بقلم: د. عدنان بوزان
أيها الإنسان ...
يا صاحبَ الوجوهِ المتعدّدة، والحكاياتِ المستترةِ خلفَ عينيك.
أكتبُ إليك رسالةً لا تبحث عن إجاباتٍ جاهزة، بل عن مساحاتٍ صغيرةٍ من رحمةٍ قد تضاء فيك، فتصير مصباحاً لطريقٍ ما زال يحبو في هذا العالم.
أراك—لا بعينٍ تحمل حكماً، بل بقلبٍ يصغي إلى صدى أنفاسك. أراك حين تنهض من فراش الليل مثقلاً بذكرياتٍ لا تهدأ، وحين تسير في شوارع المدينة كما يسير ظلك: مترقباً، متردّداً، متشبثاً بآخر خيطٍ من أملٍ لم يعرف اسمه بعد. أراك في لحظات الصمت حين تطاردك أسئلة لم تجب عنها: لماذا نحب؟ ولماذا نؤذي؟ ولماذا نبني جدراناً بينما الخلود الحقيقي يولد من أبوابٍ تفتح؟
لا أطالبك بأن تكون ملاكاً أو بطلاً خارقاً، ولا أطلب منك أن تكتم ضعفك إلى الأبد. أطلب منك فقط أن تستمع إلى ضعفك كما ينصت المرء إلى موسيقى غريبة قد تكشف له لحن ذاته. فالضعف ليس خيانة، بل خاتمٌ يعلمك كيف تمسك بيدك حين يهتز العالم. والخطيئة ليست ختماً أبدياً، بل درسٌ لا بد أن يقرأ بوعيٍ أرحب ونَفسٍ أقل تعجراً.
في داخلك بحرٌ يعجّ بالأمواج: هناك صخور الغضب، ورمال التسامح، وجزر الذكريات الصغيرة حيث ما زالت طفولتك تقيم. أطفئ نار الانتقام برفق، كما يطفئ البحر لهبَ السفينة الغارقة، لا لتنسى فحسب، بل لتفهم. فالفهم لا يلغي الألم، لكنه يصنعه أكثر إنسانية، ويحوله إلى درس يعلم الغد كيف لا يعاد الخطأ.
تأمل وجهك في عيون الآخرين، ستجد خيوط الحكاية متشابكة مع خيوطهم. لسنا جزراً معزولة، بل أرخبيل من قصصٍ صغيرة تتقاطع أحياناً فتتحول إلى بحر هادر، وتتماس أحياناً فتزهر حدائق. فلا تظن أن عظمة شأنك تقاس بالألقاب أو بالأموال؛ إنما تقاس بمدى قدرتك على أن تبقي قلبك مكاناً آمناً لغيرك حين يضيق بهم العالم.
اغفر… لأن الغفران طقس داخلي لا يحتاج أن يشهده أحد. اغفر لأن القلب الذي يحمل غصة لا يرتوي ولا يزهر. اغفر لأن الغفران حرية تمنحك ذاكرة منقاة لا تثقلك بالأوزار. لا تغفر من أجلهم فقط، بل اغفر من أجل نفسك: لتعود إلى ذاتك أخف، وتستطيع أن تحب بوضوح دون أن تسأم.
أحب… حتى وإن لم تحبك المدينة. أحب كما يحب الربيع دون أن ينتظر من العالم اعترافاً. فالحب فعل صغير ويومي: فنجان قهوة تتقاسمه مع عابرٍ وحيد، أو كلمة طيبة تهبها لطفلٍ يخشى الظلال. الحب لا يغيّر العالم دفعةً واحدة، لكنه يتسرب ببطء، كالنور الذي يتسلل عبر شقوق الجدار حتى يهزم الظلام.
ولا تهرب من ألمك كما لو أنه ضيف مزعج؛ بل استقبله، اسأله عن اسمه، فقد يحمل تفسيراً لماضٍ لم تفهمه بعد. ففي عمق الألم تولد بذور التحول، وكل ندبةٍ خريطة صغيرة تعلمك أين لا تعود، وأين تبدأ من جديد. تذكر: أنت أكبر من كل فصلٍ انتهى في كتابك.
قل لنفسك الحقيقة. في زمنٍ يعلو فيه صوت الزيف وتتكاثر فيه الأقنعة، الصدق مع النفس ثورة. اعترف بخطئك قبل أن يتقاضى منك الزمان فاتورة أغلى. صافح خوفك كإنسانٍ يحتاج عناقاً، وعرف طموحك بأنه رفيق لا ينبغي أن يطغى على ضميرك.
وقفة أخيرة: لا تنتظر أن يهيئ لك العالم الظروف المثالية لتكون إنساناً صالحاً. العالم لن يتوقف ليرتب أوراقك. افعل الخير اليوم، لأن الخير نفسه غذاء للروح. ساعد دون أن تنتظر شكراً، تكلم دون أن تطلب تصفيقاً، وامنح حضنك دون أن تشترط. فهذه اللمسات الصغيرة هي التي تجعلنا أقرب إلى بعضنا: نحن الذين نحمل الألم والحلم معاً.
ولو خانك الجميع، فلا تخن نفسك. فخيانة الذات أقسى من كل خيانة؛ بها تفقد البوصلة وتغدو مسافراً بلا وجهة. وبعد كل ذلك، استمر—ليس لأن الطريق سهل، بل لأن الاستمرار شهادة على أنك لم تستسلم لروحٍ تريد أن تطفئ فيك نورك.
أنا لا أكتب لك وصية، بل أقدم مرآةً. فلا تحدق فيها لتعيب نفسك، بل لترى ما في قلبك من جمالٍ يستحق أن يبقى حياً.
كن إنساناً—ذلك كل ما أطلبه، وهو أعظم ما يحتاجه العالم.