بقلم: د. عدنان بوزان
وحده الألم، حين يشتعل في الأعماق، لا يشبه شيئاً مما يقال، فهو لا يحتاج إلى صوتٍ ليفصحَ عن نفسه، يكفيه أن يسكنَ النظرةَ، أن يتسللَ إلى أنفاسِنا كظل لا يغادر، وأن يعيدَ ترتيبَ أرواحِنا على مقياسِ الوجع.
إنه اللغة التي تتكون من رمادِ الصبر، وتترجم بصمتٍ أعمقَ من الكلام، وحين نكتبُ عنه، لا نعبر، بل نحاول أن ننجو من الاحتراقِ دون أن نطفئَ النار.
وحده الحنين، ذلك الزائرُ العنيدُ الذي لا يطرق الأبواب، يدخل كما يدخل النسيم إلى شقوقِ القلب، فيبعثر ما استقرَ من نسيانٍ، ويعيد إلينا وجوهاً غابت، وأصواتاً اختبأت في تجاويفِ الذاكرة.
لا يأتي ليواسي، بل ليذكرَ بأن فينا شيئاً لم يمت بعد، وأنّ القلبَ، رغم كل الغياب، ما زالَ يعرف الطريقَ إلى ماضيه.
في المنافي البعيدة، حين ضاقتْ المدنُ بوجعي، وجدتُ في الورقِ وطناً لا يخذلُ أحداً.
صرتُ أكتبُ كما يتنفسُ الغريق، أُسطّرُ الرمادَ على شكلِ حياةٍ جديدة، وأبني من الحروفِ جسراً أعبر بهِ من فوضى العدمِ إلى شواطئ النجاة.
الكتابةُ ليست ترفاً لمن احترقَ بالنار، بل هي طقس خلاصٍ، نجاةٌ من الغرقِ في الفراغ، وانتصارٌ صغيرٌ على الموتِ المؤجَّل.
فكل حرفٍ يولد من رحمِ الجرح، يحمل رائحةَ الفقد، لكنه يضيء الطريقَ مثلَ جمرةٍ لا تنطفئ.
أكتبُ عن بيوتٍ كانت تضحكُ ثم صمتت، عن نوافذَ ما زالتْ تطل على الغياب، عن أمهاتٍ غابَ صوتهُنّ في الريح، وما زلنَ ينتظرنَ على عتباتٍ يكسوها الغبار والنسيان.
أكتبُ عن الطفولةِ التي سرقتْ من بين أضلاعِ الأيام، عن الضحكاتِ التي ذبحتْ تحتَ ظلالِ المدافع، عن وطنٍ نهبتْ ألوانه وبقيت رائحته في القلبِ كزهرةٍ منسيةٍ في كتابٍ قديم.
ليس عندي سوى الحرفِ سلاحاً، ولا أرضَ لي سوى الذاكرة.
أكتبُ كي لا يمحى الأثر، كي تبقى الحكايةُ حيّةً في وجهِ العدم، وكي أقولَ لمن سيأتي بعدي إنّ الألمَ يمكن أن يثمرَ ورداً إذا صيغَ بالحبر.
كل نص أكتبه هو خطوةٌ نحو ذاتي التي أضاعتْ طريقَها، وكل كلمةٍ محاولةٌ للعثورِ على بيتٍ لم يَعد في الخرائطِ، بل في الوجدان.
لعل الحبرَ هو آخر ما تبقى من جذوري، ولعل الكلماتِ هي السماء التي ما زلت أرفعُ رأسي إليها حين يثقلني المنفى.
فالألمُ يُربّينا على الصبر، والحنينُ يُربّينا على الذاكرة، وبينهما تتشكل إنسانيتنا؛ مزيجاً من البكاءِ والجَمال، من الرمادِ والضياءِ معاً.
أكتبُ لأنّ الكتابةَ هي طريقتي في البقاء، وصوتي في وجهِ الفناء، ولأن النسيانَ ليس شفاءً… بل موتٌ مؤجَّل، بلا نعشٍ ولا وداع.