بما نكتشفه ونحن نعيش. إنها المسافة التي نكفّ فيها عن محاولة السيطرة على المعنى، ونسمح له بأن ينشأ من تلقاء نفسه، من صمت الألم، من رعشة الحب، من هروب الزمن، من نظرة غريبة في وجه عابر. هناك، فقط هناك، تتجلى الحرية لا كحق، بل كـ"لحظة صدق" نادرة، نعبر فيها من العقل إلى الحياة، ومن النظام إلى الانفتاح، ومن الذات إلى الكينونة كما هي، لا كما نريدها أن تكون.
رابعاً: التوتر بين العقل والحرية
- هل يمكن أن تكون الحرية تجسيداً للفوضى؟ وما دور العقل في تنظيم هذه الفوضى؟
- الحرية داخل حدود العقل: كيف يتم توجيه الحرية ضمن هيكل عقلي محدد؟
- الوجود الحر: هل الوجود بلا حدود يتحقق فقط عندما يتجاوز الإنسان حدود العقل؟
منذ أن أدرك الإنسان وجوده بوصفه وعياً لذاته، انفتح في داخله صراع خفي بين قوتين لا تلتقيان إلا لتتناقضا: العقل بوصفه نظاماً، والحرية بوصفها انفتاحاً. كلاهما يُقيم في جوهر الكينونة، لكن أحدهما يسعى إلى البناء والتنظيم والتفسير، بينما يتوق الآخر إلى الانفلات والانعتاق والتجاوز. ولعل هذا التوتر ليس مجرد أزمة معرفية، بل هو لبّ المأساة الوجودية في الإنسان الحديث: كيف يمكن لذاتٍ أن تكون حرة في عالمٍ يطالبها دوماً بأن تكون عقلانية؟
في هذا السياق، لا يعود العقل محرّكاً للحرية، بل يتحوّل أحياناً إلى خصم لها. فكل محاولة للعقل أن يُحكِم قبضته على العالم، أن يُحوِّل الوجود إلى منظومة منطقية قابلة للفهم والسيطرة، تقابَل من الحرية برغبة معاكسة: أن تحطّم الحدود، أن ترفض الإطار، أن تقول لا لما هو مفروض سلفاً.
في رأيي، هذا التوتر ليس طارئاً، بل جوهري في طبيعة الوجود البشري: نحن نولد بعقل يسعى للفهم، وحرية ترفض أن تُفهم بالكامل. نحن عقلانيون حين نُفسّر العالم، ووجوديون حين نتمرد عليه. هكذا تبدو العلاقة بين العقل والحرية علاقة تشبه الجدل الهيغلي: لا تتطوّر الحرية إلا عبر صراعها مع العقل، ولا يتجاوز العقل ذاته إلا حين يواجه حدود سلطته في وجه حرية لا تُروَّض.
سنتناول في هذا المحور التوتر البنيوي بين العقل والحرية، منطلقين من هذا التمزق الداخلي في الكائن الإنساني: هل يمكن للعقل أن يحتوي الحرية دون أن يخنقها؟ وهل يمكن للحرية أن تظل حقيقية دون أن تنقلب على العقل ذاته؟ وهل يكمن في هذا التوتر سرّ الكينونة لا عيبها؟
هنا، تُطرح الأسئلة لا بوصفها مقدمات لنتائج، بل كجراح مفتوحة تنزف المعنى في كل تأمل.
- هل يمكن أن تكون الحرية تجسيداً للفوضى؟ وما دور العقل في تنظيم هذه الفوضى؟
من الطبيعي أن يُنظر إلى الحرية، عند تأملها لأول مرة، بوصفها نقيضاً للنظام، بل وربما بوصفها تهديداً له، وبالتالي يُساء فهمها على أنها فوضى. لكن، ماذا تعني الفوضى في هذا السياق؟ إنها ليست مجرد غياب للنظام أو قوانين ضابطة، بل هي في العمق انفتاح غير متناهٍ على الإمكانات، هي رفض لأن تُختصر الذات في مخطط عقلاني واحد، أو أن تُصاغ الحياة وفق إيقاع مسبق.
في نظري، الحرية –كما تتجلى في التجربة الوجودية– ليست خضوعاً لمنظومة محددة، بل هي انفجار الوعي في وجه الحتميات. لكنها، حين تُترك بلا وعي، يمكن أن تتحول إلى فوضى حقيقية: انهيار للمعنى، وغرق في العبث، وتمرد بلا وجهة.
هنا يتدخل العقل، لا بوصفه سجّاناً، بل كرفيقٍ ممكن: يحاول تنظيم هذا السيل الجارف، لا من أجل خنقه، بل لمنحه اتجاهاً. دور العقل –في هذا المقام– ليس قمع الحرية، بل ترشيدها دون تدجينها. فالفكر الوجودي لا يلغي العقل، بل ينتقد سلطته حين تدّعي أنها قادرة على فهم كل شيء، بما في ذلك الحرية ذاتها.
إذاً، نعم، الحرية قد تتجلى كفوضى أولى، كمادة خام وجودية لا تزال تبحث عن شكل. لكن العقل –إن تخلّى عن نزعته السلطوية– يستطيع أن يتحوّل إلى نحات، لا إلى سجّان، يمنح هذه الفوضى شكلاً لا يُقصي احتمالاتها، بل يُعطيها صوتاً وسط صخب اللامعنى.
- الحرية داخل حدود العقل: كيف يتم توجيه الحرية ضمن هيكل عقلي محدد؟
إذا سلّمنا بأن الحرية لا تُلغى حين تدخل مجال العقل، فهل يمكن القول إنها تُوجَّه وتُهذَّب ضمن بنيته؟ نعم، لكن بثمن وجودي: حين تُمارَس الحرية ضمن حدود العقل، فإنها تفقد شيئاً من جذوتها الأولى. هي لم تعد حرية الرفض والتمرد واللايقين، بل أصبحت حرية الاختيار داخل نظام.
في هذا النموذج، يتحوّل الإنسان إلى كائن يُمارس حريته كما يُمارس حساباً رياضياً: يوازن، يحسب العواقب، يختار بين بدائل. لكن، هل هذا هو جوهر الحرية كما تفهمها الوجودية؟ بالطبع لا. سارتر كان يرفض هذا الفهم العقلاني المألوف، ويرى أن الحرية لا يمكن أن تُقاس بمدى قدرتنا على الاختيار بين "أ" و"ب"، بل هي جوهر وجودنا ذاته، مسؤوليتنا عن أنفسنا بلا مفرّ.
هايدغر بدوره لا ينظر إلى الحرية كعملية عقلية بحتة، بل كـ"انكشاف" للوجود، حالة انفتاح على الإمكانات الوجودية التي لا يُمكن للعقل وحده أن يُدركها.
من هنا أرى أن توجيه الحرية داخل هيكل عقلي ليس خطأ بحد ذاته، لكنه يشكّل أحد أشكال "الطمأنينة الزائفة". هو يُريح الذات من عبء الهاوية، لكنه يُفقدها عمقها. الحرية المُقنّنة ليست حرية وجودية بل هي نسخة مخففة منها –حرية مروّضة تتناسب مع شروط المجتمع والمنطق والتوقع.
- الوجود الحر: هل الوجود بلا حدود يتحقق فقط عندما يتجاوز الإنسان حدود العقل؟
في أعمق طبقات تجربتنا الوجودية، نشعر بأن ما نريده من الحياة ليس فهمها، بل الانصهار فيها، العيش داخل مجراها بدون أن نُقيّدها بالفهم. فالعقل، مهما اتسعت أدواته، يبقى محدوداً بلغة ومفاهيم وتعريفات... بينما الوجود –بكل عنفه وجماله وغموضه– يتخطى هذه الحواجز بلا هوادة.
وهنا أقول: نعم، تحقيق الوجود الحر يتطلب تجاوز العقل، لا تجاهله، بل تخطي سلطته المهيمنة. عندما يتوقف الإنسان عن محاولة اختزال العالم في مفاهيم عقلية، يبدأ في اختبار الوجود كما هو: متغيّر، متدفّق، متناقض.
الحرية هنا ليست في القدرة على اختيار ضمن نظام عقلاني، بل في السكن داخل اللا مُحدد، في العيش بلا ضمانات، بلا معايير نهائية تحكم كل شيء. وهذا ما يقصده كيركيغارد حين يتحدث عن القفزة الإيمانية: لحظة تتخطى العقل ولا تلغيه، تنبع من الداخل، من الإيمان بالحرية كجوهر للوجود لا كأداة للفعل.
هكذا، يصبح الوجود الحر هو التحقق الأصيل للكينونة، لا حين يفهم الإنسان ذاته ضمن نظام معرفي مغلق، بل حين ينكسر ذلك النظام نفسه، وحين تُفتح الكينونة على لغاتٍ أخرى، أعمق من العقل، وأكثر التصاقاً بجوهر التجربة البشرية: لغة الشعور حين يفيض، الألم حين يُربك المعنى، الحيرة حين تنقض على اليقين، والانفتاح على اللايقين كخلاصٍ من الاستقرار الزائف. في هذا الأفق، لا تعود الحرية مجرّد قدرة على الاختيار بين بدائل معطاة، بل فعل تمرد على سلطة التفسير ذاته، واحتفاء باللحظة بما هي عليه، لا بما يُفترض أن تكون.
هنا، لا يُصبح الإنسان حراً لأنه يمتلك تصوراً نظرياً عن الحرية، بل لأنه يحياها، بكل ما فيها من تناقض ومفارقة وثقل. الحرية، في هذا السياق، ليست خفيفة، ولا مريحة؛ إنها ثقيلة، مربكة، تهدم المسارات الجاهزة، وتفرض على الكائن أن يعيد مساءلة كل شيء، حتى ذاته. إنها دعوة إلى حياة بلا خرائط، بلا قوالب سابقة، إلى وجود لا يقبل التكرار، لأن كل لحظة فيه فريدة، لا تشبه التي سبقتها. في هذا التجلي، تصبح الحرية ليست مجرد حالة وجودية، بل طريقة في الوجود، طريقة ترفض أن تُختزل، أن تُسجن، أن تُؤطر، وتصرّ على أن تبقى مفتوحة على كل ما هو غير متوقع، على كل ما هو أصيل.
ذلك هو الإنسان حين يتحرر، لا ليُهيمن على وجوده، بل ليُصغي إليه، ويمنحه أن يتكلم بلغته الخاصة، لغة الجرح والدهشة، لغة الانكسار والرغبة، لغة ما لا يمكن قوله، وما لا يمكن تحليله... بل فقط عيشه.
وفي هذا العيش الحر، تكمن جوهر الحرية الحقيقية التي تتجاوز مفاهيم السيطرة أو التملك، حيث يصبح الإنسان ليس مجرد فاعل منفصل عن العالم، بل جزءاً حياً ومتفاعلاً مع نسق الحياة نفسه. الحرية هنا تعني أن نكون مع الوجود لا كأسيادٍ يفرضون إرادتهم عليه، بل كرفاق درب يتلمسون الطريق وسط الظلال والضوء، حيث تتلاشى كل اليقينات الثابتة، وتصبح اللحظة الحاضرة هي المدى الذي ينبثق منه المعنى. وفي هذا التجرد من الحاجة إلى السيطرة، يتحقق الإنسان في وعيه العميق بمسؤوليته عن اختياراته، حيث لا تُفرض عليه قيود خارجية، بل يختار حدود حريته بنفسه، بكل إدراك وصدق، متجاوزاً بذلك الانفصال الكلاسيكي بين الذات والعالم، ليصبح وجوده فعلاً مستمراً من اللقاء والتجديد.
خامساً: الوجود كصيرورة مفتوحة
- مفهوم الصيرورة في الفلسفة الوجودية: كيف يفهم الوجود كعملية مفتوحة غير محدودة؟
- الوجود كمغامرة مستمرة: كيف تتعامل الفلسفة الوجودية مع فكرة أن الوجود لا يتوقف عند نقطة ثابتة؟
- كيف يمكن للعقل أن يتعامل مع الوجود في صيرورته المستمرة؟ وهل العقل يعي هذا التدفق؟
الوجود ليس حالة ثابتة يمكن الإحاطة بها أو الإمساك بها كمفهوم نهائي، بل هو انفتاح دائم على الاحتمال، صيرورة مستمرة لا تستقر على شكل ولا تتجمد في ماهية. هذه الفكرة، التي أتبناها وأجعلها محوراً في رؤيتي للوجود، تجد أصداءها العميقة في الفلسفة الوجودية التي رفضت اختزال الكائن في بنية مغلقة أو جوهر مكتمل، لتضعنا في قلب "التحوّل الدائم"، حيث لا يكون الإنسان فقط ما هو، بل ما يصير إليه، وما يمكن أن يكونه.
الوجود هنا ليس "موجوداً" يُلتقط بلغة العقل كما تُلتقط الأشياء؛ بل هو "تكوّن" غير مكتمل، ومسار مفتوح لا نهاية له، يتحرك من اللايقين إلى اللايقين، ومن السؤال إلى السؤال. في هذا الأفق، لم تعد الهوية شيئاً يُعرَّف مرة واحدة، بل هي إمكان، مشروع، ومخاطرة. لقد خلعت الفلسفة الوجودية عن الإنسان لباسه الجاهز، وألقت به في العراء، ليكون ذاته بصيغة الفعل، لا بصيغة التعريف.
إن الصيرورة، بهذا المعنى، ليست مجرد تطور زمني خارجي، بل هي حركة الكائن في جوهره، مقاومته للثبات، ورفضه أن يُختزل في إطار. إننا لا نوجد ككائنات مكتملة، بل نحيا بوصفنا احتمالات مفتوحة، تحكمها الحرية أكثر مما يحكمها المنطق. ومن هنا تتشابك مسألة الصيرورة مع مفاهيم الحرية والعقل والوجود الفردي، وتُصبح ساحة لتوترات فلسفية أساسية لا تزال حتى الآن عصيّة على الحسم.
في هذه الصيرورة، العقل يُصاب بالدوار، لأنه يبحث عن أرض ثابتة في بحر لا شاطئ له. أما الحرية، فتبدو وكأنها البوصلة الوحيدة الممكنة، لكن حتى هذه البوصلة لا تشير إلى اتجاه واحد. نحن في هذا الفصل، إذن، لا نبحث عن "ما هو الوجود؟"، بل عن "كيف يُصاغ الوجود؟"، "كيف يُعاش بوصفه تدفقاً، تشكّلاً، انفتاحاً؟"، "وكيف نكون نحن، داخل هذا التيه، كائنات صائرة لا كائنات منتهية؟".
- مفهوم الصيرورة في الفلسفة الوجودية: كيف يُفهم الوجود كعملية مفتوحة غير محدودة؟
في رؤيتي للوجود، لا يمكن اختزاله إلى شيء ثابت، ولا إلى جوهر مكتمل أو "ماهيّة" تستقر في حدود. الوجود، كما أراه، ليس كياناً مغلقاً بل هو صيرورة، أي أنه فعل دائم، تدفق مستمر، يتجاوز كل محاولة لتحديده أو تقييده ضمن إطار منطقي أو تعريفي. الفلسفة الوجودية تلتقي مع هذا التصور حين ترفض اختزال الإنسان إلى تعريف نهائي أو هوية مفروضة. فكما أن الكائن لا "يُعطى" مرة واحدة، فإن الوجود ذاته لا يُكتشف دفعة واحدة، بل يتفتح تدريجياً، ضمن مسار لا نهائي من الإمكانات.
هنا يصبح الوجود ذاته نوعاً من الرحلة المفتوحة – لا نحو هدف مسبق، بل نحو اتساع المعنى نفسه. نيتشه، على سبيل المثال، حين يتحدث عن "العودة الأبدية" لا يعني تكراراً حرفياً، بل انكشافاً دائماً لما لا يمكن حصره في لحظة، فيما يرى هايدغر أن الكينونة هي سؤال، لا إجابة؛ وأن الكائن هو ما ينفتح دائماً على معناه، دون أن يبلغه تماماً. وهذا ما أراه جوهرياً: أن الوجود لا يُعاش إلا كمسافة بين الحضور والغياب، بين ما هو كائن وما يمكن أن يكون، وهذه هي الصيرورة بمعناها العميق.
- الوجود كمغامرة مستمرة: كيف تتعامل الفلسفة الوجودية مع فكرة أن الوجود لا يتوقف عند نقطة ثابتة؟
في قلب هذه الرؤية يكمن جوهر آخر: أن الوجود ليس حالة، بل مغامرة مفتوحة، لا تعرف التوقف، ولا تهدأ في يقين. الحياة ليست سيراً على خارطة معدّة مسبقاً، بل هي تجربة يتم خلقها في كل لحظة. لا توجد "نقطة وصول" ثابتة؛ الإنسان ليس غاية نهائية، بل هو احتمال دائم لأن يصبح شيئاً آخر.
في هذا الإطار، أنا أؤمن أن الثبات خيانة للوجود، وأن كل محاولة لإنهاء المسار بتحديدات نهائية، سواء أكانت دينية، أخلاقية، عقلانية، أو حتى أيديولوجية، هي تقويض لصيرورة الكائن. سارتر يصرّح بأن الإنسان محكوم بأن يكون حرّاً، أي محكوم بأن يخلق ذاته باستمرار، في كل لحظة، دون أن يستقر. والوجودية هنا لا تحتفل بالفوضى لأجل الفوضى، بل لأنها ترى في اللا متوقع قيمة وجودية، وفي الغموض حيوية ضرورية تفتح باب التحول والتجاوز.
المغامرة الوجودية ليست بحثاً عن إجابة بل غوص في الأسئلة، ليست هروباً من المعنى بل صناعة متواصلة له، وكل لحظة فيها هي بداية جديدة لا يُبنى عليها إلا لتُلغى، وتُستبدل، وتُعاد صياغتها من جديد. هذا التوتر، هذا الشك، هذا الانفتاح، هو ما يعطي للوجود معناه الحقيقي.
- كيف يمكن للعقل أن يتعامل مع الوجود في صيرورته المستمرة؟ وهل العقل يعي هذا التدفق؟
العقل – هذه الأداة الجبارة التي يتفاخر بها الإنسان – يجد نفسه مأزوماً أمام صيرورة الوجود. فالعقل بطبيعته يبحث عن النظام، التعريف، البناء، النهاية. لكن الوجود لا يتيح له ذلك؛ إنه مائع، متحول، مراوغ. لذلك، فإن العقل في صراعه لفهم الصيرورة، إما أن يُعيد تشكيل الواقع قسراً ليتناسب مع أدواته، أو يصاب بالعجز، ويُجبر على الاعتراف بحدوده.
أنا أرى أن العقل لا يُقصى من الوجود، لكن لا يمكنه الهيمنة عليه. مهمته لا تكمن في إخضاع الوجود لقواعده، بل في الانصات لتدفقه، ومرافقته كمسافرٍ لا كمهندس. حين يحاول العقل أن يُسيّج الصيرورة، يخونها، لأنه يقتل فيها ما يجعلها حية: عدم الاكتمال، اللا تحديد، الإمكان.
هايدغر يشير إلى هذه المعضلة بعمق حين يُفرق بين "الحساب" و"التفكير"، مُبرزاً أن الحساب هو فعل العقل في أبهى صوره: تنظيم، تحليل، قياس، ووضع الأمور ضمن أطر منطقية واضحة ومحددة. لكن التفكير – بهذا المعنى الفلسفي العميق – يتجاوز حدود العقلانية الحسابية، وينفتح على أفق مختلف تماماً، أفق لا يمكن اختزاله في أرقام أو معادلات، بل هو تجربة وجودية تتسرب عبر المشاعر، والحدس، والوعي بالزمن، وبالأشياء كما هي في لحظتها الحية. التفكير هنا ليس نشاطاً بارداً مجرداً، بل هو فعل شعري وجداني، يختبر الوجود في عمقه وغموضه، ويُدرك أن الحقيقة لا تُكشف فقط بالمنطق، بل أيضاً بالإنصات للما وراء الكلمات، والقبول بما لا يُقال.
من هذا المنطلق، أرى أن العقل لا يجب أن يُلغى أو يُرفض، كما قد يُساء فهمه أحياناً في نقاشات ما بعد الحداثة أو الفلسفة الوجودية، بل يجب أن يُعاد تشكيله وتحريره من أوهام الثبات والسيطرة المطلقة. العقل حين يُدرك حدوده، ويُصبح واعياً بصيرورته، يتحول من أداة تقييد إلى أداة انفتاح، من حصن ضد الغموض إلى جسرٍ يربط بين المعرفة والوجود. إن العقل المتواضع هو الذي ينحني أمام تدفق الحياة، لا ذلك المتغطرس الذي يحاول أن يُحاصر الوجود ضمن قوالب جامدة، أو أن يُفرغ التجربة من أسرارها عبر محاولة تفسير كل شيء بقسوة منطقية.
فالوعي بالصيرورة والعدمية واللانهاية يبدأ من الاعتراف بأن الوجود ليس موضوعاً بسيطاً للعقل ليحلله أو يسيطر عليه، بل هو مسرح متحول ومفتوح، يفيض بالغرابة والشك والدهشة، ويتجاوز كل محاولة للسيطرة المطلقة. في هذا الفهم، يتحول العقل إلى شريك في رحلة الوجود، لا سيدها، فكرٌ يعترف بأن أكثر ما يكشفه الوجود قد لا يُقال، وأن بعض أعظم الحقائق تولد في صمت التساؤل، وفي لحظات الاندهاش التي لا تُقاس بالمنطق أو الحساب، بل تُعاش بعمق الحضور والإدراك المتواضع لحدود العقل.
وبهذا، يصبح التفكير الحقيقي فعل تواضع وإجلال للغموض، حيث لا يسعى العقل لفرض هيمنته، بل يستقبل الوجود بكل ما فيه من تناقضات وأسرار، ويتعلم أن الحكمة ليست في المعرفة المطلقة، بل في القدرة على العيش مع السؤال المفتوح، بلا خاتمة نهائية.
سادساً: نقد العقلانية الحديثة في الفلسفة الوجودية
- النقد الوجودي للعقلانية: من العقل إلى الوجود؟
- دور العقل في محاولات السيطرة على المعنى: هل العقل يساهم في تقييد حرية الوجود؟
- التفكيك الوجودي لعلاقة العقل بالحرية: كيف يلتقي الفكر الوجودي بالفكر اللا عقلي؟
في عمق الروح الوجودية يكمن نوع من التمرد الهادئ، لكنه جذري، على العقلانية الحديثة التي جعلت من "العقل" مرآة للكون، بل حاكماً عليه. لقد انطلقت الحداثة من يقين شبه لاهوتي بإمكانية العقل على فهم العالم، تنظيمه، وربما حتى إنقاذ الإنسان من جهله ومصيره المأساوي. غير أن الفلسفة الوجودية، من حيث هي وعي متوتر بالهشاشة البشرية، ومن حيث هي صوت الذات في معركتها مع الفراغ، رفضت أن تكون للعقل تلك السيادة المطلقة. بالنسبة لي، لا يمكن للعقل، مهما بلغ من الدقة والتجريد، أن يفهم الكائن البشري في عمقه، لأنه ببساطة ليس معادلة رياضية، بل لغز متقلب، مخلوق يسكنه القلق، التوق، والرغبة في معنى قد لا يأتي أبداً.
لقد وقفت الوجودية، كما أراها، ضد العقلانية لا لأنها ضد التفكير، بل لأنها ضد وهم الشمولية وضد تحويل الإنسان إلى "موضوع" يمكن تشريحه وتحليله ضمن منظومات معرفية مغلقة. لم يكن رفض سارتر أو كيركغارد أو هايدغر للعقلانية رفضاً للعقل ذاته، بل رفضاً لـ تحوّله إلى صنمٍ حديث، إلى سلطة جديدة تُعيد إنتاج القهر باسم الحقيقة، والمعيار، والنظام. الوجودي لا يثق بالخرائط الجاهزة، بل يضع نفسه في مواجهة الوجود كما هو: عارٍ، لا نهائي، وغير قابل للتأطير.
ومن هنا، فإن الوجودية لا تنقض العقل بقدر ما تُعيد مساءلته. أين يقع العقل من تجربة القلق؟ من لحظة الموت؟ من الحب؟ من الغربة الوجودية؟ كيف يمكن لمقولات منطقية أن تُحيط بعذاب الإنسان في مواجهة عبثٍ لا تفسير له؟ بل كيف يمكن للعقل أن يدّعي فهم العالم، بينما هو لا يملك حتى تفسيراً لمعنى وجوده هو؟ في هذا السياق، يصبح نقد الوجودية للعقلانية الحديثة ليس تقويضاً للعقل، بل دعوة لتحريره من سطوة المركزية، وتحويله إلى شريكٍ في تجربة الوجود، لا سيدٍ عليه.
هذه هي بداية التساؤل الوجودي عن العقلانية: لا بوصفها طريقاً للخلاص، بل بوصفها مشكلة تستدعي إعادة بناء جذري لمعنى المعرفة، الإنسان، والوجود ذاته.
- النقد الوجودي للعقلانية: من العقل إلى الوجود؟
في صميم تفكيري الوجودي، أجد أن المشروع العقلاني الحديث، رغم ما فيه من سعي نبيل نحو التنظيم والفهم، قد ارتكب خطيئة فلسفية جوهرية: لقد اختزل الإنسان في بنى معرفية، وقام بفصل العقل عن الوجود الحي، حتى بات الوجود نفسه وكأنه تابعٌ للعقل، لا سابق عليه. وهنا تبدأ نقطة التوتر: هل العقل هو من يصوغ الوجود، أم أن الوجود يسبق كل عقلٍ ويسخر منه في عمقه الصامت؟
الفكر الوجودي كما في كيركغارد ونيتشه وهايدغر، لم يرفض العقل بوصفه أداة للتفكير، بل عارض العقلانية كـ"نظام ميتافيزيقي" يحاول أن يهيمن على الإنسان والوجود عبر مفاهيم مسبقة وقوانين صارمة. هذا النقد هو تمرد على كل محاولة لتحنيط الوجود ضمن إطار منطقي. لقد انطلق الوجودي من الوجود نفسه، لا من مبادئ العقل. إنه انطلاق من العراء، من اللامعنى، ومن الصمت، ومن التجربة الأصلية للذات، قبل أن يتدخل العقل بتفسيراته.
أنا أرى أن الإنسان لا يُولد عقلانياً، بل يُلقى في عالم غريب، غامض، ويبدأ بحثه عن ذاته في قلب التيه، لا في نور المنطق. وبالتالي، الانتقال من "العقل إلى الوجود" هو انتقال من التجريد إلى الجسد، من النظام إلى التمزق، من السيطرة إلى الانكشاف. إنه لحظة الوعي بأن الوجود لا يُفهم، بل يُعاش.
- دور العقل في محاولات السيطرة على المعنى: هل العقل يساهم في تقييد حرية الوجود؟
حين ننظر إلى تاريخ الفكر، نلاحظ أن العقل قد تحوّل إلى أداة لضبط المعنى، لضمان الاستقرار، ولترويض الانفلات الوجودي. لكن في عمق ذلك، هل نضبط المعنى أم نحجبه؟ وهل يحمي العقل الإنسان أم يخنقه ضمن شبكة من التعريفات والتصنيفات والمفاهيم التي تسلبه دهشة الوجود؟
أنا أعتقد، كما سارتر ونيتشه، أن العقل لا يكتفي بمحاولة فهم العالم، بل يسعى إلى "امتلاكه"، والسيطرة عليه. إنه يحاول أن يصنع "معنى ثابتاً"، بينما الوجود، بطبيعته، متغير، هارب، لا يقبل الثبات. هذه السيطرة ليست مجرد عملية فكرية، بل هي فعل عنف على المستوى الأنطولوجي. فالمعنى يصبح سجناً عندما يتم تقييده بصياغات عقلية لا ترى إلا ما تريد رؤيته.
هكذا تتحول الحرية إلى مجرد خيار ضمن حدود العقل، لا انفتاحاً على إمكانيات الوجود. إنني أرى أن التحرر من قبضة العقل لا يعني السقوط في العبث، بل هو انفتاح على معنى يولد من الداخل، من التجربة، من الصمت، من الألم، ومن اللحظة التي نعترف فيها بجهلنا النبيل. حرية الوجود لا يمكن أن تُختزل إلى ما يسمح به العقل.
- التفكيك الوجودي لعلاقة العقل بالحرية: كيف يلتقي الفكر الوجودي بالفكر اللا عقلي؟
في فلسفتي، كما في فلسفة هايدغر وسارتر، لا يمكن الحديث عن حرية حقيقية دون تفكيك العلاقة الحاكمة بين العقل والحرية. لقد علّمنا الفكر التنويري أن الحرية هي نتاج الوعي والعقل، لكن ما لم يُقال هو أن هذه الحرية، في كثير من الأحيان، ليست إلا صورة عقلانية مشذبة، مروّضة، خالية من الشراسة الوجودية.
الفكر الوجودي، حين يقترب من حدود "اللا عقل"، لا يفعل ذلك تهوراً، بل لأنه يدرك أن في مناطق اللا عقل، في الصمت، في الغموض، في العبث، توجد إمكانات للتحرر لا يمكن للعقل أن يعيها أو يتقبلها. هنا يلتقي الوجودي مع الفنان، مع المجنون، مع الشاعر، مع الصوفي: في لحظة الخروج من التفسير إلى الذوبان في اللحظة.
أنا أرى أن الحرية لا يمكن أن تكون عقلانية فقط، لأنها ليست خاضعة للحسابات والمنطق، بل تتطلب شجاعة القفز في المجهول. الفكر اللا عقلي ليس نقيض العقل، بل امتداده في فضاء أكثر غموضاً، وأكثر أصالة. وهنا، يفتح الوجودي باباً كان العقل قد أغلقه بإحكام: باب التجربة المباشرة، الحدسية، الوجدانية، كمساحات للمعنى، وربما للنجاة.
وهكذا، لا يظهر الفيلسوف الوجودي كمجرّد ناقد للعقل أو كمن ينكر قيمته، بل كصوتٍ يصرخ من قلب التجربة الإنسانية نفسها، مؤمناً بأن العقل، مهما بلغ من القوة والدقة، إذا لم يُنزَع من عرشه الاستبدادي وسيطرته المطلقة، فلن نتمكن أبداً من الوصول إلى عمق الحرية الحقيقية، ولا إلى صدق الوجود الذي يتجاوز الحسابات والتصنيفات الجافة. إن المعركة التي يخوضها الفكر الوجودي ليست ضد العقل كأداة للتفكير والتحليل، بل هي معركة ضد العقل بوصفه سلطة تقيد الإنسان، وتحوّله إلى مجرد رقم أو وظيفة في منظومة معقدة، وتحوّل المعنى إلى قيد يعيق انطلاق الروح.
في هذا التمزق العميق، بين نداء العقل الذي يريد أن يسيطر ويدير، ونداء الحرية الذي يرفض أن يُختزل أو يُقيد، يولد الفكر الوجودي كحركة ثورية في الفلسفة، لا ليُفسّر العالم من الخارج كما تفعل المعارف التقليدية، بل ليعيشه من الداخل، ليختبره بكل أبعاده الوجودية، ليشعر بثقل اللحظة، ويحتضن الخوف والشك والانكسار كجزء من تجربة أن يكون إنساناً. الوجودي لا يبحث عن إجابات جاهزة، بل عن لحظة صدق مع الذات والعالم، حيث يختبر الإنسان حريته في مواجهته لمجهول الحياة، ويُعيد بناء معنى وجوده من جديد، ليس عبر مفاهيم جامدة، بل عبر حضور واعٍ ومتجدد لكل لحظة من حياته.
وفي هذا الإحياء العميق للوجود، تتحول الحرية من مجرد فكرة نظرية أو مفهوم فلسفي مجرد إلى تجربة حية وملموسة تنبض في كل لحظة من حياة الإنسان. تصبح الحرية فعل رفض للاستسلام لأي سلطة تُقيّد الروح، سواء كانت تلك السلطة داخلية كالعقل المتسلط أو خارجية كالأعراف والقوانين الجامدة. إنها الجرأة على مواجهة اللايقين والتغيّر بشجاعة، والقدرة على العيش في توتر دائم بين الخوف والأمل، بين المجهول والرغبة في الفهم. بهذا الإيقاع المستمر، يعيد الإنسان اكتشاف ذاته في كل لحظة، يعيد تشكيل وجوده عبر مواجهة العالم المتغير، ليصبح وجوده فعل تمرد دائم على كل ما يُحد من حريته الحقيقية.
سابعاً: الحرية والخيار: بين الاختيار الواعي والعبثية
- الحرية كاختيار واعٍ: ما هو دور العقل في اتخاذ القرارات؟
- الحرية في السياقات العبثية: كيف يتعامل الفلاسفة الوجوديون مع مفهوم العبث في الحرية؟
- هل هناك علاقة بين الحرية والعبثية؟ وهل يتطلب وجود الحرية في لحظة العبث؟
في قلب الفلسفة الوجودية، تبرز الحرية لا كامتياز وجودي فحسب، بل كعبء لا يُحتمل أحياناً. إن الإنسان ليس فقط حراً، بل محكومٌ عليه بالحرية، كما يصرّح سارتر، وهذه الحرية لا تأتي مزينةً بالطمأنينة، بل مشبعة بالقلق، مُثقَلة بالمسؤولية، ومفتوحة على هاوية العبث. إن السؤال الوجودي عن الحرية ليس سؤالاً أخلاقياً أو سياسياً فحسب، بل هو سؤال ontological، يرتبط بجوهر الوجود الإنساني ذاته: هل نختار لأننا نعي خياراتنا؟ أم نختار لأن الوجود يرمي بنا في عالمٍ بلا معايير سابقة، فنخترع المعنى وسط فراغ؟
الاختيار في الوجودية ليس فعلاً عابراً، بل هو فعل تأسيسي، يخلق الذات في كل مرة تقف فيها أمام مفترق الطرق. لكن في غياب معايير مطلقة، يصبح كل خيار فعلاً "عبثياً" من منظور العقل الكلاسيكي، بينما هو في نظر الوجودي أقصى درجات الأصالة. نحن لا نختار بين خيرٍ وشرٍ موضوعيين، بل بين مسارات تتحدد معناها فقط بعد أن نخوضها.
وهنا يظهر التوتر: كيف نوفّق بين فكرة الاختيار الواعي، المبني على إدراك ومسؤولية، وبين شعورٍ داخلي بأن العالم لا يقدم أي معيار ثابت، وأنه لا يوجد شيء "ينبغي" فعله سلفاً؟ هل نملك حقاً الحرية في عالمٍ لا يضمن لنا أن خياراتنا صحيحة، أو حتى منطقية؟ أم أن الحرية – كما يقول كامو – هي الصرخة التي يطلقها العقل حين يواجه عبثية الكون ولا يجد فيه ما يبرر وجوده؟
في هذا المفصل الدقيق، تتقاطع الوجودية مع العبثية، لا لترفض الحرية، بل لتعريها من أوهامها وتعيدها إلى جذورها: الحرية ليست طريقاً إلى الطمأنينة، بل هي مغامرة نحو المجهول، خيارٌ دائم في عالم لا يضمن شيئاً. ومن هنا، يصبح الإنسان ليس فقط من يختار، بل من يُبدع وجوده عبر اختيارات لا تحكمها قواعد، بل تشق طريقها في الصمت الكوني.
- الحرية كاختيار واعٍ: ما هو دور العقل في اتخاذ القرارات؟
في تصوري، لا يمكن إنكار دور العقل في الوعي بالاختيار، لكنه ليس القوة الحاسمة التي تمنح الحرية معناها الجوهري. فالعقل يُستخدم في تحليل الخيارات، تقدير النتائج، وربما بناء مبررات لقرارٍ ما، لكنه لا يخلق الحرية، بل يترجمها بعد وقوعها. الحرية، في جوهرها الوجودي، تسبق العقل، تماماً كما أن الوجود – عند سارتر – يسبق الماهية. نحن لا نكون أحراراً لأننا نفكر، بل نفكر لأننا أحرار، ولأننا وُضعنا أمام واقع يتطلب منا أن نختار.
العقل، إذاً، ليس مصدر الحرية بل أداتها المحدودة. إنه يُنير بعض المسارات، لكنه لا يمنحنا الطمأنينة. لأن كل قرار، مهما بدا عقلانياً، يحمل في طياته مجازفة وجودية: هل ما أختاره صواب؟ هل أستطيع أن أعود عن هذا الطريق؟ هل كنت حراً فعلاً، أم خُدعت بمعايير جاهزة صنعتها الثقافة، اللغة، المجتمع؟
سأقولها بوضوح: العقل لا يبرّر الحرية، بل يقف غالباً مرتبكاً أمامها. نحن نقرر رغم العقل، لا بفضله فقط. فالاختيار الحقيقي غالباً ما يتم في لحظات لا يكون فيها العقل حاضراً بشكل منهجي، بل يكون الإنسان مدفوعاً بحدس، بيقين داخلي، أو حتى بصمت لا تفسير له. هناك لحظات يقرّر فيها الإنسان أن يكون، لا لأن هناك حجة عقلية، بل لأنه لا يستطيع إلا أن يختار.
- الحرية في السياقات العبثية: كيف يتعامل الفلاسفة الوجوديون مع مفهوم العبث في الحرية؟
العبث، كما أفهمه، ليس موقفاً عدمياً سلبياً، بل هو الشرط الأساسي الذي تُمارَس فيه الحرية على حقيقتها. في عالم لا يقدم لك معنى جاهزاً، تصبح الحرية ليست مجرد خيار، بل فعل خلْق مستمر للمعنى. إن الفلاسفة الوجوديين – خصوصاً ألبير كامو – لا يرون العبث كعقبة أمام الحرية، بل كأفقٍ لها.
كامو في "أسطورة سيزيف" لا يدعو للانتحار الفلسفي رغم عبثية الوجود، بل يرى في التمرّد الحرّ، في الإصرار على الحياة رغم غياب الجدوى، ذروة الحرية الوجودية. الحرية هنا لا تعني الانفلات أو التحلل، بل الصمود الواعي في وجه كون لا يجيب. العبث يكشف لنا هشاشة كل المعايير الخارجية، لكنه لا يُلزمنا بالاستسلام، بل يدفعنا إلى أن نخلق قواعدنا، قيمنا، ومبرراتنا الخاصة.
أنا أعتقد أن الحرية في السياق العبثي هي أصدق من أي حرية عقلانية منظمة، لأنها تُمارَس في ظل وعي تام بانعدام الضمان، وهي في جوهرها موقف وجودي صلب يقول: "أنا أختار، رغم أن لا شيء يفرض علي أن أفعل." في هذا، يلتقي العبثي مع المبدع، مع الشاعر، مع المتمرّد، لا ليهدم، بل ليقيم عالماً ذاتياً في قلب الفراغ.
- هل هناك علاقة بين الحرية والعبثية؟ وهل يتطلب وجود الحرية في لحظة العبث؟
العلاقة بين الحرية والعبثية ليست علاقة تضاد، بل علاقة انكشاف. العبث هو مرآة الحرية، والحرية هي الاستجابة الواعية لهذا الانكشاف. حين يدرك الإنسان أن لا حقيقة مطلقة تقوده، ولا غاية نهائية تنتظره، يجد نفسه في مهب العدم. وهنا بالتحديد، تولد الحرية كتجربة صافية لا تستند إلى شيء سوى ذات الإنسان وهو يُعلن مسؤوليته عن نفسه.
إن الحرية، في لحظات العبث، لا تنهار، بل تتعرّى. تفقد زينتها، لكنها تحتفظ بجوهرها: لا أحد يقرّر عني، لا أحد يمنحني المعنى، لا أحد يتحمل نتائج ما أفعل. هذه هي الحرية الوجودية كما أفهمها: ولادة مستمرة للذات من رماد اليقين.
وهنا، في مواجهة فراغ الوجود ولحظة العبث التي تتكشف فيها حدود كل معنى مسبق، لا بد أن أعترف بحقيقة قد تبدو مغايرة لما هو مألوف: لحظة العبث ليست تهديداً للحرية أو نهايتها، بل هي الشرط الأساسي لولادتها وتجددها. فالعبث لا يعني الانهيار أو اليأس، بل هو ذلك المجال الخالي الذي تتحرر فيه الحرية من أصفاد الأوهام التي كانت تحيط بها، من تبريرات العقل الزائفة التي حاولت أن تضع للوجود حدوداً صارمة، ومن استعارات الموروث الثقافي التي كانت تكرّس سلطات معرفية تُقيّد الفكر والذات. في لحظة العبث، نُجرد من كل ما نعتقد أننا نملكه من حقائق أو ضمانات، ونواجه حقيقة أن الوجود بلا معنى نهائي، وأن أي معنى يُخلق هو من فعلنا نحن، لا من نصوص أو قوانين مفروضة.
بهذا الانكشاف، لا نملك شيئاً سوى قرارنا الحرّ، الذي قد يبدو في ظاهره بسيطاً أو حتى تافهاً، لكنه في جوهره يصبح فعل نجاة وجودية حقيقية. إنه اللحظة التي نصنع فيها معنى حياتنا بأيدينا، حيث لا تأتي القيمة من الخارج، ولا ننتظر من أحد أن يمنحانها، بل نصوغها بأنفسنا من خلال خيارنا الواعي والمقصود. في هذا الفعل الحر، تكمن مقاومة العبث؛ مقاومة لا تعتمد على الثبات أو اليقين، بل على الفعل المستمر في خلق معنى وسط اللامعنى، وعلى الشجاعة في مواجهة الفراغ بنور الإرادة والاختيار. وهكذا، يصبح العبث ليس مجرد حالة سلبية أو مأساوية، بل نبعاً متجدّداً للحرية التي تعيش في قلب كل إنسان قادر على أن يقول “أنا أخلق حياتي، رغم كل شيء، وأرفض أن أكون ضحية للمصير أو التقاليد أو أي سلطة تعيد تشكيل كياني”.
وفي هذا الفضاء المفتوح على اللامعنى، تتجلى أمامنا مسؤولية الإنسان في أبهى صورها وأشدها ثقلاً. إذ لا مهرب هنا من مواجهة الذات بأكملها، من الاعتراف بأننا وحدنا، بلا خارطة واضحة أو دليل مسبق، مطالبون باختيار الطريق الذي سنسير عليه، حتى وإن كان هذا الطريق محفوفاً بالمخاطر والشكوك. فالحرية في هذا السياق ليست هروباً من الواقع أو انصياعاً لأوهام الهروب، بل هي التزام عميق وجذري بإضفاء معنى على اللحظة الراهنة، مهما كانت هشّة أو عابرة أو حتى متناقضة.
إنها رحلة مستمرة ومتجددة من التشكيل وإعادة التشكيل، رحلة يتحول فيها الإنسان من مجرد كائن سلبي يتلقى الحياة كما هي، إلى صانع وراقب في آن واحد، يتبنى قراراته ويقاسمه عبء نتائجها، لا يتهرب من مسؤولية وجوده، بل يحتضنها بوعي كامل. في هذه الرحلة، يصبح المجهول ليس تهديداً فقط، بل جزءاً لا يتجزأ من تجربة الإنسان الوجودية، حيث يجد نفسه مضطراً لأن يرحب به ويعتنقه، ليس كعدو يجب الانتصار عليه، بل كشريك في خلق معنى جديد للحياة.
ومن هنا تنبثق قوة الحرية الحقيقية، التي لا تكمن في القدرة على التحكم بكل شيء أو معرفة كل جواب، بل في القدرة على أن تظل صامداً في وجه اللايقين، وفي أن تستمر في البحث عن معنى رغم غياب أي ضمانات. إنها حريةٌ تولد من قلب التوتر بين الفوضى والنظام، بين اللا استقرار والرغبة في الثبات، حيث يدرك الإنسان أنه ليس إلا نقطة صغيرة في فضاء الوجود اللامحدود، لكنه في الوقت ذاته، نقطة تحمل في ذاتها إمكانية لانهائية لإبداع الذات وإعادة صياغة الواقع.
ثامناً: الحرية بوصفها لحظة من التوهج الوجودي الخالص
- كيف يمكن للإنسان أن يختبر الحرية في أسمى تجلياتها؟
- الحرية ككسر للقيد العقلي: كيف يكتشف الإنسان حرية مطلقة لا يمكن للعقل إدراكها؟
- الحرية كحالة إنسانية غير قابلة للقياس: هل يمكن للحرية أن تُفهم خارج نطاق العقل؟
في تصورنا الفلسفي الذي ينطلق من صميم التجربة الوجودية، لا يمكن اختزال الحرية إلى مجرد قدرة على اتخاذ القرار، ولا إلى تعريفات قانونية أو اجتماعية. إن هذه المقاربات، على أهميتها، تبقى خارجية، سطحية، لا تمسّ جوهر الحرية كما تتجلى في أعمق مستويات الكينونة. فالحرية الحقيقية ليست حدثاً خارجياً، بل لحظة داخلية نادرة، لحظة من التوهّج الوجودي الخالص، يشتعل فيها الكائن بوصفه كائناً، لا كفرد مندمج في نسق.
هذه اللحظة لا يمكن تصنيعها أو استحضارها بالإرادة أو التحليل؛ إنها تكشف نفسها حين يصل الإنسان إلى تخوم وعيه، حيث يسقط كل ما هو مُعطى سلفاً، وينهار كل ما هو متوقع أو محسوب، ويغدو الوجود ذاته مكشوفاً في عريه وقسوته وجماله. هناك، في نقطة تماس بين العدم والإمكانية، يظهر الإنسان في ذروة توهّجه، حين يختار أن يكون دون أن يمتلك أي ضمان، حين يصرخ: "أنا هو أنا" في وجه الصمت اللامتناهي للكون.
الحرية هنا، في هذا المعنى الذي أدافع عنه، ليست فقط حقاً أو طموحاً أو شرطاً أخلاقياً، بل هي حالة وجودية خارقة، لا تُقاس بمقاييس العقل ولا تُقنن بمفاهيم الفلسفات التقليدية. إنها ذروة الكينونة في انكشافها، انبثاق الذات من داخل نفسها، احتراقها الداخلي لتصير نوراً يشع في ظلام المعنى. ليست الحرية فعلًا نقوم به، بل هي اللحظة التي نصبح فيها فعلاً محضاً، وجوداً نقياً، حياةً حرةً تُمارَس دون قيد حتى من الوعي ذاته.
في هذا الباب، نغوص في هذا المفهوم العميق، حيث الحرية ليست مجرد اختيار، بل هي لحظة إشراق وجودي، لحظة توهج تتجاوز العقل والمنطق واللغة، لحظة "كينونة" خالصة بلا قيد، لكنها أيضاً بلا يقين... تلك اللحظة التي تبرّر بها الحياة نفسها.
- كيف يمكن للإنسان أن يختبر الحرية في أسمى تجلياتها؟
الحرية في أسمى تجلياتها ليست فعلاً ميكانيكياً، ولا قراراً واعياً ضمن خيارات محددة مسبقاً؛ بل هي اختراق للوجود ذاته، تجربة وجودية تقع خارج الزمن الاجتماعي، وخارج أنماط التفكير التقليدي. الإنسان لا يختبر الحرية العليا حين يختار بين "أ" و"ب"، بل حين يدرك فجأة أنه لا يوجد أي ضرورة لاختياراته، وأنه، في لحظة صفاء نادرة، يستطيع أن يخلق معنى من لا شيء، من قلب العدم، دون أن يحتاج إلى تبرير عقلاني.
إن هذه الحرية تُختبَر عندما يصطدم الإنسان بحقيقته العارية، تلك اللحظة التي يسقط فيها الوهم، ويتعرّى الوعي من كل وسائله الدفاعية، ليجد نفسه وجهاً لوجه مع كينونة لا تحتمل التأجيل. لحظة يشعر فيها أن وجوده ليس مفروضاً عليه، بل هو فعل مستمر للخلق الذاتي، وأنه وحده من يمنح للحياة شكلها، واتجاهها، وغرضها.
في هذه اللحظة، لا تعود الحرية مجرد حق، بل تصبح تجربة روحية داخلية تُشبه الكشف الصوفي أو الانخطاف الوجودي، حالة من التوهج تضيء الوجود من الداخل، تجعل الإنسان يرى ما لا يُرى، ويشعر بما يتجاوز اللغة، ويكون، بكل ما في الكلمة من عمق.
- الحرية ككسر للقيد العقلي: كيف يكتشف الإنسان حرية مطلقة لا يمكن للعقل إدراكها؟
إن العقل، رغم كونه أداة للتمييز والتحليل، كثيراً ما يتحول إلى سجن مغلّف بمنطق النظام. فالعقل، في محاولاته لتفسير العالم، يقوم بتسييجه، بتقليصه إلى معادلات يمكن التحكم بها. وهو، في هذا المعنى، ليس أداة تحرير دائماً، بل قد يصبح آلية ضبط وقمع، يمنع الإنسان من رؤية ما يتجاوز النسق.
من هنا، فإن الحرية الحقيقية لا تُدرك بالعقل، بل تُكتشف حين يُكسر قيد العقل. في لحظة ما، يتجاوز الإنسان حدوده المفهومية، ويُسلم نفسه لحالة من "الانكشاف الخالص"، حيث تسقط جميع الفلاتر الإدراكية، ويصير الإنسان في تماس مباشر مع جوهر الوجود.
هذه الحرية، التي لا يمكن إدراكها عبر القوانين أو التحليل أو اللغة، ليست إلا لحظة من الانفلات الوجودي الذي يُفجّر الداخل، ويحرّر الذات من هيمنة الأنساق التي صنعها الوعي ذاته. إنها ليست جنوناً، لكنها ما بعد العقل: نقطة تجاوز نادرة ينفتح فيها الوجود على احتمالات لا نهائية، لا تخضع لأي معيار أو شكل.
- الحرية كحالة إنسانية غير قابلة للقياس: هل يمكن للحرية أن تُفهم خارج نطاق العقل؟
نعم، بل أذهب أبعد من ذلك وأقول: إن أسمى تجليات الحرية لا يمكن أن تُفهم داخل نطاق العقل. إن محاولة "فهم" الحرية بعقل يُفكر وفق منطق الأسباب والنتائج هو تناقض في ذاته، لأن الحرية – كحالة داخلية – تتجلى تحديداً حين ينهار هذا المنطق، وتُنتزع الذات من شرطها السببي.
الحرية ليست رقماً في معادلة، ولا تُقاس بمقدار ما لدى الإنسان من خيارات. إنما هي شعور وجودي بالانفكاك المطلق، تحرر من كل سلطة: سلطة اللغة، وسلطة العادات، وسلطة الذات نفسها. ولهذا فهي تجربة شخصية، لا يمكن نقلها أو مقارنتها أو إخضاعها لمقاييس خارجية.
الحرية في لحظتها العليا لا تُحكى، ولا تُفهم، بل تُعاش فقط. إنها كالرؤية النادرة التي لا يدركها إلا من اختبرها فعلياً، تماماً كما لا يمكن شرح العطر لمن لم يشمه، أو وصف السكون لمن لم يدخل قلبه. إنها شعور داخلي يشبه التنوير، توهج غير قابل للقياس أو البرهنة.
ولعل هذا ما يجعل الحرية، بهذا المعنى، فعلاً وجودياً نقياً، يقف على النقيض من كل ما هو عقلاني، وقابل للتصنيف. إنها ليست شيئاً نفهمه، بل هي الشيء الذي يجعل الفهم نفسه ممكناً.
تاسعاً: الوجود والحرية في سياق المعنى الكوني
- هل يمكن أن يكون للحرية دور كـ "كسر" للمعنى الكوني في صيرورة الوجود؟
- الحرية والمقاومة: كيف تمثل الحرية في الفلسفة الوجودية كمقاومة ضد الأطر العقلية والاجتماعية؟
- الوجود كأفق غير محدد: كيف يمكن للإنسان أن يظل حراً في صيرورة الكون المفتوحة؟
ليست الحرية والوجود مجرد مفاهيم إنسانية معزولة، بل هما ارتجاجان في نسيج الكون، إشارتان دقيقتان على أن الإنسان، رغم محدوديته، يحمل داخله صدًى لما هو كوني، لما يتجاوز ذاته. ففي كل لحظة يختبر فيها الإنسان حريته، هو لا يتحرك ضمن دائرة الاختيار الأخلاقي أو السياسي فحسب، بل يستجيب لاهتزازٍ في عمق الوجود نفسه. إذ أن الحرية، كما أفهمها، ليست ملكاً للذات الفردية، بل هي إمكانية كونية، كامنة في الأشياء، تتجلى بوعي الإنسان بها.
إن هذا الفصل هو دعوة إلى تجاوز الإنسان كمركز للمعنى، والنظر إليه بوصفه نقطة تلاقي بين الوجود والحرية والمعنى، بين المحدود واللامحدود، بين اللحظة والخلود. هنا، نعيد طرح السؤال القديم المتجدد: هل توجد حرية لأن الإنسان موجود؟ أم أن الإنسان يوجد لأن الحرية – كإرادة كونية – شاءت أن توجد فيه؟
تغدو الحرية، في هذا الأفق، ليست فقط مسؤولية، بل علامة على أن الكون ذاته مفتوح، غير محسوم، وأن المعنى لم يُختتم بعد. وهكذا، فإن وجود الإنسان، بما يحمله من وعي وقلق وسؤال، يصبح جزءاً من تشكّل المعنى الكوني لا مجرد متفرج عليه. في هذا السياق، لا يعود الإنسان باحثاً عن معنى جاهز، بل يُصبح – من حيث لا يدري – أداة الخلق المستمر للمعنى في الكون.
- هل يمكن أن يكون للحرية دور كـ "كسر" للمعنى الكوني في صيرورة الوجود؟
إن طرح هذا السؤال يعني خلخلة البداهة الأولى التي ربطت بين الحرية والمعنى بوثاق متين. فلطالما اعتُقد أن الحرية هي الشرط الأسمى لإنتاج المعنى؛ لكن ماذا لو كانت، في لحظات بعينها، كسراً لهذا المعنى، لا تكملة له؟
إن الإنسان الحر ليس فقط من ينتج دلالة لعالمه، بل هو أيضاً من يملك القوة الجذرية لنفي تلك الدلالة.
بهذا المعنى، تصبح الحرية حدثاً لا يُتوقع، قوة اقتحام لا قوة تبرير. إنها تنفصل عن المسار المنطقي للأشياء، وتدخل كإرادة خلخلة في صيرورة المعنى الكوني الذي يسعى دائماً نحو الاتساق. فالحرية تقاطع هذا الاتساق، لا لتهدمه تماماً، بل لتذكّرنا بأن الكون ليس نظاماً مُغلقاً، بل صيرورة مفتوحة على الطفرات، وعلى الانفلات، وعلى لحظات لا يمكن تفسيرها داخل منظومة شاملة.
ففي لحظة ما، قد تصبح الحرية حالة صمت داخل ضجيج التفسير الكوني، رفضاً لأن تكون جزءاً من نص سابق، أو إطار نهائي للمعنى. هي ليست نفياً للكون، بل تمزق صغير في نسيجه يفتح أفقاً لما هو غير متوقع، غير محسوب، غير مكتمل. فالحرية هنا ليست أداة المعنى، بل المِعوَل الذي يضربه ليكشف عن هشاشته.
- الحرية والمقاومة: كيف تمثل الحرية في الفلسفة الوجودية كمقاومة ضد الأطر العقلية والاجتماعية؟
في عمق الوجودية، تتجلى الحرية لا كامتياز، بل كموقفٍ مقاوم؛ كممانعة دائمة لكل ما يُراد له أن يكون قيداً: الدين حين يتحول إلى دوغما، العقل حين يُشيّد أُطراً ثابتة، المجتمع حين يغدو آلة تطحن الفرد، والتقاليد حين تكفّ عن أن تكون جذوراً وتتحول إلى قيود.
الحرية، في هذا الإطار، ليست مجرد إمكان للاختيار، بل رفض جوهري لأن يُختزل الإنسان في وظيفة، في تعريف، في هوية جامدة. إنها تلك القوة التي تُمكّن الذات من أن تنهض ضد ما يُفرض عليها من الخارج – أو حتى من داخلها حين تُسجن داخل عقلها نفسه.
وفي هذا الصراع، يتقاطع الوجودي مع الثائر، والفرد مع المفكر، والذات مع الغريب. فالحرية كفعل وجودي، تُمارَس في مواجهة مستمرة مع اللغة، مع السلطة، مع المؤسسات، ومع الصور المسبقة عن "ما ينبغي أن يكون". إنها ليست ترفاً فلسفياً، بل شكلاً من أشكال الوجود المُهدِّد للأنظمة، المُزعج للمقولات، والمتمرد على التعريفات.
في ضوء ذلك، تبدو الحرية أقرب إلى الحريق منها إلى النور: تحرق التكرار، تقاوم القبول، وتُحرّر الذات من الوقوع في النوم الفكري داخل نظام الأشياء. إنها الفعل الوجودي الأعظم الذي يجعل الإنسان لا مجرد كائن عاقل، بل كائن مقاوِم.
- الوجود كأفق غير محدد: كيف يمكن للإنسان أن يظل حراً في صيرورة الكون المفتوحة؟
في قلب هذا السؤال يكمن توتر عميق: فإذا كان الكون في حالة صيرورة دائمة، غير مكتمل، لا يُمسك به من خلال أية صيغة نهائية، فهل يستطيع الإنسان، وهو الكائن الباحث عن المعنى والاستقرار، أن يبقى حراً وسط هذا التدفق المستمر؟
أليس الحرية، في هذه الحالة، هي القدرة على السير في المجهول، دون خرائط نهائية، دون ضمانات؟
أرى أن الحرية، في هذا السياق، ليست استقراراً في الذات، بل استعداداً دائماً للانتقال، للتغيير، للمغامرة. إنها شجاعة أن لا تستقرّ في معرفة، ولا في هوية، ولا حتى في فكرة عن نفسك. ففي الكون المفتوح، لا يتحقق الوجود إلا في عبوره، ولا تتحقق الحرية إلا في القبول الجذري بعدم التحديد.
الحرية إذاً ليست فقط اختياراً بين بدائل، بل هي اختيار أن تبقى في حافة الأشياء، أن تقف على تخوم المعنى، أن تكون حيث لا يوجد يقين، ولا طريق مرسوم.
وإذا كانت صيرورة الكون لا نهائية، فالحرية الحقة هي ألا تُطالب الكون بأن يُغلق من أجلك، وألا تُطالب نفسك بأن تنتهي. أن تقبل أن تبقى كائناً في التكوين، لا في الاكتمال، أن تعيش حراً لأنك لا تطلب من الحياة إلا أن تُعاش، لا أن تُفهم حتى نهايتها.
خاتمة: الإنسان بين الهاوية والنور – تأملات في الوجود، العقل، والحرية
في ختام هذا المسار الفلسفي الذي خضناه عبر طبقات الفكر الوجودي، من عمق الوجود كصيرورة متدفقة، إلى جدل العقل وحدود وعيه، وصولاً إلى لحظة الحرية كانفجار كوني في قلب العبث واللايقين، نقف أمام حقيقة جوهرية لا يمكن تبسيطها: الحرية ليست فعلاً نابعاً من اختيار واعٍ فحسب، بل هي انبثاق وجودي يخرج من رحم القلق، ويولد من انكسار المعنى المسبق.
إنّ العقل، بكل ما فيه من نورٍ وانضباطٍ ومفاهيم، قد يكون في كثير من الأحيان قيداً ناعماً، يسعى إلى تطويق الوجود في شبكاتٍ من الفهم والتحديد، بينما الوجود، في طبيعته الأصلية، انفلاتٌ دائمٌ من التعريف، تمرُّدٌ على الثبات، ورغبة في التجلّي دون انتظار تأويل. ومن هنا، فإن العلاقة بين العقل والوجود ليست علاقة وئام دائم، بل هي توترٌ مبدعٌ يفتح باباً لفهم الإنسان ككائن غير مكتمل، يسكنه التناقض ويسعى في دروب المعنى دون خارطة.
أما الحرية، فلا يمكن اختزالها بقدرة على اتخاذ قرار أو على رفض قيدٍ خارجي، بل تتجلى في أسمى صورها حين ينفصل الإنسان عن مقولات العقل الجاهزة، ويتحرر من شرط المعنى ذاته. في تلك اللحظة – التي تشبه البرق – يكتشف الإنسان هشاشته ومجده معاً: هشاشته لأنه بلا يقين، ومجده لأنه يخلق ذاته في كل لحظة، دون ضمانات.
لقد حاولنا في هذا البحث أن نرسم خريطة لرحلة تبدأ من سؤال: "ما الوجود؟"، وتمتد عبر دهاليز العقل، ومفازات الحرية، حتى تصل إلى الأفق المفتوح للكون حيث لا معنى ثابت، بل إرادة للوجود في معناه الحرّ والمتحوّل.
وهكذا، لا ينتهي هذا البحث بإجابة، بل ينتهي بدعوة للتفكير المستمر، وللثورة الداخلية التي لا تقف عند حدود العقل، ولا عند يقين الماهية، بل تمضي أبعد: نحو الإنسان ككائن يسكن اللايقين، ويتوهج في حريته، لأنه ببساطة... كائن يبحث عن ذاته في مجاهيل المعنى.
لقد كشف هذا البحث بعمق أن مفهوم الحرية في الإطار الوجودي الخالص يتجاوز بكثير مجرد تصورات العقلانية التقليدية التي تحددها كقرار عقلاني منطقي أو كقدرة بحتة على الاختيار بين بدائل معروفة. فالحرية هنا ليست مجرد فعل خارجي أو اختيار مادي، بل هي لحظة وجودية فريدة تنكشف فيها الذات عن ذاتها الحقيقية من خلال تفلتها من قبضة التحديد المسبق الذي يفرضه العقل والمعنى التقليديان، لتختبر كينونتها في أفق مفتوح لا يُقيد بالحدود العقلانية أو المفاهيم الجامدة. إنها حالة من الانفتاح الوجودي الصافي، حيث يغيب الاستقرار ويتلاشى اليقين، ويصبح الإنسان كائناً يحيا في قلب الصيرورة المستمرة، حاملاً عبء الحرية كوزن ثقيل لا يمكن التهرب منه أو إنكاره، ليس كمنقذ أو خلاص سحري، بل كحقيقة وجودية تعكس جوهر كينونته في عالم يتسم بالتغير وعدم الثبات.
في هذا التدفق المستمر للوجود، يحاول العقل جاهداً أن يمسك به، أن يؤطّره ضمن مفاهيم وحقائق ثابتة، لكنه يدرك في النهاية استحالة ذلك الإمساك الكامل، إذ لا يمكن للعقل أن يحيط بما هو متحرك دائماً ومفتوح على اللانهائي. الحرية إذاً، تسكن في اللحظة الفاصلة التي ندرك فيها هذا القيد، حيث نختار أن نكون، ليس بناءً على معرفة مسبقة أو تأكيد على الذات، بل استناداً إلى إدراك عميق أننا ما زلنا في حالة صيرورة مستمرة، نخلق ذواتنا بأفعالنا وقراراتنا المتجددة. الحرية في هذا السياق هي فعل المواجهة مع المجهول، والقبول باللايقين، والجرأة على إعادة صياغة الذات والواقع معاً، رغم كل ما يحمله ذلك من قلق وعدم استقرار، لتصبح بذلك فعلاً وجودياً أصيلاً يعبر عن جوهر الإنسان في عالم لا يرحم الثبات أو الجمود.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- Sartre, Jean-Paul. Being and Nothingness: An Essay on Phenomenological Ontology. Translated by Hazel E. Barnes. Routledge, 2003.
- Heidegger, Martin. Being and Time. Translated by John Macquarrie and Edward Robinson. Harper Perennial, 2008.
- Camus, Albert. The Myth of Sisyphus. Translated by Justin O’Brien. Vintage Books, 1991.
- Nietzsche, Friedrich. Thus Spoke Zarathustra. Translated by Walter Kaufmann. Penguin, 1978.
- Merleau-Ponty, Maurice. Phenomenology of Perception. Translated by Colin Smith. Routledge, 2002.
- Kierkegaard, Søren. The Concept of Anxiety. Translated by Reidar Thomte. Princeton University Press, 1980.
- Deleuze, Gilles & Guattari, Félix. What is Philosophy? Translated by Hugh Tomlinson and Graham Burchell. Columbia University Press, 1994.
- Levinas, Emmanuel. Totality and Infinity: An Essay on Exteriority. Translated by Alphonso Lingis. Duquesne University Press, 1969.
- Badiou, Alain. Being and Event. Translated by Oliver Feltham. Continuum, 2005.
- Marcel, Gabriel. The Mystery of Being (Vols. I & II). St. Augustine's Press, 2001.