بقلم: د. عدنان بوزان
في زمنٍ يفترض أن يكون فيه الإنسان ابنَ الحرية والمعرفة، ما زال هناك من يصرّ على أن يحشرك في قفص القبيلة، ويختزل كرامتك كلّها في اسم الجدّ الأعلى، أو في رايةٍ باليةٍ رفعت قبل مئات السنين. ما زالوا يسألونك: من أي قبيلة أنت؟ وكأنّ الإنسان يقاس بكمية الدم الموروث في عروقه، لا بما يزرعه من عدلٍ في الأرض، ولا بما يبنيه من فكرٍ في العقول.
إنهم يسألونك هذا السؤال لأنهم يخافون وعيك؛ يخشون أن تنهض من بين ركامهم وتعلن أنّك لست عبداً للتاريخ الميت، بل مواطنٌ حيّ في حاضرٍ يكتب الآن. القبيلة بالنسبة لهم ليست انتماءً، بل سجنٌ مغلق، وأداة قمعٍ متجددة، ومبررٌ دائم للهيمنة والإقصاء. يرفعون أسماء القبائل كأنها أعلام أوطان، ثم يدفنون الأوطان نفسها تحت أقدام المصالح الضيقة.
الغباء السياسي ليس في أن يسأل أحدهم عن جذورك، بل في أن يجعل من تلك الجذور قيداً على حاضرك ومستقبلك. حين يختزل الإنسان إلى قبيلته، يتحول العقل إلى أداة طاعة، والقلب إلى خزان كراهية، والولاء إلى صك عبودية. وهكذا تصير الأمة ممزقة بين طوائف وعشائر، كل واحدةٍ منها تتوهم أنها الأصل وما سواها فروع.
ومن هنا تُبنى أنظمة الاستبداد؛ فالحاكم المستبد لا يجد أداة أفضل من القبيلة لتثبيت سلطانه. يوزع الامتيازات على الشيوخ، ويغذي العصبيات، ويجعل الولاء للعرق بديلاً عن الولاء للوطن. وحين تشتعل الثورات، يكون السؤال الأول: من أي قبيلة أنت؟ لا: من أي فكرة جئت، ولا: أي عدالة تحمل، ولا: أي مستقبل تريد.
أيها السائل الأحمق، لو قرأت كتاب التاريخ جيداً لعرفت أنّ القبائل نفسها قد تكسرت تحت ضغط الدول الكبرى، وأنّ الأمم العظيمة لم تنهض إلا حين تجاوزت العصبيات إلى مفهوم المواطنة الجامعة. لكنك ما زلت تصرّ على أن تسأل: من أي قبيلة أنت؟ كأنك تعيد عجلة التاريخ إلى الوراء، لتجعلنا نتقاتل على مياه بئرٍ جافة، بينما العالم يفتح أنهار التكنولوجيا والمعرفة.
إنّ الانتماء الحقيقي ليس لاسمٍ مكتوبٍ على رايةٍ قديمة، بل للقيم التي تبني مجتمعاً عادلاً. الانتماء الحقيقي هو أن تقول: أنا إنسان حرّ، أرفض أن أُختزل إلى دمٍ أو نسبٍ أو طائفة. الانتماء هو أن ترفع شعار الحرية فوق كل راية، وأن ترى في الإنسان أخاك مهما اختلف اسمه أو جذره.
ما زال الأغبياء يسألونك: من أي قبيلة أنت؟ لأنهم لم يفهموا بعد أنّ القبيلة لا تحمي من الفقر، ولا تشفي جراح الوطن، ولا تمنع استبداد الطغاة. القبيلة في زمن السياسة المريضة ليست إلا ذريعةً لسرقة الحاضر وتسميم المستقبل.
وأقولها بوضوح: من يسألك عن قبيلتك يريد أن يلغي عقلك، ومن يفتش في نسبك يريد أن يسرق حقك، ومن يرفع القبيلة فوق الوطن يريد أن يبيع الوطن في سوق القبائل.
أيتها القبائل، لقد آن أوان أن تتحولوا إلى جزءٍ من نسيج إنساني أكبر، أن تنصهروا في وطنٍ واحد، لا أن تبقوا جزراً متناحرة في بحر الدم. وأيها الأغبياء الذين يسألون: من أي قبيلة أنت؟ الجواب بسيط وصاعق:
أنا من قبيلة الحرية، من عشيرة العدالة، من نسب الإنسانية.