على صفحات النسيان: رحلة في العالم البرزخ

بقلم: د. عدنان بوزان

عندما فارقت الحياة، وجدت نفسي في عالم غير مألوف، محاطاً بغيوم ناعمة تضيع في الأفق. كنت تائهاً بين الضباب والزمن، أشعر بارتباك عميق. حاولت أن أفهم ما يجري، لكن كل شيء كان يبدو غير واقعي. مر الوقت ببطء، وبدأت أشعر بأنني أنجرف رويداً رويداً في دفتر النسيان.

كان هناك شعور غريب بالسكينة، لكن في الوقت نفسه، كان هناك شيء مفقود. كنت أتجول بين الغيوم، وأرى لمحات من حياتي الماضية تظهر وتختفي أمامي. وجوه مألوفة، ضحكات، وأحزان كانت تتلاشى كالدخان في الهواء.

رأيت زوجتي، التي تركتها وحيدة وهي تحمل طفلنا الذي لم أره أبداً. كنت أرغب بشدة في العودة إليها، لكن الزمن في هذا العالم كان يسير بشكل مختلف. كل لحظة كانت تبدو كدهر، وكل ذكرى كانت تبتعد أكثر فأكثر. كنت أشعر أنني أفقد نفسي ببطء.

وسط هذا الضياع، بدأت أرى صوراً جديدة. رأيت زوجتي تحمل طفلاً بين ذراعيها، ثم رأيتها تعلمه المشي وتدخله المدرسة. كانت الأيام تتسارع أمام عيني، ورأيت ابننا يكبر ويمضي في حياته. كنت أتمنى لو أستطيع لمسهم، أن أكون معهم في تلك اللحظات.

لكن الغيوم كانت تحجبني عنهم، وكانت الذكريات تزداد ضبابية. بدأت أشعر بأنني أصبح جزءاً من النسيان، تائهاً بين اللحظات التي لم أعشها. كنت أرى الظل الثابت في كل صورة، وبدأت أدرك أن هذا الظل كانت أمي. أمي التي لم تتوقف عن البكاء لفراقي، والتي كانت تذكرني باستمرار.

مع مرور الزمن، بدأت أتلاشى أكثر في دفتر النسيان. كان من الصعب أن أميز بين الواقع والخيال، بين الماضي والحاضر. رأيت أمي تبكي في كل مرة يظهر فيها ظلي، ورأيتها تكبر وتشيب. كنت أشعر بالألم لرؤيتها تحمل هذا الثقل وحدها.

رأيت زوجتي تتأقلم مع فقداني، تعتني بابننا بحب وحنان، وتتحمل مشاق الحياة اليومية. كانت قوية، وكانت تقدم الأفضل له. كنت أراها تبتسم وتبكي، وكانت تلك اللحظات تذكرني بأن الحياة تستمر.

وفي يوم من الأيام، رأيت ابني يقف أمام قبر، يحمل باقة من الزهور. كانت زوجتي بجانبه، تبكي بهدوء. علمت حينها أن أمي قد فارقت الحياة. شعرت بأنني أفقد جزءاً آخر من نفسي، وكنت أغرق أكثر في دفتر النسيان.

مرت سنوات أخرى، ورأيت ابني يكبر ويحقق أحلامه. رأيته يتزوج ويبدأ حياته الأسرية. رأيت أحفادي يلعبون ويضحكون، وكانت هذه اللحظات تمنحني بعض السلوى. لكن ظلي الباكي في خلفية الذكريات بقي يذكرني بتلك اللحظات التي فقدتها.

وفي يوم ما، جاءني أحد الملائكة وقال لي: "لقد حان الوقت لكي تنضم إليهم. لقد رأيت ما يكفي، وحان الوقت لكي ترتاح." نظرت إلى الغيوم المحيطة بي، وشعرت بالسلام يغمرني. كنت مستعداً للرحلة الجديدة التي تنتظرني.

لكنني لم أذهب وحدي، كنت أحمل معي ذكرياتهم، حبهم، وأملهم في أن يكون المستقبل أفضل. في النهاية، علمت أن الحب الذي نتركه وراءنا يظل دائماً معنا، حتى في عوالم النسيان.

لم يبقَ مني سوى شاهد قبري وبعض الذكريات مع مرور الكرام على صفحات التاريخ. تلك الذكريات التي تتلاشى ببطء مع مرور الزمن، تصبح أشبه بظلال باهتة في أذهان من عرفوني. الشاهد الذي يقف فوق قبري يحمل اسمي وتاريخ حياتي، لكنه لا يعبر عن كل تلك اللحظات الصغيرة، الضحكات، الدموع، والأحلام التي شكلت وجودي.

في هذا العالم الآخر، بين الغيوم والزمن، أدركت أن حياتي ليست إلا خيطاً رفيعاً في نسيج واسع من القصص البشرية. كل لحظة عشتها، وكل شخص أحببته، يساهم في هذا النسيج، يترك أثراً صغيراً لكنه مهم. رغم أنني لم أعد جزءاً من العالم الذي تركته، إلا أن تأثيري يبقى، حتى ولو كان خافتاً.

ذكريات أمي الباكية، وزوجتي القوية، وابني الذي يكبر، كلها أجزاء من إرثي. ربما لن تُذكر قصتي في كتب التاريخ، وربما لن تكون لها أهمية بالنسبة للأجيال القادمة، لكن بالنسبة لأولئك الذين أحبوني، ستبقى جزءاً من ذاكرتهم، جزءاً من حكايتهم.

ومع مرور الزمن، ومع اندماجي التام في دفتر النسيان، أجد الراحة في معرفة أن الحب الذي تركته ورائي يستمر. أن حياتي، بكل ما حملته من فرح وحزن، كانت جزءاً من تجربة إنسانية أعمق. وفي النهاية، هذا كل ما يهم.

أضف تعليق


كود امني
تحديث

X

تحذير

لا يمكن النسخ!