 بقلم: د. عدنان بوزان
بقلم: د. عدنان بوزان 
كان المساء يهبط على المدينة كظل ثقيلٍ من الغياب، تتدلى أنفاس الناس من النوافذ كأحلامٍ متعبة، وتتعثر الخطى في الشوارع التي فقدت أسماءها من فرط الخوف. كانت رائحة الوطن تشبه رائحة الحديد، وكان الهواء محملاً بأنينٍ خافتٍ لا يسمعه إلا من عاش طويلاً في صمتِ الجدران. هناك، حيث تتشابك السياسة بالقدر، ويصبح الإنسان رقماً في سجل مفقود، بدأت حكايتي.
لم أكن بطلاً ولا متمرداً كما ظنوا، كنت فقط أؤمن أن للحرية معنى يتجاوز الشعارات، وأن الكلمة قد تكون وطناً حين يضيق الوطن. وحين ضاقوا بصوتي، فتحوا لي باباً ضيقاً يقود إلى عتمةٍ لا نهائية اسمها السجن. لم يكن السجن جدراناً وسلاسل فحسب، بل كان نسخةً مصغرةً عن الوطن الكبير، حيث من يرفع رأسه يكسر، ومن يتنفس بكرامةٍ يعاقب. هناك، في ذلك المكان الذي لا تدخله الشمس إلا عرضاً، عرفت كيف تصنع الأنظمة خوفها، وكيف تزرع الرعب في لحم الإنسان ليظل عبداً وهو يظن أنه حر.
كانوا يريدون منا أن نصمت، أن نسلم عقولنا كما يسلم المرء سلاحه عند بوابة الذل، لكن بعض الأصوات لا تكسر، وإن انحنت، فإنها تنحني كي تسمع الأرض وهي تئن. كنتُ أراقب وجوه المعتقلين من حولي، وجوهاً بلا ملامح أنهكها الانتظار الطويل، ومع ذلك كانت في عيونهم شرارةٌ لا تنطفئ، كأنهم يقولون دون كلام: إننا وإن حبسنا هنا، فلن تحبس الفكرة التي خرجنا من أجلها.
في السجن، اكتشفت أن السياسة ليست خطباً ولا مؤتمرات، بل صراعاً يومياً بين من يملك السلطة ومن يملك الوعي، بين من يملك السلاح ومن يملك الكلمة. وحين تسقط الأقنعة، لا يبقى في الميدان إلا الإنسان العاري من كل شيءٍ إلا إيمانه بالحق. كنت أرى الحارس يحمل بندقيته بثقة، لكني كنت أرى في عينيه خوفاً أعمق من خوفنا، فهو أيضاً سجينٌ في نظامٍ يخاف من ظله، يخاف من الفكرة أكثر من الرصاصة، لأن الرصاصة تقتل جسداً، أما الفكرة فتحيي أمة.
مرت الأيام بطيئةً كقطراتٍ تتساقط من جدارٍ مبللٍ بالرطوبة، وكنت أتعلم كل يومٍ درساً جديداً في معنى الصبر والسياسة والكرامة. تعلمت أن الطغيان لا يعيش إلا بقدر ما نصمت عنه، وأن الحرية لا تمنح بل تنتزع، وأن الخوف حين يسكن الشعوب يصبح ديانةً جديدةً تعبد من دون وعي. أما في الزنازين، فكنت أرى ميلاد الإنسان من رماد الانكسار، كنت أرى كيف يعيد المعتقل صياغة ذاته، وكيف يتحول الصمت إلى فكر، والعزلة إلى وعي، والظلمة إلى بصيرة.
وحين خرجت، لم أخرج كما دخلت. خرجتُ من رحم السجن كمن يولد من جديدٍ إلى وطنٍ لا يعرفه، وطنٍ تغير وجهه وصار أكثر قسوة. الناس تمشي بأرواحٍ منكسرةٍ كأنهم يعتذرون للحياة عن بقائهم فيها، والسياسة صارت مسرحاً للعبث، يصفق فيه الجياع للطغاة لأنهم لم يجدوا خبزاً سوى التصفيق. لم أعد أميز بين من يظلم ومن يبرر، الكل يتحدث باسم الوطن، والكل يطعن الوطن على طريقته. وأدركت أن الحرية التي حلمت بها في السجن ليست أن أخرج من القضبان، بل أن أستطيع قول الحقيقة دون أن أُتهم بالخيانة.
حين أسير في الشوارع الآن، أرى وجوه الناس كما كنت أراها من ثقب الزنزانة، وجوهاً متعبةً من انتظارٍ طويل، وأفكر أن السجن الحقيقي لم يكن هناك خلف الحديد، بل هنا، في هذا الصمت الجمعي الذي يغلف المدن. لم أعد أكره سجاني، فقد أدركت أنه كان أداةً في يد نظامٍ يخاف من ضوء الفجر، نظامٍ يربي الخوف كما يربى الولاء، ويقتل الحقيقة باسم الأمن، والوطن باسم الوحدة، والإنسان باسم القانون.
نعم، خرجت من السجن، لكن شيئاً من السجن بقي فيّ؛ بقيت تلك الذاكرة التي لا تنام، وتلك الوجوه التي لم تعد، وتلك الفكرة التي كبرت رغم القيود: أن الحرية ليست قراراً سياسياً، بل إيمان إنساني لا يموت، وأن الوطن الذي يعتقل أبناءه حين يتكلمون، هو وطن يحتاج إلى من يحرره من نفسه، لا من أعدائه.
إنني اليوم، حين أكتب، لا أكتب عن نفسي فحسب، بل عن وطنٍ كلما حاول أن ينهض، أعادوه إلى قفصٍ جديدٍ باسم القانون، عن شعوبٍ اعتادت القيود حتى صارت تخاف من مفاتيحها، وعن جيلٍ يؤمن أن الثورة ليست ناراً تحرق، بل نوراً يكشف العتمة. كنت هناك، بين الحديد والرطوبة، أتعلم أن السجون تبنى لإخفاء الأحرار لا المجرمين، وأن التاريخ لا يخلد من حكموا، بل من حلموا.
وهكذا، صرتُ بعد كل ما مرّ أؤمن أن السياسة ليست لعبة السلطة، بل اختبار الأخلاق، وأن السجن الذي أرادوه لعقابي كان ولادتي الحقيقية. هناك، تعلمت أن الكلمة الحرة أقوى من كل السلاسل، وأن الإنسان الذي خرج من الزنزانة ولم ينكسر، هو أخطر على الطغاة من ألف جيشٍ مدججٍ بالسلاح، لأن فكرته صارت حريةً تمشي على الأرض، لا تسجن، ولا تشترى، ولا تموت.

 
  
 