بقلم: د. عدنان بوزان
في قلب التجربة الإنسانية، يتردد صدى سؤالٍ قديمٍ، لكنه جديد في طبيعته: ماذا يعني أن نكون؟ ولعل هذا السؤال يُثير في النفس ارتباكاً فطرياً، إذ يتوجّه نحو أعماق الفهم المجهول ويبحث عن إجابةٍ لا تصلح قط للقبول. ربما لا نحتاج إلى فلسفة تقدّم لنا إجابات ثابتة، بقدر ما نحتاج إلى رحلة فكرية تديرنا في دوائر المعنى، فتفتح لنا أبواب التأمل على اتساعها، ولكن في الوقت نفسه تغلق كل نافذة قد تُعيدنا إلى أرض الواقع.
إننا نعيش في عوالم متقاطعة، تتداخل فيها فكرة الوجود مع فكرة الفراغ. وكأن وجودنا هو محاولة يائسة لملء مساحات الفراغ التي تحيط بنا، لكنّ هذه المحاولة دائماً ما تنتهي بأن نغرق في نوع آخر من الفراغ؛ ذلك الفراغ الذي ليس مكاناً، بل هو حالة وجودية نعيشها في كل لحظة، وفي كل فعل نفعله، ونحاول من خلاله الهروب إلى معنى جديد أو هوية مختلفة. ولكن السؤال المحوري يبقى: هل يمكن للفرد أن يكون في مكانه في هذا العالم، دون أن يكتشف أنه في الحقيقة لا مكان له؟ وهل هذه الحقيقة، التي تبدو مفارقة، هي أساس الوجود ذاته؟
لن نفهم، كما يظن الكثيرون، أن الوجود هو فعل مستمر، بل ربما هو توقّف لا نهائي لا تراه العين البشرية إلا من خلال قشور الذاكرة. الذاكرة ليست إلا وهماً يختزن تجاربنا وأفعالنا وكأنها شريط سينمائي يُعرض لنا، بينما نحن في لحظة واحدة نركض داخل الزمن، دون أن نشعر حقاً بوجودنا. الوجود في هذا السياق هو فوضى غير مدروسة، محاولة لتفسير الزمان والمكان في لحظة لا يمكن تمثيلها بأي لغة أو رمز. نحن لا نعيش في الزمن فقط، بل نعيش داخل ما يمكن أن نسمّيه "زمناً آخر" – ذلك الزمن الذي لا يرتبط بالساعة ولا بالحدث، بل هو الزمن الذي ينبثق من الوعي الداخلي لدينا. إنه الزمن الذي يخلق نفسه ويُعيد خلقنا من جديد في كل لحظة نعي فيها، وهو زمن يتجاوز حدود العلم والفلسفة والعقلانية.
ثمَّ، هل يمكن أن نُدرك وجودنا حقاً، إذا كانت كل فكرة نمتلكها عن أنفسنا هي في الأساس مجرد انعكاس على سطح مرآة غير واضحة؟ أليست الذاكرة واهية؟ وهل يمكن للإنسان أن يعيش حياة مليئة بالمعنى وهو لا يستطيع حتى أن يحدد من هو في حقيقة ذاته؟ هل نحن محكومون بالظلال التي تلوح لنا في عالمنا الداخلي أم أن هذه الظلال هي جزء من هويتنا؟ هل يمكننا أن نعيش في عالمنا بلا أساطير، أم أن الأساطير هي التي تخلق لنا وجوداً يمكننا التفاعل معه؟
هذه الأسئلة، التي لا يتوقف دورانها في عقل الإنسان، هي بوابة لفلسفة تعيد صياغة أفكار سبق أن سُجنت في أسوار التفكير التقليدي. إذا كانت الفلسفة قد انتهت، كما يزعم البعض، فأنا أرى أنها قد بدأت للتو. بداية ليست في فلسفة جديدة تحاول حلّ هذه الألغاز، بل في فلسفة تتقبل الغموض كحقيقة غير قابلة للتفسير، وتؤمن أن الوجود ليس كينونة وإنما هو حركة مستمرة بين المجهول والمعلوم، حيث كل إجابة هي بداية لسؤال جديد.
الفلسفة، إذاً، ليست بحثاً عن الحقيقة التي نراها، بل بحثاً عن تلك اللحظة التي نكتشف فيها أن الحقيقة نفسها هي مجرد حلم يتلاشى.