بقلم: د. عدنان بوزان
حين تحتكر السلطة حقَّ النطق، لا تبقى الحقيقة مرآةً للواقع، بل تتحول إلى مرآةٍ لصورة الحاكم عن نفسه. في هذا التصور الفلسفي، تختلط حدود الواقع بما يُفرض علينا من روايات رسمية، وتتلاشى الفروق بين ما هو حقيقي وما هو مجرد تمثيل تقرره السلطة الحاكمة. العلاقة بين السلطة واللغة تتجاوز مجرد التحكم في المفردات، إذ تتعداها إلى إعادة تشكيل الواقع ذاته. في عالم تُحركه السلطة، حيث تفرض القوة هيمنتها على القول والفعل، تصبح الحقيقة مفهوماً سائلاً، قابلاً للتشكيل وفقاً للمصلحة السياسية، لا كشيء ثابت مرتبط بالواقع كما هو، بل كإسقاطات لرؤية القوة المسيطرة.
في الفلسفات الكلاسيكية، كانت الحقيقة تُعرف على أنها "تطابق الفكر مع الواقع"، واعتُبرت مرآة صادقة تعكس العالم المادي كما هو، أو على الأقل كما يستطيع العقل البشري إدراكه. لكن مع صعود الأنظمة التي تحتكر حقَّ النطق، لم تعد الحقيقة تلك المرآة المستقيمة التي تعكس الواقع، بل أصبحت أداة لفرض الانطباعات التي تبنيها السلطة. في هذه الأنظمة، تُقدَّم "الحقيقة" وفقاً لمصالحها الخاصة وتصوراتها المحدودة. في هذا السياق، تتجاوز الحقيقة كونها انعكاساً للأشياء كما هي لتصبح أداة قوية تُعيد بناء "الواقع" بما يتماشى مع صورة السلطة، وتُصاغ لغوياً لتخدم أجندتها السياسية والاجتماعية.
هذا التحول في معنى الحقيقة يتجاوز التزوير السطحي إلى إعادة تشكيل منهجية للواقع ذاته. في الأنظمة السلطوية، تصبح اللغة وسيلة لصناعة "الواقع المعلن"، الذي يُفرض على الأفراد ويُكرر حتى يصبح جزءاً لا يتجزأ من تجربتهم اليومية. وتختفي الفوارق بين ما هو حقيقي وما هو مُعلن، بين الواقع الحي وما يُفرض من "رواية رسمية" تقف السلطة وراءها. هذه الرواية ليست مجرد تفسير للحقائق، بل هي إعادة اختراع للواقع ذاته، تُغلفه في قالب مناسب يُحشى في الوعي الجمعي للشعب حتى تصبح الحقيقة الوحيدة التي يمكن الإيمان بها.
ما نشهده هنا ليس مجرد "كذبة" عابرة، بل هو تحول عميق في طبيعة الحقيقة نفسها. تصبح الحقيقة مزيجاً من الأداء الإعلامي واللغوي الذي تصيغ به السلطة واقعاً مزعوماً، تصوّر فيه الحقائق بطريقة لا تعكس الواقع بشكل كامل، بل تُعزز ما تريده السلطة أن يُرى ويُفهم. وهكذا، تتحول الحقيقة من كونها مرآة للعالم المادي إلى صورة مشوهة لا تعكس سوى ما ترغب السلطة في أن يراه الناس. في هذا السياق، تصبح السلطة ليست فقط صاحبة الحق في تقرير الحقائق، بل في إعادة تشكيل الواقع ذاته لتصبح حقيقة السلطة هي الحقيقة الوحيدة المتاحة.
من خلال هذا التلاعب الممنهج بالحقائق، تبرز قضية أعمق تتعلق بوجود الإنسان ذاته في عالم مُعاد تشكيله لغوياً وفكرياً. في ظل هذه الحقيقة المزيفة، يصبح الفرد محاصراً في شبكة من الروايات الموازية، محاطاً بعالم لا يستطيع أن يثق في أدوات إدراكه. هذا التغييب المستمر للحقيقة الأصيلة يُفضي إلى "الاغتراب المعرفي"، حيث يصبح الفرد في صراع داخلي مع ذاته ومع واقعه، عاجزاً عن التمييز بين ما هو حقيقي وما هو مُصطنع. بهذه الطريقة، يخلق هذا التلاعب الواقعين: أحدهما حقيقي، والآخر مُعلن، ولكن في النهاية يبقى الإنسان ضائعاً بين هذين الواقعين، فاقداً القدرة على التمييز بين الحقيقة والحيلة.
تؤدي هذه الحالة إلى تشكيل وعي مَشوه، وواقع موازٍ يدور في فلك السلطة، بحيث لا يُنظر إلى الحقيقة إلا من خلال فلاتر القوة، مما يعمق الفجوة بين الفرد وواقعه الحقيقي، ويجعله يواجه عالماً لا يستطيع أن يصدق فيه ما يراه، بل ما يُقال له أنه يجب أن يراه. هذه المعضلة الفلسفية تكشف عن بُعد جديد في فهم العلاقة بين اللغة، السلطة، والحقيقة، وتؤكد أن الحقيقة ليست مجرد ما يُرى، بل ما يُفرض علينا رؤيته.