بقلم: د. عدنان بوزان
حين يغدو العالم ساحةً صاخبةً بالصور المتكرّرة، والحقائق المستهلَكة، والحلول المعلّبة، تصبح الفلسفة الفعل الأكثر جرأةً في وجه الابتذال. الفلسفة ليست ترفاً ذهنيّاً، ولا تمريناً نخبويّاً كما يتوهّم البعض، بل هي إعادة اكتشاف مستمرة للذات والعالم، ومواجهةٌ عنيدة مع أوهام المعرفة السطحية. أن تقرأ الفلسفة لا يعني أن تحفظ أقوال أفلاطون أو تقتفي خطوات نيتشه، بل أن تُشعل شعلةً في دهاليز عقلك، وتشرع في رحلةٍ لا نهائية صوب الحقيقة، مهما بدت مربكةً، مؤلمةً، أو عصيّة على الامتلاك.
الفلسفة، بهذا المعنى، ليست مجرد مبحثٍ أكاديمي، بل هي فنّ العيش بعمق. أن تسأل: "من أنا؟" لا يعني أن تتبنى مدرسةً بعينها، بل أن تبدأ حواراً داخلياً لا ينتهي، بينك وبين وجودك، بينك وبين حدودك، بينك وبين ما لم تُفكّر فيه بعد. وحده الإنسان الذي يجرؤ على السؤال هو من يلامس جوهر حريته. ولهذا، فإن قراءة الفلسفة هي في جوهرها فعل تمرّد ضد الانقياد، وضد التلقين، وضد الحياة الجاهزة التي تُمنَح دون تفكير. إنها نوعٌ من التحرر العقلي لا يمنحك أجوبةً جاهزة، بل يدربك على أن تبحث عنها بنفسك، مهما كان الطريق طويلاً ووعراً.
في زمنٍ تُقاس فيه قيمة الإنسان بعدد "الإعجابات" التي يحصدها، أو بعدد الكلمات المفتاحية التي يتصدّر بها نتائج البحث، تقف الفلسفة بوصفها مقاومةً هادئة لهذا الانحدار نحو الاستهلاك الرمزي والتفاهة الفكرية. الفلسفة ليست "مفيدة" بالمعنى النَّفعي المباشر، لكنها ضرورية كالأوكسجين لمن أراد أن يكون لا أن يُستهلك. إنها تدريبٌ على النظر إلى ما وراء القشرة، إلى ما لا يُقال، إلى المسكوت عنه في اليومي والعابر. ففي مجتمعٍ تهيمن فيه "الإجابات السريعة"، تصبح "الأسئلة الجيدة" فعلاً ثورياً بامتياز.
وقد يُقال إن النصوص الفلسفية عسيرةُ الفهم، وإنها لا تناسب عصر السرعة والتبسيط، لكن الحقيقة أن هذا العُسر هو ما يمنحها قيمتها. إنها تشبه صعود جبل: مرهقٌ في البداية، لكنه يمنحك منظوراً لا تراه من السهول. النصّ الفلسفي لا يُقدّم متعةً آنية، بل يبني فيك صلابةً داخلية، ويصقل ذهنك كما تُصقل المعادن بالنار. وحين تعتاد هذا التمرين، تكتشف أن الصعوبة لم تكن في النص، بل في مقاومة الذات للعمق.
لسنا في حاجةٍ إلى فلسفةٍ جديدة فحسب، بل إلى ذهنياتٍ جديدةٍ تقرأ الفلسفة. ليس المطلوب أن نحفظ أسماء المدارس والتيارات، بل أن نجعل الفلسفة نمطاً للحياة: في الحب، في العمل، في السياسة، في الوجود ذاته. سقراط لم يكتب، لكنه علّم الناس كيف يسألون. وهذا هو جوهر الفلسفة: أن تُعيد للإنسان ملكيّة عقله.
الفلسفة كذلك ليست انعزالاً عن الواقع كما يُروَّج لها، بل هي أكثر الأدوات التصاقاً به. الفيلسوف لا يعيش في برجٍ عاجي، بل يخوض معركة المفاهيم وسط صخب الحياة. ماركس تأمل في البنى الاقتصادية للظلم، سارتر واجه عبثية الوجود، فوكو كشف آليات السلطة، وحنّة آرنت أعادت التفكير في طبيعة الشر. الفلسفة هنا ليست تأمّلاً في الماورائيات، بل سلاحٌ لمقاربة اللامرئي في الواقع، وللبحث عن إمكانيات التغيير حيث يهيمن الجمود.
الفلسفة تُعلّمنا ألّا نخضع. أن نسأل حين يُطلب منا أن نصمت. أن نشكّ حين يُفترض بنا أن نُسلّم. أن نحفر في المعنى عوض الاكتفاء بالعبارة. في عالمٍ يتسارع بلا هوادة، تطلب الفلسفة التروّي. في زمنٍ يزدهر فيه الزيف، تبحث الفلسفة عن الحقيقة، لا بوصفها "نتيجة"، بل كمسارٍ مفتوحٍ على المجهول.
وهكذا، حين نقرأ الفلسفة، فإننا لا نقرأ كتباً فحسب، بل نُعيد كتابة علاقتنا بالعالم، بأنفسنا، وبالوجود كلّه. الفلسفة ليست حكراً على النخب، بل ضرورة لكل من يرفض أن يعيش بنصف وعي. ليست ترفاً ثقافياً، بل حاجة وجودية في وجه العمى الجماعي. لأن الإنسان الذي لا يُفكّر لا يملك ذاته، والإنسان الذي لا يسأل، لن يعرف أبداً إن كانت الحياة التي يعيشها تخصه، أم أنها مجرد نسخةٍ مُعلّبة وُزعت عليه.
لهذا، فإن قراءة الفلسفة ليست هواية، بل مقاومة. ليست درساً، بل يقظة. ليست ترفاً، بل ولادة ثانية. الفلسفة ليست ما يُقال في المحاضرات، بل ما يُشعل فيك الوعي. هي أن ترفض أن تُقاد، وأن تُقرر أن تكون حرّاً، لا بحرية الشعارات، بل بحرية الفكر العميق.
وحين تستفيق هذه الشعلة في عقلك، ستدرك أن أعظم سؤال فلسفي لم يُطرح بعد... وأنه عليك أن تطرحه.