نداء الروح: رحلة إلى الأبدية عبر ألم الوجود ونور الحرية
بقلم: د. عدنان بوزان
على شاهدة قبري، لا تنقشوا اسمي، بل خطوا بدلاً من ذلك عنوان حياتي، تلك الحياة التي كانت مسرحاً لصرخاتي عبر الزمن، صرخات تتردد في أعماق الألم الذي غلف وجودي. حروفي التي حاولوا مراراً قتلها، تلك الحروف التي اختنقت في حنجرتي وكافحت لتجد طريقها إلى النور، سطروها على قبري كشهادة على نضالي.
اكتبوا عن فلسفتي في الحياة، عن النصوص التي أفرغت فيها روحي متأملاً في الآلهة ومعاني الوجود. تلك الكلمات التي كتبتها لم تكن مجرد ترتيب حروف، بل كانت تنبض بالحياة، تحدٍ للزمن والموت، تأكيد على أن الكتابة هي جسر نعبر عليه إلى الخلود.
فوق جسدي الذي رحل منه كل شيء جميل وترك المادة وحيدة أمام عيونكم، لا تقدموا الرحمة في كلمات مبتورة. بل اقرأوا حروفي التي اخترقت القرون، تلك الحروف التي ستبقى حية، فمن يقرأ يعيش ألف عام، ومن يكتب لا يعرف الموت.
لا تدفنوني في التراب محاطاً بالشعائر والطقوس، بل اتركوا جسدي لعناصر الطبيعة، إما في أحضان البحر كي أكون شهيداً على سطوته، أو لتلتهمني النار كما يفعل الهندوس، مؤمناً بأن النار والماء هما العنصران المقدسان في الحياة. دعوني أكون سراجاً يضيء دروب الوجود، إرثاً ينير الطريق للأجيال القادمة.
بعد اليوم، لست في حاجة إلى شهادة تعريف أو إلى اسم يميزني. من يتحدث عني بعد الآن، يتاجر بذكرياتي وأدبي وفلسفتي، لكنه لا يعرف جوهري. الحمد لله الذي يعرفني بحق، فهو وحده من سيستقبلني في مملكته، بلا حاجة إلى وثائق أو شهادات، في عناق أبدي حيث لا ألم ولا دموع، فقط سلام.
في رحلة العبور إلى ما وراء الأفق، حيث تتلاشى كل الحدود وتبهت الأسماء، أترك خلفي بصمات روحي محفورة في قلوب الذين عرفوني وفي العالم الذي حاولت، بكل جوارحي، أن أمنحه جزءاً من روحي. لا تذكروني بمرثيات الحزن والأسى، بل احتفلوا بالحرية التي ناضلت من أجلها روحي، حرية تجاوزت قيود الجسد، تلك الحرية التي لم تعد تقيدها المادة ولا الألم.
سجلوا على لوحة ذكرياتي كيف أنني رقصت مع الريح، كيف غنيت مع الأمواج، وكيف تحديت العتمة بنور الكلمة والمعنى. اجعلوا من حروفي شموعاً تُضاء في ليالي البشر الظلماء، لترشدهم نحو معاني الحب والأمل والتحرر، تلك القيم التي كانت مصباحي في أحلك الأوقات.
أما عن سرّ الوجود الذي بحثت عنه في صفحات الكتب وفي صمت الليالي الطويلة، فلم أجده إلا في العطاء بلا حدود، في حب الآخر بلا شروط، في التعاطف مع آلام العالم. فإذا ما ذكرتموني يوماً، اذكروني كمن سعى لأن يكون قطرة ماء في صحراء اليأس، ضوءاً يبدد ظلمات الروح.
وفي النهاية، عندما تلفظ الحياة أنفاسها الأخيرة في صدري، لا تنظروا إليّ بعيون الشفقة أو الرثاء، بل انظروا إليّ كمن خاض معركة الحياة بكل ما أُعطي من قوة وشجاعة، وفي نهاية المطاف، انتصر بترك إرث من الحب والأمل والنور خلفه. الجسد يذوي، لكن الروح تبقى خالدة، متألقة في سماء الوجود كنجم لا يخبو بريقه.
وهكذا، بدون شهادة تعريف أو جواز سفر، أعبر إلى عالم النور، حيث لا حاجة للأسماء أو العناوين. في هذا العالم، يكفي أن تكون قد عشت بحق، أن تكون قد أحببت بصدق، وأن تكون قد تركت بصمتك النورانية على الطريق. هذا هو جواز سفري إلى الأبدية، وهذا هو الإرث الذي أتركه لكم: إرث النور والحب والحرية.