بقلم: د. عدنان بوزان
إلى أبناءِ شعبِنا الكوردي العظيم، وإلى شعوبِ المنطقةِ التّائقةِ إلى السّلامِ والعَدالة، وإلى كلِّ من آمَنَ بأنَّ الحريةَ ليست امتيازاً، بل حقٌّ أصيلٌ يولدُ مع الإنسان، ولا يُسلبُ إلا بالقهر، لكنَّ القهرَ لا يدوم، لأنَّ الشُّعلةَ الّتي تشتعلُ في القلوبِ أقوى من سلاسِلِ الظّلم...
يطلُّ علينا نوروز مجدَّداً، ذلك العيدُ الذي لا يُشبهُ الأعيادَ التّقليدية؛ فلا هو احتفالٌ موسميٌّ عابر، ولا طقسٌ فولكلوريٌّ جامد، بل هو إعلانٌ متجدِّدٌ للثورة، وإرثٌ خالدٌ من النضال، وميلادٌ مستمرٌّ للحرية. نوروزُ ليسَ مجرَّدَ احتفاءٍ بانبعاثِ الطَّبيعة، بل هو تأريخٌ للحظةٍ قالَ فيها المظلومونَ كلمتَهم، وأشعلوا ناراً لا تنطفئ، ناراً أحرقتِ الظّلمَ وأنارت دربَ الحرية.
حين يتجددُ نوروز، لا يكونُ مجردَ احتفاءٍ بانبعاثِ الطبيعةِ، بل هو إعلانٌ أبديٌّ لانتصارِ الإرادةِ على القهر، واشتعالُ النورِ في ألسنةِ النارِ المتقدةِ منذ الأزل. ليس نوروز يوماً يمرُّ في التقويمِ، بل هو فصلٌ متجددٌ من فصولِ الصراعِ بين من يسعونَ إلى دفنِ الحُرّيةِ، ومن يُشعلونَها مجدداً، مهما تكاثفت الظُلمةُ في الأفق.
في عالمٍ تحكمهُ المصالحُ وتُرسمُ خرائطهُ بالدمِ، يظلُّ نوروزُ موقفاً سياسياً بامتياز، صرخةً في وجهِ من أرادوا طمسَ هويةِ الشعوبِ، ومقاومةً ضدَّ أولئكَ الذين يظنونَ أنَّ التاريخَ يُعادُ تشكيلُهُ بحدِّ السيفِ أو بسطوةِ الطغيان. ليس نوروزُ احتفالاً محايداً، بل ذكرى ثورةٍ لم تُطفئها عقودُ القمعِ، بل زادتها جذوةً وتأججاً، لأنَّ الشعوبَ التي تحترقُ في نارِ الاستبدادِ، لا تلبثُ أن تولدَ من رمادها أقوى.
نوروزُ هو النقيضُ لكلِّ محاولاتِ الاستبدادِ لفرضِ واقعٍ مزيفٍ، ولجميعِ السياساتِ التي أرادتْ اقتلاعَ الجذورِ من أرضِها، وفرضَ هوياتٍ لا تُشبهُ أصحابَها. إنه الدليلُ الحيُّ على أنَّ الحريةَ لا تموتُ، وإن تأخرَ فجرُها، وأنَّ الشعوبَ التي تنبضُ بها قد تنحني لكنها لا تُكسر، قد تتألمُ لكنها لا تُساوم، قد تنتظرُ لكنها لا تنسى.
في نوروز، يُعادُ تعريفُ العدلِ بوصفهِ شرطاً للاستقرار، لا هبةً تُمنحُ من الأنظمةِ لمن ارتضوا الخضوع، ولا تنازلاً عن الحقوقِ لمن ارتضوا السلامَ بلا كرامة. هو تذكيرٌ بأنَّ أمنَ المنطقةِ لا يتحققُ إلا بالاعترافِ بحقوقِ الشعوبِ، وأنَّ من أرادَ الاستقرارَ دون حرية، لم يجلبْ إلا مزيداً من الفوضى.
إنَّ الشعوبَ التي تحتفلُ بنوروز لا تطلبُ امتيازاً، بل تمارسُ حقاً تاريخياً أصيلاً، وكلُّ من وقفَ في وجهِ هذا الحقِّ، وقفَ في وجهِ حركةِ التاريخِ نفسها. فكما اشتعلت نارُ كاوا الحدادِ في وجهِ الاستبدادِ القديم، فإنها تظلُّ مشتعلةً اليومَ في قلوبِ الأحرارِ الذين يُدركون أنَّ الحريةَ لا تُمنح، بل تُنتزع، وأنَّ كلَّ تأجيلٍ لها ليس إلا استراحةً مؤقتةً قبلَ أن تعودَ الشعوبُ للمطالبةِ بحقها من جديد.
نوروزُ هو وعدُ الفجرِ مهما طالَ الليلُ، وهو العهدُ بأنَّ كلَّ نارٍ أشعلها الظالمونَ لإطفاءِ الحريةِ، لن تكونَ إلا الشعلةَ التي تُنيرُ دربَ الشعوبِ نحوَ مستقبلها.
أيها الأخوة والأخوات
حين أشعل كاوا الحداد شعلةَ نوروز، لم يكن يُضيء ظلامَ الاستبدادِ فحسب، بل كانَ يُؤسِّسُ لمدرسةٍ نضاليةٍ تستلهمُ منها الشّعوبُ قوتَها في مواجهة الطّغيان. كانتْ تلك النّارُ بدايةَ ثورةٍ لم تزلْ مستمرةً، تتجلّى في كلِّ صرخةِ مقاومة، في كلِّ قلبٍ نابضٍ بحُبِّ الحرية، وفي كلِّ روحٍ تأبى الانحناءَ أمامَ الجَورِ والاستبداد.
نوروزُ ليسَ ماضياً نحملُه فقط، بل حاضرٌ نعيشه، ومستقبلٌ نبنيه. إنَّه العيدُ الذي يُذكِّرُ العالمَ بأنَّ الشّعوبَ، مهما طال زمنُ القهر، لا تموتُ، بل تبقى تُقاتلُ، تتحدّى، وتحلمُ بوطنٍ حرٍّ تسودُه العدالةُ والمساواة. إنّه عيدُ الشجاعةِ في وجه الاستعباد، وعيدُ الكرامةِ في وجهِ الإنكار، وعيدُ الوجودِ في وجهِ محاولات الإلغاء.
نوروز: عيدُ الحريةِ والاستقرارِ ووحدةِ الشعوب
إنَّ نوروزَ، بجذورِه العميقةِ في التاريخ، ليسَ ملكاً لشعبٍ واحدٍ فقط، بل هو دعوةٌ إلى الأخوّةِ الحقيقيةِ بين الشعوب، حيثُ لا استقرارَ دون عدالة، ولا سلامَ دون اعترافٍ متبادلٍ بالحقوق، ولا أخوّةَ دون احترامِ الإرادةِ الحرَّة. إنَّ نوروزَ هو نداءُ الإنسانيةِ في عالمٍ مزَّقتْه الحروبُ والصّراعات، ليكونَ رمزاً لروحِ التعايشِ، حيثُ يلتقي الناسُ حولَ نارٍ واحدة، يتشاركونَ الخبزَ والأملَ، ويرقصونَ رقصةَ الحريةِ تحتَ راياتِ النور.
يحلُّ علينا نوروز في لحظةٍ تاريخيةٍ مفصلية، حيث تشهدُ منطقتُنا اضطراباتٍ وصراعاتٍ مستمرة، تمتزجُ فيها آمالُ الشعوبِ بالحريةِ والاستقرارِ مع تعقيداتِ المشهدِ السياسيّ والتدخلاتِ الإقليميةِ والدولية. في هذا السياق، يظلّ نوروز أكثر من مجرد عيد، بل هو رمزٌ للنضالِ المستمر، ورسالةٌ بأنَّ إرادةَ الشعوبِ في تقريرِ مصيرِها أقوى من كلّ القيود.
تمرُّ منطقةُ الشرق الأوسطِ بمرحلةٍ شديدةِ الحساسية، حيث تتداخلُ الصراعاتُ السياسيةُ والاقتصاديةُ مع أزماتٍ اجتماعيةٍ متفاقمة. فبينَ انهيارِ دولٍ كانت تُعتبر "مستقرة"، وصعودِ قوى جديدةٍ تسعى لإعادةِ رسمِ الخرائطِ السياسيةِ وفق مصالحها، يبقى الشعوبُ هم الضحيةَ الحقيقيةَ لهذا الصراع.
في سوريا، لا تزالُ آثارُ الحربِ المستمرةِ منذ أكثرِ من عقدٍ تُمزِّقُ النسيجَ الاجتماعي، في ظلِّ تدخلاتٍ إقليميةٍ ودوليةٍ معقدة، حيث تحولت البلادُ إلى ساحةِ تصفية حساباتٍ بين الفاعلين الدوليين. ورغم كلِّ ذلك، فإنَّ الشعبَ السوري، بكافةِ مكوناته، ما زال يبحثُ عن حلٍّ يُعيدُ له كرامتَهُ وحقوقَهُ، ويضمنُ لهُ مستقبلاً بعيداً عن الاستبدادِ والتدخلاتِ الخارجية.
في العراق، ورغم تخلُّصِه من أنظمةِ القمعِ السابقة، لا يزالُ يُعاني من أزماتٍ سياسيةٍ متكررةٍ، تعيقُ بناءَ دولةٍ ديمقراطيةٍ حقيقيةٍ تُحققُ الاستقرارَ لكلِّ مكوناتها، وعلى رأسها الشعبُ الكوردي، الذي خاضَ نضالاً طويلاً في سبيلِ الاعترافِ بحقوقِه المشروعة.
أما في تركيا وإيران، فكلاهما يواجهُ تحدياتٍ داخليةٍ وخارجيةٍ مرتبطةٍ بالمسألةِ الكوردية، حيثُ لا تزالُ السياساتُ القمعيةُ تجاهَ تطلعاتِ الشعبِ الكوردي تُؤجّجُ الأوضاعَ الداخلية، وتُعززُ التوتراتِ الإقليمية، بدلاً من البحثِ عن حلولٍ عادلةٍ تضمنُ الاستقرارَ والتعايشَ المشترك.
يأتي نوروز ليُذكِّرَ الجميعَ بأنَّ الحريةَ لا تعني الفوضى، والاستقرارَ لا يعني القبولَ بالظلم، والسلامَ لا يكونُ إلا بالعدل. إنَّ أيَّ حلٍّ مستدامٍ في المنطقة يجبُ أن يقومَ على الاعترافِ بحقوقِ الشعوبِ، واحترامِ إرادتها، ورفضِ سياساتِ القمعِ والتمييز.
إنَّ المنطقةَ لن تنعمَ بالاستقرارِ الحقيقيّ ما دامت حقوقُ الشعوبِ مُهمَّشةً، وما دامَ القمعُ والإقصاءُ يُستخدمانِ كأدواتٍ لإدارةِ الأزماتِ بدلاً من معالجتِها. نوروزُ هو صوتُ الأحرارِ في وجهِ الطغيان، ورمزٌ للتجديدِ والتغييرِ، ودعوةٌ مفتوحةٌ لكلِّ القوى الساعيةِ للسلامِ الحقيقيّ، الذي لا يُمكنُ أن يتحققَ إلا بإرادةِ الشعوبِ لا بمخططاتِ الأنظمة.
أيُّها الأحرار، إنَّ نوروزَ ليسَ مجردَ مناسبةٍ للاحتفال، بل هو تذكيرٌ بأنَّ الشعوبَ التي تُقاتلُ من أجلِ حريتها لن تُهزم، وأنَّ القمعَ لا يمكنُ أن يكونَ قدراً أبدياً. فكما أضاءَ كاوا شعلةَ الحريةِ في وجهِ الظلمِ، فإنَّ الشعوبَ اليومَ قادرةٌ على إشعالِ فجرٍ جديدٍ من العدالةِ والكرامةِ والعيشِ المشترك.
إنَّ فلسفةَ نوروزَ تتجاوزُ مجرَّد الاحتفال، فهي تذكيرٌ دائمٌ بأنَّ الشعوبَ التي تسعى نحوَ الشّمسِ لا يُمكنُ أن تبقى في الظِّلّ، وأنَّ من يختارُ المقاومةَ طريقاً، فإنَّ فجرَهُ لا بدَّ أن يولدَ من رحمِ الظلام. نوروزُ يُعيدُ طرحَ السّؤال الأزلي: هل يمكنُ للحرية أن تُمنَح، أم أنَّها تُنتزَع؟ وهو يُجيبُ: "لا حريةَ لمن لا يُناضلُ من أجلها، ولا كرامةَ لمن يَقبلُ الذلَّ."
نوروزُ هو انتفاضةُ الروحِ ضدَّ الخضوع، واحتراقٌ طوعيٌّ في نارِ الأملِ كي ينبعثَ من جديدٍ طائرُ الحرية. وهو رسالةٌ لكلِّ مستبدٍّ: مهما حاولتم إخمادَ شعلةِ الشعوب، فإنَّ جذوةَ النورِ ستبقى مُتقدةً، لأنَّ التاريخَ لا يرحمُ من يُحاولُ طمسَ الحقيقة.
أيُّها الأحرار، إنَّ نوروزَ ليسَ مجردَ ذكرى، بل عهدٌ علينا أن نُجدّدَ التزامَنا به كلَّ يوم. هو مسؤوليةٌ تاريخيةٌ تفرضُ علينا ألَّا نكتفي بالاحتفال، بل أن نحملَ الشُّعلةَ ونُكملَ المسيرة، أن نبني وطناً حرّاً يليقُ بتضحياتِنا، أن نصنعَ سلاماً عادلاً لا يكونُ استسلاماً، أن نوقدَ نارَ الثورةِ في القلوبِ حتى تذوبَ قيودُ القهر، وحتى تُزهرَ الحريةُ في كلِّ ركنٍ من وطنِنا.
🔹 كلّ نوروزٍ وأنتم أحرار.
🔹 كلّ نوروزٍ وشعوبُ المنطقةِ أقربُ إلى السلامِ العادل.
🔹 كلّ نوروزٍ ونارُ الحريةِ لا تنطفئ.
20 آذار 2025