بقلم: د. عدنان بوزان
إنّ الدعوة إلى إعلان استقلال كوردستان، والاتكاء على الجبال بوصفها الحصن الأبدي للكورد، ليست مجرد شعار عاطفي أو مقولة ثورية، بل هي تعبير مكثّف عن تجربة تاريخية طويلة، صاغتها الجغرافيا والمآسي والخذلان الدولي. فقد كانت الجبال دائماً الملاذ الأخير، وهي التي حفظت هوية الشعب الكوردي حين تكسرت الجيوش، وتلاشت التحالفات، وتبددت الوعود. لقد تعلّم الكورد أن لا صديق لهم إلا جبالهم، لا بمعنى الانعزال المطلق، بل بمعنى أنّ كل قوة خارجية تتحرك وفق مصالحها، ولا تنحاز إلا بقدر ما يخدم حساباتها الاستراتيجية.
من هنا، فإنّ تحرير الذات من الاحتلال – أياً كان شكله أو لونه – لا يمكن أن يبنى على الثقة المطلقة بوعود القوى الكبرى، سواء الولايات المتحدة أو غيرها. فالتاريخ السياسي في الشرق الأوسط يثبت أنّ واشنطن لم تكن يوماً قوة تحرير، بل قوة إدارة أزمات وموازنة مصالح، تبحث عن أدوات لتحقيق استراتيجياتها لا عن شركاء متساوين في الحقوق. ومن ثم، فإنّ الاعتماد الكلّي عليها وهم، ومعاداتها بشكل أعمى انتحار. المطلوب هو الموازنة الدقيقة: تجنّب معارضتها حين لا طائل من المعارضة، وعدم الارتهان لها حين تقدّم دعماً محدوداً مشروطاً.
إنّ استقلال كوردستان – أو أي شعب مضطهد – ليس حلماً رومانسياً، بل مشروعاً سياسياً يقوم على ركيزتين أساسيتين:
1- القدرة الذاتية: بناء مؤسسات قوية، واقتصاد متماسك، وجيش منظم قادر على الدفاع عن الأرض. فالحرية بلا قوة عسكرية واقتصادية تتحول إلى مجرد حبر على ورق.
2- القدرة على قراءة اللحظة التاريخية: فالثورات والاستقلالات لا تنجح بالإرادة وحدها، بل بالقدرة على اقتناص الفرصة حين تتشقق جدران النظام الإقليمي والدولي.
وهنا تكمن الحكمة: أن لا يعلن الاستقلال في الفراغ، بل في لحظة يتداعى فيها ميزان القوى التقليدي، وتتصدع الإمبراطوريات القديمة، وتفتح ثغرة في جدار الحديد المحيط بالشعب.
لكن هذه القاعدة ليست حكراً على الكورد وحدهم. فجميع الشعوب التي ترزح تحت القمع – في الشرق الأوسط أو خارجه – مدعوة إلى التفكير بذات العقلية. فالمصالح لا تبنى على العاطفة ولا على أوهام "المخلّص الخارجي"، بل على تقييم واقعي للظروف والقدرات والفرص. إنّ القمع ليس قدراً أبدياً، لكنه لا يزول بالدعاء ولا بالانتظار، بل بالفعل السياسي المنظم القائم على توازن القوى.
إنّ الخطورة التي قد تواجه الفكر السياسي الكوردي – أو أي فكر تحرري – تكمن في تصديقه الوعود الغربية أكثر مما يصدق حقائق واقعه. فالأمريكي كما الروسي، والتركي كما الإيراني، جميعهم يتعاملون بمنطق الاستثمار في نقاط الضعف، لا بمنطق الدفاع عن الحقوق الإنسانية. ولهذا، فإنّ استقلال الشعوب لا يرسم في مكاتب البيت الأبيض أو الكرملين، بل يتشكل في جبالها ومدنها ومخيماتها، حين تتحول المأساة إلى قوة، واليأس إلى تصميم، والهوية إلى مشروع دولة.
في النهاية، الاستقلال ليس هبة تمنح، بل معركة تنتزع.
والجبال وحدها لا تكفي، لكنها ستظل الشاهد الأبدي على أنّ الشعوب التي تحتمي بها، قد تنكسر مرات، لكنها لا تستسلم أبداً.