التحاليل السياسية
تركيا ودمشق: بين مطرقة التطبيع وسندان الضغوط الدولية
بقلم: د. عدنان بوزان
في المشهد السوري المعقد، تظل العلاقات بين دمشق وأنقرة محوراً رئيسياً في التحليل السياسي، حيث تتشابك المصالح الإقليمية والدولية في صراع طويل الأمد. لا يمكن النظر إلى التفاعلات بين هاتين العاصمتين بمعزل عن الخلفيات الجيوسياسية المتغيرة، خاصة في ظل تصاعد التوترات في مناطق أخرى من العالم، مثل أوكرانيا، وازدياد الضغوط على تركيا من حلفائها في الناتو.
أولاً: السياق السياسي المعقد بين دمشق وأنقرة:
دمشق، التي تعاني من أزمات اقتصادية خانقة ونزيف متواصل على المستويات الاقتصادية والاجتماعية، تدرك أن فرص النجاة من هذه الأزمات لا تأتي من تركيا. الحوار بين الجانبين يبدو أقرب إلى تكتيك دبلوماسي من دمشق لمحاولة استغلال أي فتح محتمل في العلاقات، لكن هذه التحركات تظل مدفوعة بمخاوف النظام من زيادة الانعزال الدولي وضغوط العقوبات. إحدى أوراق النظام في هذا الحوار هي شرعنة اجتياح تركي جديد للشمال السوري مقابل فتح معبر باب الهوى، ولكن يبدو أن هذه الصفقة محدودة في تأثيرها ولن تعالج الأزمة الاقتصادية الشاملة.
في المقابل، تركيا تجد نفسها في موقف معقد، حيث تواجه تحديات متشابكة على المستوى الداخلي والإقليمي. فأي خطوة نحو تطبيع العلاقات مع دمشق بعيداً عن مسار القرار الأممي 2254، الذي تدعمه الولايات المتحدة وأوروبا، قد يضع تركيا في مواجهة مباشرة مع القوى الدولية والإقليمية الداعمة للمعارضة السورية. التدخل الأمريكي لدعم الفصائل المسلحة إذا ما تم هذا التطبيع بشكل منفرد سيكون عاملاً رئيسياً في إعادة خلط الأوراق. تركيا، التي تسعى للحفاظ على نفوذها في الملف السوري، تدرك أن تطبيع العلاقات مع النظام السوري بدون موافقة واشنطن قد يؤدي إلى تحرك عسكري جديد من الفصائل المعارضة، وهو ما لا ترغب فيه أنقرة في الوقت الحالي.
ثانياً: الرهانات الإقليمية والدولية:
لا يمكن النظر إلى مسار التطبيع بين أنقرة ودمشق بمعزل عن التطورات الدولية. روسيا، الداعم الأكبر للنظام السوري، قد تحاول لعب دور الوسيط بين الطرفين، ولكن الأزمة في أوكرانيا وتداعياتها على العلاقات الروسية التركية تزيد من تعقيد الموقف. موسكو تواجه ضغوطاً متزايدة من حلف الناتو، وتركيا، كعضو في هذا الحلف، توازن بعناية بين الحفاظ على علاقاتها مع موسكو وبين التزاماتها الأطلسية. دعم أنقرة للناتو في أوكرانيا يجعل من الصعب التوصل إلى اتفاق مع موسكو بشأن سوريا في الوقت الراهن.
على المستوى الداخلي، تركيا تعاني من تحديات سياسية واقتصادية كبيرة، بما في ذلك قضية اللاجئين السوريين التي أصبحت عبئاً سياسياً واقتصادياً على الحكومة. هذا العبء يدفع بعض الأطراف في الداخل التركي إلى الضغط باتجاه تطبيع العلاقات مع دمشق، على أمل أن يؤدي ذلك إلى إعادة جزء من اللاجئين إلى سوريا. لكن الواقع يشير إلى أن هذه العودة لن تكون بالسهولة المتوقعة، خاصة في ظل استمرار غياب الاستقرار في مناطق النظام.
ثالثاً: تركيا: بين رغبة التطبيع ومخاطر العزلة:
إذا سارت تركيا في طريق التطبيع دون ضمانات دولية قوية، ستجد نفسها في موقف حرج.
أولاً، ستفقد تركيا الورقة الأهم التي تملكها في سوريا، وهي دعم الفصائل المسلحة، مما قد يؤدي إلى خروجها خالية الوفاض من الأزمة السورية.
ثانياً، قد تصبح تركيا بوابة للاجئين السوريين إلى أوروبا، وهو سيناريو لا ترغب فيه أنقرة، التي تسعى لتخفيف عبء اللاجئين لا زيادته. الأهم من ذلك، أن الولايات المتحدة وأوروبا لن تتساهل مع أي تحرك تركي منفرد قد يعيد تشكيل الجبهات في سوريا ويزيد من عدم الاستقرار.
في هذا السياق، نجد أن التحرك التركي محدود الخيارات؛ من جهة تسعى أنقرة للحفاظ على نفوذها ومصالحها في سوريا، ومن جهة أخرى، تخشى من التداعيات الدولية والمحلية لتطبيع العلاقات مع النظام السوري دون دعم دولي. الولايات المتحدة، التي لا تزال ترى في المعارضة السورية ورقة ضغط ضد النظام، لن تسمح لتركيا بالتحرك بعيداً عن خططها الخاصة بسوريا، مما يزيد من تعقيد الوضع.
الخلاصة: دوامة مستمرة بلا مخرج واضح:
المشهد السوري يبدو أنه سيظل على حاله في المدى المنظور، حيث تتشابك المصالح الإقليمية والدولية بطريقة تجعل من الصعب الوصول إلى اتفاق شامل. موسكو وأنقرة قد تجدانه من الصعب تحقيق توافق قريب، خاصة في ظل التوترات المتزايدة بين تركيا والناتو على خلفية الأزمة الأوكرانية. من هنا، يبدو أن دمشق وأنقرة ستستمران في هذه الدوامة السياسية والدبلوماسية، حيث يسعى كل طرف لتحقيق مكاسب محدودة دون الوصول إلى حلول جذرية.
النظام السوري، من جانبه، سيواصل محاولة استغلال أي فتح دبلوماسي لتحسين وضعه الاقتصادي والسياسي، في حين أن تركيا ستظل تراوح مكانها بين مخاطر التطبيع ومخاوف العزلة الدولية. في نهاية المطاف، يبدو أن الطريق إلى حل الأزمة السورية لا يزال مليئاً بالتعقيدات والمفاجآت، وما يحيط به من مصالح إقليمية ودولية سيظل عاملاً رئيسياً في تشكيل مستقبل العلاقات بين دمشق وأنقرة.