بقلم: د. عدنان بوزان
لم يكن الإنسان يوماً كائناً عاقلاً، كما زعمت الفلسفات الكلاسيكية، بل كان — منذ لحظة خروجه من الرحم الأول للطبيعة — حيواناً مفترساً، يخفي بين أضلعه أداة قنص أشد فتكاً من أنياب الذئب ومخالب النمر: الوعي.
العقل، في جوهره، لم يكن سوى شفرة حادّة وجهها الإنسان لا لفهم العالم، بل للهيمنة عليه، ثم التهام أخيه الإنسان. فحينما نسجت أول خيوط "الوعي بالآخر"، لم يكن ذلك الآخر شريكاً، بل فريسة مؤجلة. الإنسان لا يرى الإنسان، بل يرى مورداً، عدواً، منافساً، أو حتى عقبة ينبغي إزاحتها من طريق غرائزه المتخفية خلف الأقنعة.
- الأخلاق: لحظة الذعر بعد الافتراس
حين يفترس الإنسان أخاه الإنسان، لا يعود وحشاً سعيداً بجريمته، بل كائناً يضطرب في داخله سؤالٌ خفي: "هل سأكون أنا الضحية التالية؟"
ومن هذا القلق نشأت الأخلاق. لم تكن الأخلاق ثمرة عقل نقي، ولا وحياً من إلهٍ رحيم، بل كانت لحظة رعب جماعي، وردَّ فعل جمعياً على شراهة لا يمكن كبحها.
فبعد كل مذبحة، لا يستفيق الإنسان لأنه تاب، بل لأنه خاف من القصاص. وبعد كل خيانة، تلد الذات ميثاقاً مزيفاً اسمه "الضمير".
العيب؟ الأخلاق؟ القانون؟
كلها محاولات يائسة لإقناع الوحش القابع في الداخل بأنه يمكن تهذيبه بالكلمات.
- القوانين: الأقفاص الذهبية للمفترس
ما نسميه "نظاماً" أو "مجتمعاً" أو حتى "حضارة"، ليس سوى آلية ذكية لكبح الغرائز، لا باسم السمو، بل باسم الخوف.
الإنسان لا يخضع للقانون لأنه أخلاقي، بل لأنه يخشى أن يكون هو الضحية في الجولة القادمة. وهكذا، يقبل بالقفص بشرط أن يحبس فيه الجميع.
كل ما نظنه نُبلاً هو مجرد تأجيل للذبح، وكل ما نسميه تعايشاً ليس سوى حياد هشٍّ بين أنيابٍ لم تجد بعد عنقاً مناسباً لتغرس نفسها فيه.
- حين ترفع الأقنعة
انظر إلى الحروب، إلى لحظات الانهيار، إلى الفوضى، إلى الصراع على الخبز، والماء، وحتى على فكرة.
في هذه اللحظات تتبخر "الإنسانية" كما يتبخر الدخان، ويعود الحيوان إلى طبيعته الأولى.
لا يحتاج الإنسان إلى أكثر من فرصة — مجرّد فرصة — ليظهر أن الفريسة كانت دوماً في مرمى نظره.
بل إن الحب، الذي نظنه أنقى المشاعر، هو في جوهره افتراس روحي. إنه محاولة لامتلاك الآخر، للهيمنة عليه عاطفياً، تماماً كما يهيمن العاشق على المعشوق برغبة لا تشبع.
- ما الإنسان إذاً؟
الإنسان ليس كائناً عاقلاً، ولا حتى كائناً اجتماعياً. إنه الحيوان الوحيد الذي يبرر افتراسه. لا يقتل لأنه جائع، بل لأنه فكر أنه يستطيع.
لا يخون لأنه محتاج، بل لأنه استنتج أن الآخر لن ينتبه.
الوعي، هذه الهبة التي يقدّسها العقل البشري، لم تكن يوماً وسيلةً للسمو، بل آلية دقيقة لتبرير الجريمة.
في النهاية
لسنا ضحايا الشيطان... بل نحن الشيطان نفسه، حين لبس جلد الإنسان، وتزيّن بحروف الأخلاق، وتكلم بلغة الفضيلة.
ولعل أعظم خدعة قام بها الإنسان هي أن يقنع نفسه أنه ليس مفترساً، بل كائنٌ أخلاقي يخطئ أحياناً… بينما الحقيقة المخيفة هي:
أنه مفترسٌ دائماً، يتظاهر بأنه أخلاقي فقط حين لا يرى دماً قريباً منه.