نحو عقد اجتماعي جديد: الفيدرالية كضرورة سياسية وقانونية لسوريا المستقبل
- Super User
- البحوث والدراسات
- الزيارات: 1572
بقلم: د. عدنان بوزان
الفيدرالية: من أزمة الدولة إلى هندسة جديدة للوطن
في زمنٍ سقطت فيه المعاني التقليدية للسيادة، واهتزّت فيه المسلّمات حول الدولة الوطنية الحديثة، تقف سوريا عند مفترق لا يشبه كل المفترقات السابقة: مفترق لم يعد يدور حول "من يحكم"، بل "كيف نُحكم"، ولا يتمحور حول "من هي الأغلبية"، بل "من له الحق في أن يكون"، ولا يطرح سؤال "الوحدة الجغرافية" بقدر ما يعيد مساءلة ماهيّة الدولة ذاتها، وأسس مشروعيتها، وحدود شرعيتها.
لقد كانت سوريا الحديثة، منذ نشأتها، كياناً سياسياً يفتقر إلى التأسيس المتوازن: دولة وُلدت في رحم الانتداب، وخضعت لبُنى استعمارية، ثم ورثتها أنظمة مركزية عسكرية. وبدلاً من أن تُبنى على قاعدة اجتماعية تمثيلية شاملة، تم اختزالها في سلطة قاهرة تحتكر القرار، وتُهندس المجتمع وفق مصالحها، لا وفق تنوّعه الحقيقي. ومنذ اللحظة الأولى لاستقلالها، وُضع المشروع الوطني السوري تحت وصاية ثلاثيٍّ قاتل: المركزية القومية، التسلّط الأمني، وأحادية الهوية.
في ظل هذا التكوين الهش، لم تكن الدولة حاميةً للتعدّد، بل أداةً لصهره. لم تكن إدارةً للتمايز، بل آليةً لكتم أنفاسه. وهكذا، انبنت الدولة السورية على تصور أن الوحدة لا تتحقق إلا بنفي الاختلاف، وأن المواطنة لا تستقيم إلا بعد تخلي الإنسان عن هويته الأصلية لصالح هوية مفروضة من فوق: "عربي"، "بعثي"، "قومجي"، "وحدوي" " إسلاموي"... مفردات أُفرغت من معناها، وتحولت إلى شعارات خرساء، لا علاقة لها بتجارب الناس، ولا بتاريخهم، ولا بأحلامهم.
وحين جاء الانفجار الكبير عام 2011، لم يكن انتفاضاً سياسياً فقط، بل ثورة أنثروبولوجية عميقة ضد بنية الدولة، ضد الكذب المتراكم، ضد اختزال الإنسان في هوية نمطية لا تمثّله. ما حصل لم يكن ثورة كوردية، ولا طائفية، ولا مناطقية، بل انفجاراً لهوياتٍ صُودرت طويلاً، وصحوةً عارمة لشعوبٍ وجدت نفسها فجأةً خارج المركز، تطالب بأن تكون مرئية، وأن تُحكم بما يشبهها، لا بما يُفرض عليها.
في هذا الإطار، لا تبدو الفيدرالية حلاً إدارياً كما قد يُتصوّر، بل إعادة صياغة فلسفية وأخلاقية لمعنى الدولة. إنها ليست قسمةً سياسية للسلطات، بل تصحيحٌ عميق لنظرة الدولة إلى ذاتها وإلى مواطنيها. إنها خطاب جديد يعترف أن الوطن ليس وحدةً مُصمَتة، بل فسيفساء بشرية ولغوية ودينية وثقافية، وأن الاعتراف بهذا التعدّد هو أول شروط بناء الدولة المستقرة.
وحدها الفيدرالية تتيح إعادة توزيع السلطة بما يمنع الاحتكار، ويعزّز الحوكمة المحلية، ويكسر المركزية التي جعلت من دمشق دولةً فوق الدولة، ومدينةً تبتلع البلاد. وحدها الفيدرالية تمنح كل مكوّن من مكونات الشعب السوري حقه في إدارة شؤونه، من دون أن يُطلب منه التخلي عن لغته أو ذاكرته أو ثقافته.
إن الحديث عن الفيدرالية ليس دعوةً للانعزال، بل اقتراحٌ للانخراط المتوازن. ليس مديحاً للتشظّي، بل رؤيةٌ لبناء وحدةٍ متعدّدة، تُشبه الجغرافيا السورية وتاريخها. إنها النموذج الوحيد الذي لا يُنكر الواقع، بل يعترف به وينظّمه. النموذج الذي لا يعوّل على ولاءاتٍ قسرية، بل يبني ولاءً طوعياً أساسه العدالة والمشاركة والمساواة.
لقد أثبتت التجربة أن الدولة السورية، بشكلها الحالي، لم تعد قادرة على الاستمرار: لا المركز قادرٌ على إدارة الأطراف، ولا الأطراف مستعدةٌ للخضوع مرةً أخرى. والعالم من حولنا يتغير. الدول لا تُقاس اليوم بمركزيتها، بل بقدرتها على إدارة التنوّع لا قمعه، واستيعاب الهويات لا تفتيتها. والفيدرالية، بهذا المعنى، ليست خطوةً إلى الخلف، بل قفزةٌ نحو المستقبل. ليست عودةً إلى القبيلة، بل ولادة لعقدٍ اجتماعي جديد يُكتب بين متساوين، لا بين حاكمٍ ومحكوم.
نحن لا نقترح الفيدرالية كبديلٍ عن الوطن، بل كمشروعٍ لإنقاذه. فإما أن نُعيد هندسة الدولة بما يسمح لكل السوريين بأن يكونوا شركاء حقيقيين، أو سنبقى أسرى وطنٍ يتآكل من الداخل، ويخسر أبناءه يوماً بعد يوم.
من هنا تبدأ الحكاية الجديدة:
لا من المركز، بل من الأطراف.
لا من الهوية الواحدة، بل من حق الجميع في أن يكونوا كما هم.
وهنا، فقط، قد نجد وطناً لا يخاف من تنوّعه، بل يبنيه.
أولاً: الفيدرالية ليست تقسيماً... بل نقيضه:
في الخطاب السياسي السائد، لا سيما في الدول التي اعتادت أنماط الحكم المركزي الصارم، يُختزل مفهوم الفيدرالية غالباً إلى تهمة جاهزة: "تقسيم"، "انفصال"، أو حتى "تفكيك الوطن". ويكفي أن تُذكر الكلمة في بعض النقاشات حتى يُستدعى شبح التمزق الوطني، وسيناريوهات الحروب الأهلية، وصور الخرائط المقطعة. لكن هذا التصوّر لا يعكس في جوهره طبيعة الفيدرالية كنظام سياسي، بل يكشف عن أزمة عميقة في فهم الدولة، وعن فوبيا مزمنة من التعدد والتنوع.
الفيدرالية، في أصلها الفلسفي والسياسي، لا تعني التشرذم، بل التشارك؛ لا تؤسس للتقسيم، بل تضع حدّاً له؛ لا تنسف فكرة الدولة، بل تعيد تعريفها على أسس أكثر عدالة وتمثيلاً وشراكة. إنها هندسة جديدة للعقد الاجتماعي، تُبنى على الاعتراف بالاختلاف لا على إنكاره، وعلى تنظيم السلطة لا على احتكارها.
1- الدولة المركزية ليست دائماً رمزاً للوحدة:
لنفكك أولاً هذه الثنائية الزائفة التي تربط بين المركزية والوحدة، وبين اللامركزية والتقسيم. فالواقع السياسي يبيّن، بوضوح، أن كثيراً من الدول المركزية الصارمة في توحيد السلطة، كانت – أو لا تزال – مهددة بالانهيار، لا بسبب نقص في التمركز، بل بسبب فائض في الإنكار. عندما تُصمّ آذان الدولة عن سماع مطالب مكوناتها المختلفة، وتُفرض هوية واحدة على تنوع غني ومعقد، فإن الانفجار يصبح مسألة وقت. يوغوسلافيا السابقة، السودان، وإثيوبيا مؤخراً، كلها نماذج لدول تصدعت من الداخل، لا لأنها اعترفت بالتنوع، بل لأنها أنكرت وجوده.
في المقابل، نجد أن الدول التي تبنّت الفيدرالية – حتى في لحظات ما بعد الحرب أو التأسيس القسري – استطاعت أن تحوّل هذا النظام إلى أداة وحدة لا تفكيك. ألمانيا، مثلاً، خرجت من أنقاض الحرب العالمية الثانية لا كدولة مركزية متجبرة، بل كاتحاد فيدرالي يوزّع السلطة بين المركز والولايات. وبدل أن تكون الفيدرالية تمهيداً لانفصال البافاريين أو الساكسونيين، أصبحت أحد أسباب استقرار ألمانيا، وقوة اقتصادها، وتجذر ديمقراطيتها.
وسويسرا، على صغرها الجغرافي وتعقيدها اللغوي والعرقي، اختارت منذ قرون النموذج الكونفدرالي ثم الفيدرالي، لضمان التمثيل الحقيقي للكانتونات، وللحفاظ على السلم الأهلي داخل مجتمع يتكلم أربع لغات رسمية وينتمي إلى طوائف متعددة. ولم نسمع عن سويسري واحد يطالب بالانفصال، لأن الدولة الفيدرالية لم تفرض عليه مركزاً قسرياً، بل منحته دوراً متكاملاً في السيادة.
أما الولايات المتحدة الأميركية، فهي المثال الكلاسيكي لنظام فيدرالي نشأ منذ التأسيس، وتحوّل إلى دولة عظمى دون أن تُفرّط بوحدتها. ومع ذلك، لم تُلغِ يوماً خصوصيات ولاياتها، بل اعتبرت هذا التعدد مصدراً للقوة لا عاملاً للضعف.
2- الفيدرالية: من منطق السيطرة إلى منطق الشراكة:
إن ما تخشاه الأنظمة المركزية ليس "التقسيم" بالمعنى الجغرافي، بل فقدان السيطرة المطلقة. فالنظام المركزي يمنح النخب الضيقة في العاصمة قدرة على التحكّم بكافة مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية من الأعلى، دون مساءلة. أما الفيدرالية، فتقوّض هذا الاحتكار، وتعيد السلطة إلى الناس، في مناطقهم، إلى من يعرفون تحدياتهم وأولوياتهم الفعلية.
الفيدرالية، بهذا المعنى، ليست مجرّد نظام إداري، بل فلسفة في الحكم. إنها تعبير عن قناعة بأن الدولة ليست جهازاً فوق المجتمع، بل أداة له. وأن الوطن لا يُبنى من الأعلى إلى الأسفل، بل من القاعدة نحو القمة. وأن الاعتراف بالهويات الفرعية لا يُعدّ تنازلاً، بل شرطاً لولادة هوية وطنية جامعة، منفتحة، متعددة.
3- الخوف من الفيدرالية: امتداد لعقدة الإنكار:
عندما يُشيطن البعض الفيدرالية، فهم غالباً لا يدافعون عن الدولة، بل عن امتيازاتهم داخلها. هم يخشون من أن تتحوّل الدولة من أداة حصرية في أيديهم إلى فضاء تشاركي يفقدهم التفوق. هم لا يرون في الفيدرالية ضماناً للتعدد، بل تهديداً لهيمنتهم. وفي هذا تكمن المفارقة: ما يُقدَّم بوصفه دفاعاً عن "الوحدة"، هو في الحقيقة دفاع عن المركزية؛ وما يُدان بوصفه مشروع "تقسيم"، هو في جوهره مشروع عدالة.
4- الفيدرالية ليست حقّاً للمكوّنات فقط... بل مصلحة للدولة ككل:
إن تبني النظام الفيدرالي لا يخدم المكونات "الأقلية" فحسب، بل يخدم الدولة بكل مكوناتها. فعندما يشعر كل جزء من الوطن أن له صوتاً، وحقّاً في القرار، وقدرة على إدارة شؤونه، تنخفض احتمالات التمرّد والعنف، ويزداد شعور الانتماء. لا أحد ينتمي إلى كيان يُقصيه، والانتماء لا يُفرض، بل يُبنى على المشاركة والاعتراف.
في السياق السوري، حيث فشلت الدولة المركزية في تأسيس عقد اجتماعي جامع، وحيث فُرضت هوية واحدة على مجتمع متعدد، لا يمكن أن تكون العودة إلى المركزية حلاً، بل استمراراً للأزمة. الفيدرالية في الحالة السورية لا تعني تقسيم الدولة، بل إنقاذها من التآكل والانهيار. إنها الصيغة الوحيدة التي تتيح لكل مكون أن يكون، دون أن يشعر بالتهديد أو الذوبان. صيغة تستوعب التاريخ، وتحترم الجغرافيا، وتحوّل التنوع من عبء إلى ثروة.
في الختام: الوحدة ليست نقيض التعدد... بل ثمرة تنظيمه:
نعم، الفيدرالية ليست تقسيماً... بل نقيضه الحقيقي. هي ردّ عقلاني وعملي على خطر التفكك، وهي السبيل إلى تحويل الخوف من الاختلاف إلى طاقة بنّاءة. وهي، قبل كل شيء، تعبير عن وعي جديد: أن الوطن لا يكون أقوى حين يُفرض من الأعلى، بل حين يُبنى من القاعدة بالتوافق والشراكة.
ولأن الزمن قد تغيّر، ولأن الشعوب لم تعد تقبل أن تُدار من بعيد، فإن مستقبل الدولة – أي دولة – لن يُقاس بعدد الأجهزة الأمنية، ولا بصرامة المركز، بل بقدرتها على استيعاب التعدد، واحترام المحلي، وبناء وحدة لا مركز فيها لاحتكار القرار، بل لبنية عادلة تنبثق من التنوع.
ثانياً: التعددية السورية تفرض حلاً غير مركزي:
سوريا، كما لم تُرَ من قبل، ليست مجرد بقعة جغرافية مرسومة على الخريطة، بل هي تجسيد معقّد ومركّب لتاريخ طويل من التداخلات القومية والدينية والثقافية. إنها بلد لا يعبّر عنه عنوان واحد، ولا يمكن اختزاله في قومية واحدة، أو طائفة مهيمنة، أو لغة رسمية وحيدة. من سهل الجزيرة إلى الساحل، ومن جبل العرب إلى وادي النصارى، تتجاور الهويات، وتتشابك الانتماءات، وتتراكب طبقات من الذاكرة الجمعية المتنوّعة. العرب، الكورد، الآشوريون، السريان، الأرمن، التركمان، الشركس، والإيزيديون وغيرهم... جميعهم ليسوا "أقليات" على هامش هوية "أغلبية" مفترضة، بل شركاء أصليون في صناعة التاريخ السوري، وفي تشكيل نسيجه الاجتماعي العميق.
وإذا كانت هذه التعددية قد شكّلت، في لحظات ما، مصدر غنى وتنوّع وازدهار، فإن الدولة المركزية التي نشأت بعد الاستقلال – ثم ترسّخت في ظل حكم البعث البائد – عمدت إلى قمع هذا التنوع، وتحويله إلى تهديد. فالمركزية لم تكن خياراً إدارياً فحسب، بل مشروعاً أيديولوجياً يُقصي المختلف، ويهمّش الهويات الفرعية، ويفرض تصوراً أحادياً للوطن والمواطنة.
1- القومية مقابل التعدد: إخفاقات الدولة المركزية:
المشروع القومي العربي، على الرغم من شعاراته التقدمية والوحدوية، انزلق تدريجياً نحو نموذج "الدولة-الأمة" ذات الهوية الواحدة، ما أدى إلى إنكار صريح لحقوق غير العرب من السوريين. الكورد، وهم ثاني أكبر قومية في البلاد، حُرموا من الجنسية، ومُنعت لغتهم من التدريس، وطوردت رموزهم الثقافية، بل جرى تغيير أسماء قراهم ومدنهم في محاولة لـ"تعريب" الجغرافيا والتاريخ معاً. أما الآشوريون والسريان، الذين حافظوا على لغات تُعد من الأقدم في العالم، فقد أُجبروا على التعلم ضمن مناهج لا تعترف أصلاً بوجودهم. الأرمن، الذين لجؤوا إلى سوريا بعد الإبادة الجماعية العثمانية، واجهوا تهميشاً ثقافياً وسياسياً، رغم مساهماتهم البارزة في الحياة السورية الحديثة.
دينياً وطائفياً، سادت سياسة "الاندماج المُراقب": الدولة تعلن حيادها الطائفي في الخطاب، لكنها تُدير التوازنات الطائفية ضمن البُنى الأمنية والسياسية بما يخدم مركزية السلطة. فكان العلويون – على سبيل المثال – بين مطرقة الشكّ المجتمعي في ولائهم الوطني، وسندان استغلال النظام لهم كـ"حزام حماية" لبنيته السلطوية. الدروز، رغم خصوصيتهم الدينية والتاريخية، لم يُمنحوا مساحة حقيقية لإدارة شؤونهم، بل جرى تهميشهم ضمن دوائر القرار. أما الطائفة السنية، ذات الغالبية العددية، فوجدت نفسها متهمة دائماً بميول "إسلاموية"، مما أدى إلى توترات مزمنة بينها وبين النظام البائد، تُوّجت بمجازر مروعة كأحداث حماة 1982، وتفاقمت بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011.
أما اليوم، نرى أن السلطة الجديدة في دمشق ليست سوى إعادة إنتاج للعقلية ذاتها التي حكمت البلاد لعقود، لكنها تتخذ هذه المرة قناعاً مختلفاً؛ فبدلاً من البعث، تتجلى بنفس الفكر الإقصائي والمعلّب، ولكن هذه المرة مغلفاً بخطاب إسلاموي لا يقل تسلطاً عن سابقه.
2- التعددية ليست حالة طارئة… بل بنية تأسيسية:
إن التعددية السورية ليست نتاج "ظروف طارئة" أو "مؤامرات خارجية" كما يروّج البعض، بل واقع تاريخي موغل في القدم، يسبق نشوء الدولة الحديثة بمئات السنين. إنها لم تبدأ مع سايكس – بيكو، بل كانت حاضرة في حلب المملوكية، وفي الجزيرة، وفي جبال الكورد، وفي بادية الشام. وعليه، فإن كل محاولة لإنكار هذا الواقع، أو احتوائه ضمن سردية مركزية أحادية، ما هو إلا ضربٌ من الوهم السياسي، وانتحار وطني مؤجّل.
في ضوء هذا الواقع، لا يمكن لأي حل سياسي في سوريا أن ينجح دون الاعتراف العميق بأن البلاد متعدّدة فعلاً، لا مجازاً. وهذا الاعتراف لا يكفي أن يكون أخلاقياً أو خطابياً، بل يجب أن يُترجم إلى بنية سياسية دستورية تحترم التعددية بوصفها قيمة تأسيسية، لا تهديداً يجب تحييده.
3- اللامركزية: من التعدد إلى الشراكة:
اللامركزية السياسية – وعلى رأسها النظام الفيدرالي – ليست "تفصيلاً إدارياً"، بل فلسفة حكم شاملة، تعيد صياغة العلاقة بين الدولة ومواطنيها. إنها تعني نقل القرار من المركز إلى المحيط، ومن النخبة الضيقة إلى المجتمعات المحلية. وتسمح لكل مكون أن يُعبّر عن خصوصيته، دون أن يهدد وحدة الوطن، بل تعيد صياغة هذه الوحدة من خلال الاعتراف بالتنوع لا نفيه.
الفيدرالية لا تعني التقسيم، بل التنظيم. لا تدعو إلى بناء دول مستقلة، بل إلى تأسيس دولة مشتركة متعددة المستويات. إنها صيغة تُفضي إلى عقد اجتماعي جديد، يعترف بحق الكورد في التعليم بلغتهم، وحق الآشوريين في الحفاظ على تراثهم، وحق العلويين والدروز في إدارة شؤونهم الدينية والثقافية بحرية، وحق المسيحيين في العيش دون خوف من التطرف أو غياب الدولة المدنية.
اللامركزية لا تُضعف الدولة، بل تحصّنها. فهي تقلّل من النزاعات الداخلية، وتخفّض من منسوب التوتر القومي والطائفي، وتُتيح لكل مكون أن يشعر بأنه شريك لا رهينة. إنها تمنح الجميع سبباً للانتماء، لأنها لا تُفرض من فوق، بل تُبنى من القاعدة.
4- سوريا جديدة لا تُبنى من رماد المركزية:
بعد أكثر من عقد على الثورة السورية، وسقوط النظام البعثي البائد واستلام السلطة الإسلاموية، وبعد مئات الآلاف من الضحايا، وملايين اللاجئين، ودمار مدنٍ بأكملها، لم يعد ممكناً الحديث عن "عودة" إلى ما قبل 2011. النموذج المركزي أثبت عجزه التام عن تمثيل السوريين أو إدارة تنوعهم، أو تقديم نموذج حكم مستدام. وأي محاولة لإعادة إنتاجه – ولو بأسماء جديدة – ليست سوى تأجيل لانفجار قادم.
سوريا الجديدة، إن كُتب لها أن تولد، لن تُبنى من رماد المركز، بل من فسيفساء المناطق. لن تُدار بعقل أمني واحد، بل بعقول متعددة تؤمن بالشراكة والتعدد. لن تقوم على إقصاء "الآخر"، بل على تمكينه.
خاتمة: لا وحدة دون عدالة… ولا عدالة دون لا مركزية:
التعددية السورية ليست "مشكلة" تتطلب حلولاً أمنية أو خطابات توحيد قسرية، بل هي الحقيقة المؤسسة التي ينبغي أن يُبنى عليها أي مشروع وطني مستقبلي. واللامركزية، بوصفها شكلاً من أشكال العدالة السياسية، ليست تنازلاً من "المركز"، بل اعتراف بأن سوريا لن تكون قابلة للحياة إلا إذا قبلت نفسها كما هي: بلد متعدد، غني، واسع، لا يصلح لحكمه نموذج الصوت الواحد، والهوية الواحدة.
الفيدرالية، أو أي صيغة متقدمة من اللامركزية، ليست مطلباً كوردياً أو شأناً خاصاً بالأقليات، بل مصلحة وطنية عامة. إنها الضمانة الوحيدة لوحدة سوريا الحقيقية، لا المتخيلة. فالدولة العادلة لا تُبنى على الإنكار، بل على الاعتراف؛ لا على الإقصاء، بل على المشاركة؛ ولا على الهيمنة، بل على التوازن.
ومن هنا، فإن التعددية السورية لا تحتمل إلا حلاً واحداً: حلاً لا مركزياً، ديمقراطياً، يضمن الحقوق، ويؤسس لوطنٍ يليق بجميع مكوناته… دون استثناء.
ثالثاً: مركزية الدولة السورية هي أمّ الأزمات
منذ لحظة الاستقلال في عام 1946، دخلت الدولة السورية في سباق محموم لبناء نموذج الدولة الحديثة، إلا أن هذا البناء تمّ وفقاً لمنطق مركزي صارم أسّس – بشكل متدرّج ثم متسارع – لاحتكار السلطة والثروة والقرار في يد العاصمة دمشق، وفي أيدي نخب ضيّقة تدور في فلك السلطة السياسية والعسكرية. ولم تكن هذه المركزية مجرّد خيار إداري تقني يمكن تبريره ضمن مراحل التأسيس، بل تحوّلت إلى بنية مؤسسية متجذّرة، وإلى أيديولوجيا سياسية سعت إلى فرض "الوحدة" من الأعلى، عبر تقليص الفوارق، وتهميش التنوّع، واحتواء الهامش بل وقمعه عند الحاجة.
ومع انقلاب حزب البعث في 8 آذار 1963، تحوّلت المركزية من ظاهرة هيكلية إلى نظام شمولي، يقوم على دمج الدولة بالحزب، والحزب بالأمن، والأمن بالقائد. فصار كل شيء يُدار من العاصمة، ليس فقط بالمعنى الجغرافي، بل بالمعنى الرمزي والفعلي؛ إذ لم تعد دمشق مجرّد مركزٍ للقرار، بل أصبحت مركزاً للهُوية، والشرعية، والانتماء، والتعبير السياسي، والثقافي، والديني. ومن هنا بدأت جذور الأزمة البنيوية التي انفجرت لاحقاً في هيئة ثورة، ثم انزلقت إلى حرب أهلية، قبل أن تتحوّل إلى صراع دولي وإقليمي متعدد الأطراف.
- مظاهر المركزية: ثلاثية الإقصاء (الاقتصادي، السياسي، الثقافي):
- التهميش الاقتصادي: المركز يأكل الهامش:
ترجمت المركزية الإدارية نفسها إلى توزيع غير عادل للموارد والثروات. فقد خضعت مناطق غنية مثل الجزيرة السورية (الرقة، دير الزور، الحسكة) – التي تُعد عماد الاقتصاد الزراعي والنفطي – لسياسات ممنهجة من الإهمال والتجويف الاقتصادي. لم تُستثمر عائدات هذه الموارد في تنمية المناطق المنتجة، بل جرى تحويلها إلى المركز، حيث أعيد توزيعها بما يخدم مصالح السلطة وأجهزتها الأمنية.
حتى المدن الكبرى مثل حلب، رغم كثافتها السكانية وثقلها الاقتصادي، ظلت تُدار من دمشق دون أن تمتلك سلطة تقرير مصيرها الاقتصادي، أو رسم أولوياتها التنموية. وهكذا، جرى تفريغ الأطراف من وظائفها الاقتصادية، وتحويلها إلى خزانات بشرية وعسكرية ومالية تُستنزف عند الحاجة، وتُهمّش في أوقات السلم.
- القمع السياسي: الجغرافيا تُعامَل كتهديد:
لم تُعامل المطالب التنموية للمناطق المهمّشة بوصفها حقوقاً دستورية، بل وُوجهت بالاتهام والتخوين. فقد تم تجريم أي خطاب جهوي أو حراك مطلبي بوصفه تهديداً "للوحدة الوطنية"، ووصمه بالانفصال أو العمالة.
خضعت المحافظات لنظام استثناء دائم تمثّل في تعيين محافظين من المركز، وهيمنة الأجهزة الأمنية، ووجود مجالس محلية شكلية لا تمتلك صلاحيات حقيقية. وبُنيت سردية وطنية تجعل من المركز هو الوطن، ومن الهامش خطراً ينبغي احتواؤه أو ترويضه. وهكذا، تمّت مصادرة الحق في التمثيل السياسي، وفي الإدارة الذاتية، وفي التعبير السلمي والدستوري عن المطالب.
- الإقصاء الثقافي: توحيد قسري للهويات:
من أخطر تجلّيات المركزية محاولتها فرض هوية قومية أحادية في بلد متعدّد الإثنيات والثقافات واللغات. وتحت شعار "الوحدة الوطنية"، جرى حظر استخدام اللغات غير العربية في التعليم، والإعلام، والثقافة.
الكورد، الذين يُشكّلون ثاني أكبر قومية في البلاد، حُرموا من أبسط حقوقهم الثقافية، بل جُرِّد مئات الآلاف منهم من الجنسية في إطار مشروع "الحزام العربي". السريان والآشوريون، أصحاب أقدم اللغات السامية، أُقصي تراثهم الحضاري، ولم يُعترف بهم كشعوب أصلية. وكذلك الأمر بالنسبة للأرمن، والشركس، والتركمان، والإيزيديين... إذ جرى تقزيم هوياتهم لصالح سردية وطنية تقوم على التعريب والانتماء القومي العربي.
ولم تكن هذه السياسات عفوية، بل مؤسسية ومخطّط لها، حيث صدرت عبر قوانين ومناهج تعليمية وتشريعات تهدف إلى التعريب الثقافي وتذويب الخصوصيات في قالب مركزي مفروض من الأعلى.
- المركزية كسبب بنيوي للثورة والأزمة:
إن الانفجار الاجتماعي الذي شهدته البلاد عام 2011 لم يكن احتجاجاً عابراً على الاستبداد السياسي فحسب، بل كان، في جوهره، رفضاً لنموذج الدولة المركزية التي اختزلت السيادة في العاصمة، والمصلحة الوطنية في فئة محدودة، والقرار العام في يد جهاز أمني مغلق.
غياب العدالة في توزيع الموارد، وحرمان المجتمعات من المشاركة السياسية الفعلية، والإقصاء الثقافي الممنهج، كلّها عناصر كوّنت الغضب التراكمي الذي انفجر أولاً في الأطراف والريف، قبل أن يمتد إلى المدن.
واستمرار العمل بنظام مركزي بعد هذه التضحيات، يُعدّ بمثابة إعادة إنتاج للعوامل البنيوية نفسها التي فجّرت الثورة. لا يمكن الحديث عن "إصلاح" أو "مصالحة وطنية" في ظل بقاء البنية المركزية التي مثّلت القاعدة الصلبة للاستبداد، وللشرعية القمعية، ولكل أشكال التمييز والتهميش.
- البديل الدستوري: اللامركزية كمخرج سياسي وقانوني:
من منظور دستوري، فإن المركزية المفرطة تتعارض مع مبادئ الديمقراطية، والمواطنة المتساوية، والتنمية العادلة. لا يمكن لدولة تُدار من مركز واحد يحتكر التشريع والتنفيذ والثروة أن تكون ديمقراطية.
البديل المنطقي والسياسي هو الانتقال إلى نموذج لا مركزي حقيقي يقوم على توزيع السلطات بين مستويات الحكم (المحلي، الإقليمي، الوطني). وهذا يتطلّب إصلاحاً دستورياً جذرياً يعترف بحقوق المجتمعات المحلية في الإدارة الذاتية، والتعليم بلغاتها، والتنمية المتوازنة، والتمثيل السياسي المتكافئ.
الفيدرالية قد تكون أحد الحلول، شريطة ألا تكون فيدرالية شكلية تُفرض من فوق، بل نابعة من توافقات اجتماعية وتاريخية، تُبنى على مبدأ الشراكة، والمساواة في الحقوق والواجبات.
خاتمة: تفكيك المركزية شرط لبقاء الدولة:
إن الإصرار على إعادة إنتاج المركزية، حتى إن غيّرت شكلها، هو مسار انتحاري يقود إلى مزيد من الانفجار والانقسام. الدولة السورية، إذا أرادت أن تبقى موحّدة، لا بدّ لها أن تتحول من دولة تقوم على "الوحدة القسرية"، إلى دولة تقوم على "الشراكة الاختيارية"؛ من دولة القرار الواحد، إلى دولة التعدد الديمقراطي؛ من دولة الإقصاء، إلى دولة الاعتراف والتمثيل.
المركزية لم تعد فقط خياراً إدارياً خاطئاً، بل باتت خطراً وجودياً على وحدة البلاد وسلامها الأهلي. لا إصلاح بلا لا مركزية، ولا عدالة بلا اعتراف، ولا وطن بلا شراكة حقيقية في السلطة والثروة والهُوية.
رابعاً: الفيدرالية وسيلة لتوزيع السلطة والثروة – نحو عقد اجتماعي جديد يُعيد إنتاج الدولة من الأسفل:
في ظل الأزمات البنيوية التي تعصف بالدولة السورية، تبرز الفيدرالية لا بوصفها خياراً إدارياً تقنياً فحسب، بل باعتبارها إطاراً دستورياً وسياسياً عميقاً لإعادة بناء الدولة على أسس التعدد، والعدالة، والتشاركية. لقد أثبتت التجربة التاريخية السورية أن النموذج المركزي، الذي احتكر السلطة والثروة في يد نخبة ضيقة في العاصمة، لم يؤدِ إلى الاستقرار، بل كان أحد أسباب الانفجار. وعليه، فإن إعادة النظر في شكل الدولة ومضمونها لم تعد ترفاً فكرياً، بل غدت شرطاً وجودياً لبقاء الدولة ووحدتها وسلامها الأهلي.
- الفيدرالية: الإطار الدستوري لتوزيع السلطة:
الفيدرالية هي نظام دستوري يقوم على توزيع السلطات بين الحكومة المركزية والكيانات الإقليمية أو المحلية، وفق مبدأ الاستقلال التشريعي والتنفيذي المتبادل، بما يضمن توازن الصلاحيات وتعدد مراكز القرار، من دون المساس بوحدة الدولة وسيادتها. وفي هذا الإطار، تتيح الفيدرالية:
- تفويضاً حقيقياً للسلطات المحلية في مجالات التعليم، والثقافة، والإدارة، والاقتصاد، والخدمات، بحيث تتمكن كل منطقة من اتخاذ قراراتها وفقاً لأولوياتها وخصوصياتها.
- توزيعاً ديمقراطياً للسلطة يَحول دون تمركز القرار السياسي في المركز، ويقلل من مخاطر الاستبداد، ويفتح المجال أمام مشاركة واسعة للفاعلين المحليين والمجتمعيين.
ومن الناحية الدستورية، تستوجب الفيدرالية تعديلات جوهرية على البنية القانونية للدولة، يُعاد من خلالها تعريف السيادة على أنها سيادة مشتركة متعددة المستويات، تشمل الدولة المركزية والكيانات الإقليمية في آنٍ واحد. ويتطلب ذلك صياغة دستور جديد قائم على عقد اجتماعي متكافئ بين جميع المكونات، لا على الغلبة والهيمنة.
- الفيدرالية كآلية لتحقيق عدالة توزيع الثروة:
من أبرز الأزمات البنيوية في الدولة السورية ما يمكن تسميته بـ"الاختلال في توزيع الثروات"، حيث احتكرت السلطة المركزية العوائد الاقتصادية، وأعادت توجيهها بما يخدم مصالحها السياسية والأمنية، على حساب التنمية المتوازنة. الفيدرالية، في هذا السياق، ليست مجرد وسيلة لإدارة التعدد، بل هي أداة لتحقيق العدالة الاقتصادية، وذلك من خلال:
- الاعتراف بالحق الإقليمي في الثروة المحلية، بحيث تُستخدم العوائد النفطية والزراعية والصناعية أولاً لخدمة المجتمعات التي تنتجها.
- إنشاء صناديق تنموية محلية وإقليمية تُدار بشفافية، وتخضع لرقابة شعبية ومؤسساتية، ما يحدّ من الفساد الناتج عن مركزية القرار الاقتصادي.
- تحفيز الاقتصاد المحلي، عبر تمكين السلطات الإقليمية من التشريع والتنظيم الضريبي بما يتناسب مع احتياجاتها، ويعزز الإنتاج وفرص العمل.
وبذلك يتحول الاقتصاد من أداة هيمنة مركزية إلى رافعة للعدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة.
- الفيدرالية كضمانة للتمثيل والمساءلة:
في الدولة المركزية، تكون السلطة معزولة عن المجتمع، ما يجعل آليات المحاسبة ضعيفة وهشة. أما الفيدرالية فتمكّن من:
- إقامة هياكل حكم محلي ديمقراطية، منتخبة وقريبة من المواطنين، تستجيب لاحتياجاتهم بشكل مباشر.
- تعزيز الرقابة والمساءلة الشعبية، من خلال مجالس تشريعية إقليمية مستقلة تمتلك صلاحيات حقيقية، وتخضع لمساءلة دورية.
- الحد من الفساد البنيوي الناجم عن تركّز القرار في يد نخب ضيقة، غير خاضعة للمحاسبة.
الفيدرالية، بهذا المعنى، لا تقطع العلاقة بين المواطن والدولة، بل تعيد تشكيلها على أساس القرب والمشاركة الفعلية، ما يعزز شرعية الدولة وثقة المواطنين بها.
- الفيدرالية والتوازن بين المركز والأطراف:
من أبرز إشكاليات التاريخ السياسي السوري، العلاقة المختلة بين المركز والهامش. إذ لطالما نُظر إلى الأطراف بوصفها تهديداً أمنياً، لا شريكاً سياسياً. أما الفيدرالية فتعيد الاعتبار للأطراف من خلال:
- تحقيق توازن عمودي بين المركز والكيانات الإقليمية، بحيث يُعاد توزيع الوظائف السيادية (الدفاع، السياسة الخارجية، النقد) مع ضمان استقلال في السياسات المحلية.
- منع عودة الاستبداد من خلال كسر احتكار القرار، وتعدد مراكز القوة القانونية، بما يعطّل قدرة أي طرف على الانفراد بالحكم.
- إعادة بناء هوية وطنية متعددة، تعترف بجميع المكونات اللغوية والثقافية والدينية، وتدمجها ضمن إطار وطني لا يقوم على الإلغاء، بل على الشراكة الفعلية.
- نحو فيدرالية سورية: الشروط القانونية والسياسية:
الانتقال إلى النظام الفيدرالي في سوريا لا يمكن أن يكون قراراً نخبوياً أو شكلياً، بل يجب أن يستند إلى قواعد قانونية وسياسية واضحة، من بينها:
- صياغة دستور ديمقراطي جديد يعترف بالتعدد القومي والثقافي، ويضمن الحقوق السياسية والمدنية، ويُحدّد آليات توزيع الصلاحيات والثروات.
- إطلاق حوار وطني شامل يجمع كل المكونات (عرب، كورد، سريان، تركمان، آشوريين وغيرهم) لصياغة عقد اجتماعي جديد قائم على التعدد والتكافؤ.
- إعادة هيكلة مؤسسات الدولة على أسس لا مركزية، تشمل القضاء، والشرطة، والتعليم، والموارد الطبيعية.
- الحصول على ضمانات دولية وإقليمية تُؤمّن احترام النموذج الفيدرالي، وتحميه من محاولات الإجهاض أو التراجع.
- الفيدرالية لا تعني التقسيم:
في مواجهة الخطابات التخويفية، ينبغي التأكيد على أن الفيدرالية لا تعني الانفصال، ولا تمزيق الوطن، بل تعني إعادة تنظيم الدولة على أساس العدالة والتعدد والتوازن. فالكثير من الدول الديمقراطية الموحدة مثل ألمانيا، وسويسرا، وكندا، والهند تتبنى أنظمة فيدرالية، وتستمد استقرارها وقوتها من هذا النموذج.
الفيدرالية لا تُضعف الدولة، بل تحصّنها ضد التفكك والانقسام؛ ولا تفتّت المجتمع، بل تُمكّنه من التعبير عن تنوعه داخل بنية دستورية واحدة.
خاتمة: الفيدرالية شرط لتأسيس سوريا جديدة:
سوريا الجديدة التي ننشدها لا يمكن أن تُبنى على ركام الدولة المركزية القديمة، بل على أساس ديمقراطي لا مركزي يُعيد صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع، والسلطة والمواطن، والمركز والهامش. الفيدرالية، بهذا المعنى، ليست مطلباً مناطقياً ضيقاً، بل مشروع وطني شامل، يسترد للشعب السوري حقه في أن يكون فاعلاً حرّاً ومتساوياً داخل وطن متعدد ومنفتح.
وإذا كانت المركزية قد صادرت الدولة لعقود، فإن الفيدرالية هي التي تعيدها لأصحابها الحقيقيين: الشعب بكل أطيافه.
خامساً: الفيدرالية لا تُلغي المركز، بل تُعيد تعريفه – نحو مركزٍ تشاركيٍّ ينبثق من الإرادة الجمعية لا من احتكار القرار
من بين أكثر المفاهيم التي تعرّضت للتشويه، عمداً أو جهلاً، في الخطاب السياسي العربي عموماً، والسوري خصوصاً، يبرز مفهوم الفيدرالية. إذ يُقدَّم في كثير من الأحيان باعتباره نقيضاً للدولة المركزية، أو تهديداً لوحدة الدولة الترابية، أو تمهيداً لتفككها إلى كيانات طائفية أو إثنية متنازعة. غير أن هذا الطرح يُخفي قصوراً مفاهيمياً عميقاً، ويفتقر إلى الفهم الدقيق للفيدرالية بوصفها نموذجاً سياسياً ودستورياً لإعادة بناء المركز، لا لتفكيكه؛ ولإعادة تعريف السيادة، لا لإلغائها؛ ولتأسيس دولة جامعة لا دولة قسرية.
في هذا السياق، لا تُفهم الفيدرالية كتنازل عن "المركز"، بل كتحرير لهذا المركز من هيمنة نخبة، أو إقليم، أو طائفة، وإعادة تشكيله ليغدو مركزاً تشاركياً ديمقراطياً ينبثق من مختلف المكوّنات، ويعبّر عن المصلحة الوطنية الجمعية لا عن المصالح الفئوية الضيقة.
1- من "مركز الهيمنة" إلى "مركز التوافق" – المقارنة المفاهيمية:
في الدولة المركزية التقليدية، يقوم "المركز" بوظيفة الإشراف والتحكم المطلق، إذ يُعدّ مصدر السلطات كافة، ومجال السيادة الحصري، ومصدر التشريع والقرار. وهذا ما يؤدي غالباً إلى هيمنة نخب ضيقة على جهاز الدولة، وتحويل السلطة إلى كيان فوقي مفصول عن الشعب.
أما في الدولة الفيدرالية، فإن "المركز" لا يُلغى، بل يُعاد تعريفه بوصفه مركزاً اتحادياً، يضم ممثلين عن الكيانات الإقليمية، ويُبنى على مبدأ التوافق لا الغلبة، وعلى الشراكة لا الإلحاق. وبهذا، تنتقل الدولة من شكلها "الهرمي المغلق" إلى نموذج "الدائرة المفتوحة"، حيث تتوزع السيادة على مستويات متعددة، ويُعاد تنظيم العلاقة بين الدولة ومكوناتها بوصفها عقداً اجتماعياً مرناً ومتوازناً.
2- وظائف المركز في الدولة الفيدرالية – السيادة بوصفها وظيفة تشاركية:
لا تعني الفيدرالية أن تتخلى الدولة عن مركزها، بل أن تعيد تعريف وظائف هذا المركز ضمن حدود دستورية واضحة ومحددة. وفي هذا النموذج، تحتفظ الحكومة الاتحادية (المركزية) بمجموعة من الصلاحيات السيادية العليا، تُمارس باسم جميع المواطنين وبالاتفاق معهم، وأبرزها:
- السياسة الخارجية: تمثيل الدولة في المحافل الدولية، وإدارة العلاقات الدبلوماسية والمعاهدات، على أساس استشارة المكونات الإقليمية، خصوصاً في القضايا التي تمس مصالحها الحيوية.
- الدفاع الوطني: إدارة القوات المسلحة بوصفها قوة اتحادية موحدة، مع إمكانية وجود قوات أمن إقليمية تحت إشراف مشترك وفق آليات محددة.
- العملة والسياسة النقدية: إصدار العملة الاتحادية، وتحديد السياسات النقدية والمالية العامة، مع ضمان عدالة التوزيع المالي بين الأقاليم وفق معايير تنموية منصفة.
- المواطنة العامة والمعايير الاتحادية الموحدة: مثل الحريات الأساسية، والمعايير التعليمية، وحقوق الإنسان، مع حق الأقاليم في تطوير تشريعاتها بما لا يتعارض مع المبادئ العامة للدستور الاتحادي.
وهكذا، لا يعود المركز سلطة فوقية مفروضة، بل يصبح هيئة اتحادية جامعة، تُدار من قِبل الجميع ولأجل الجميع.
3- شكل المركز الجديد – من البيروقراطية إلى التمثيل الاتحادي:
من أبرز ملامح المركز المعاد تعريفه في النظام الفيدرالي:
- برلمان اتحادي بغرفتين: الأولى تمثل الشعب على أساس عدد السكان، والثانية تمثل الأقاليم بشكل متساوٍ أو متوازن، لضمان منع استئثار المناطق ذات الكثافة السكانية العالية بالقرار الوطني.
- محكمة دستورية اتحادية عليا: تُعنى بفض النزاعات بين المركز والأقاليم، ومراقبة التوازن بين السلطات، وضمان التزام الجميع بالدستور.
- حكومة اتحادية منتخبة تمثل الجميع: تخضع للمساءلة البرلمانية، ويُراعى في تشكيلها التنوع القومي والديني واللغوي للمجتمع.
- مجلس اتحادي للأقاليم: هيئة تشاورية تنفيذية تضم ممثلي الحكومات الإقليمية، تتولى تنسيق السياسات الاتحادية وصياغتها بالتوافق.
4- العلاقة بين المركز والأقاليم – توازن لا تبعية:
في النظام الفيدرالي، لا تكون الأقاليم وحدات إدارية تابعة، بل شركاء حقيقيين في صنع القرار الوطني. وتُبنى العلاقة بين المركز والأقاليم على الأسس الآتية:
- توزيع الصلاحيات دستورياً: حيث تُحدَّد بوضوح اختصاصات كل مستوى من مستويات الحكم، ويُمنع المركز من تجاوز صلاحياته إلا وفق حالات طارئة وشروط دقيقة.
- تمويل عادل وتشاركي: تحدد مساهمات الأقاليم في الميزانية العامة وفق معايير الإنصاف، ويُعاد توزيع الموارد على نحو يراعي العدالة التصحيحية والتنمية المتوازنة.
- التمثيل الفعّال للأقاليم: تمتلك الأقاليم أدوات مؤسساتية حقيقية للتأثير في القرارات الاتحادية، بما يتجاوز الطابع الاستشاري الرمزي.
5- فيدرالية سوريا – إعادة تأسيس المركز من الأطراف:
في السياق السوري، لا يمكن الحديث عن إعادة تعريف المركز دون الإقرار بضرورة تفكيك بنية الدولة الأمنية المركزية التي هيمنت لعقود، وبناء مركز سياسي جديد ينبع من الإرادة الجمعية للشعب السوري بكل مكوناته.
- من دمشق المُحتكَرة إلى دمشق المُشترَكة: ينبغي أن تتحول العاصمة من مركز يُدار منه الجميع، إلى مركز يُدار بالجميع. فدمشق لا يجب أن تبقى رمزاً لاحتكار السلطة، بل يمكنها أن تكون عاصمة اتحادية تحتضن التنوع السوري، وتعكسه في مؤسساتها السياسية والثقافية.
- المركز ضامناً لا وصياً: في دولة فيدرالية ديمقراطية، تكون وظيفة المركز ضمان وحدة البلاد وصيانة التعدد، لا فرض التجانس والإقصاء. ويتجلى دوره في توفير الإطار المشترك، لا في استغلاله لتكريس الهيمنة.
- السيادة متعددة المستويات: لم تعد السيادة تعني احتكار القرار في قمة الهرم، بل المشاركة في صنعه على مستويات متعددة. وهذا ما يتيح توسيع قاعدة الشرعية، وتعزيز التوازن بين المركز والهامش، وبين القومية والخصوصية، وبين الدولة والمجتمع.
خاتمة: نحو مركز يُبنى من القاعدة لا من فوقها
إنّ المركز في النظام الفيدرالي ليس بنية جامدة فوقية، بل كيانٌ ديناميكيّ ينبثق من الإرادة الشعبية، ويتشكّل باستمرار بالتوافق والديمقراطية. إنه مركز يضمن وحدة الدولة لا عبر العنف أو الاحتكار، بل عبر الشراكة، والتمثيل، والمساءلة.
في سوريا المستقبل، لن يكون هناك مركز واحد فوق الجميع، بل مركز مشترك يمثل الجميع. وهذا ليس تهديداً للدولة، بل شرط لبقائها وعدالتها وتجددها. فالدولة القوية ليست تلك التي تحتكر السلطة، بل تلك التي تنظّمها، وتوزعها، وتخضعها للرقابة الديمقراطية.
بهذا المعنى، الفيدرالية ليست مشروع تفكيك، بل صيغة متقدمة لإعادة بناء الوحدة الوطنية على أسس جديدة:
- وحدة بالإرادة لا بالإكراه،
- وحدة بالتنوع لا بالتذويب،
- وحدة بالمشاركة لا بالوصاية.
وفي ذلك وحده، تكمن الفرصة التاريخية لسوريا للعبور من الانهيار إلى التأسيس.
سادساً: الفيدرالية تُنقذ الهوية السورية من التآكل – نحو عقد وطني جامع يُنهي الإنكار ويؤسس للاعتراف
لم تكن الهوية السورية يوماً مسألة محسومة أو مُعرّفة بشكل توافقي بين مكوّنات الشعب السوري، بل كانت – منذ تأسيس الكيان السوري الحديث عقب الانتداب الفرنسي – محلّ صراع دائم بين نزعات الاندماج القسري ونزعات التفكك القهري. فقد رُسمت حدود الدولة السورية الحديثة دون توافق داخلي حقيقي بين شعوبها المتنوعة، بينما عمدت السلطة المركزية، منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى اليوم، إلى فرض هوية وطنية أحادية، عربية غالباً، على حساب التعدد القومي والديني واللغوي الذي يميز النسيج السوري.
هذا ما أدى إلى نشوء تناقض عميق بين "الهوية الرسمية المفروضة" و"الهويات المجتمعية الواقعية"، الأمر الذي أسفر، في ظل التهميش والقمع، عن انبعاث الهويات الجزئية كبدائل دفاعية عن الذات المهمّشة والمنكورة.
ومع اندلاع الثورة السورية، وما تبعها من حرب مدمّرة، تكشّفت هشاشة "الهوية الوطنية" كما صاغتها الدولة، وتفجّرت الهويات القومية والطائفية والمناطقية في سياق من الانفجار الاجتماعي والسياسي، مهددة وحدة البلاد وبنية الدولة ذاتها.
غير أن الحل لا يكمن، كما يدّعي البعض، في استعادة المركزية القسرية أو في محو الهويات المتمايزة، بل في إعادة تأسيس الهوية الوطنية على أسس أكثر عدالة واعترافاً وتعدداً. وهنا تبرز الفيدرالية ليس بوصفها تهديداً لهذه الهوية، بل كإطار دستوري وسياسي يُعيد تعريفها، ويُنقذها من التآكل عبر الاعتراف بتعدديتها البنيوية.
1- الهوية الوطنية ليست نفياً للهويات الجزئية، بل حاضناً لها:
الخلل البنيوي في تصور الهوية السورية يكمن في الاعتقاد السائد لدى النظام السياسي بأن الهوية الوطنية لا تكتمل إلا بإنكار الهويات الفرعية (القومية، الدينية، اللغوية، والثقافية). هذا التصور مستمد من نموذج الدولة القومية الأوروبية الكلاسيكية، الذي تم استنساخه إلى المشرق العربي بصورة مشوّهة، متجاهلاً أن سوريا لم تكن يوماً دولة قومية متجانسة، بل كانت ولا تزال فضاءً حضارياً متنوعاً، تعايشت فيه الطوائف والقوميات ضمن أنماط معقدة ومتشابكة.
وفي حين يدّعي بعض الاتجاهات القومية أن الاعتراف بالهويات الجزئية يُهدد "وحدة الأمة"، تُبيّن التجربة السورية – كما تجارب العراق ولبنان – أن القمع هو ما يُفتّت الهوية الوطنية، لا التنوع. فالهويات تُبنى بالاعتراف لا بالإنكار، وبالشراكة لا بالإقصاء.
من هنا، تطرح الفيدرالية نموذجاً قانونياً عملياً يربط بين الانتماءات المحلية أو القومية وبين الانتماء الوطني، دون أن يجعل أحدها نقيضاً للآخر.
2- الفيدرالية كإطار دستوري لتعدد الهويات ضمن وحدة سياسية:
خلافاً للتصوّرات السائدة، لا تعني الفيدرالية تفكيك الدولة أو تقويض السيادة، بل هي نظام دستوري يُتيح تقاسم السلطة على مستويات متعددة، ضمن وحدة سياسية عليا تتمثل في الدولة الاتحادية. يتيح هذا النموذج لكل مكوّن التعبير عن هويته الخاصة في إطار وطني جامع، ويؤسس لشرعية جديدة قائمة على "الاعتراف المتبادل" لا على "الإخضاع القسري".
وفي هذا السياق، فإن الاعتراف الدستوري بالهويات القومية والدينية واللغوية (الكوردية، الآشورية، الإيزيدية، الدرزية، الشركسية، وغيرها) لا يُشكل تهديداً للعقد الوطني، بل يُغنيه ويُعزّزه. وتُصبح هذه الهويات مصدر إثراء للهوية السورية الجامعة، لا أداة لتفكيكها.
تُوفّر الفيدرالية مؤسسات إقليمية تعكس الخصوصيات الثقافية والاجتماعية واللغوية لكل إقليم، مع البقاء ضمن الإطار الوطني العام. فهي تضمن أن يكون المواطن سورياً وكوردياً، أو آشورياً وسورياً، أو درزياً وسورياً، دون تناقض، لأن العلاقة بين الهويتين لم تعد علاقة استعلاء أو نفي، بل علاقة تداخل وتكامل.
3- حماية الهوية الوطنية من التآكل عبر التمثيل العادل والتنوع المؤسسي:
أدى الإنكار المزمن للهوية الكوردية، وتهميش اللغة والثقافة الآشورية، وتغييب التاريخ الإيزيدي، إلى اغتراب قطاعات واسعة من المواطنين عن "الهوية الوطنية الرسمية"، التي ظهرت بوصفها مشروعاً فوقيّاً ذي طابع أيديولوجي أقصائي.
أما في النظام الفيدرالي، فإن مؤسسات الدولة تُعاد هيكلتها بما يعكس هذا التنوع، لتصبح حاضنةً للهويات بدل أن تكون أداة لفرض هوية واحدة. ويتجسد ذلك من خلال:
- تمثيل سياسي عادل في البرلمان الاتحادي، يراعي التنوع الديموغرافي والثقافي.
- اعتراف دستوري باللغات الرسمية المتعددة، بحيث تُعتمد اللغة الكوردية أو الآشورية مثلاً كلغة رسمية في أقاليمها.
- نظام تعليمي متعدد، يسمح بتدريس التاريخ والثقافة المحلية إلى جانب المواد الوطنية العامة.
- ضمانات دستورية للحريات الدينية والفكرية، تحمي المعتقدات والمذاهب من التمييز أو الإقصاء.
إن هذا التعدد المؤسسي لا يشتّت الهوية، بل يُرسّخها، لأنه يُشعر كل مكوّن بأن الدولة تعترف بخصوصيته وتُشركه في صياغة المصير الوطني المشترك.
4- الفيدرالية كأداة لتجاوز الانتماءات الانكفائية:
حين يُنكر المواطن الكوردي أو الآشوري أو الدرزي أو العلوي حقوقه الثقافية والسياسية، ينكفئ إلى جماعته بحثاً عن الاعتراف والحماية. وهو ما يُنتج الهويات المغلقة، والصراعات الطائفية، والانقسامات الاجتماعية.
لكن في ظل النظام الفيدرالي، لا تُشكّل الهوية الجزئية تهديداً للوطن، بل جزءاً من نسيجه. إذ تُنزع عن هذه الهويات صفة "الدفاع عن النفس"، وتُمنح شرعية دستورية، تجعل منها عناصر مكونة للوطن لا متعارضة معه.
وبذلك، تنتقل الهويات من أدوات للاحتجاج والانقسام إلى مكوّنات ثقافية مُعترف بها، ومُدمجة في بنية الدولة.
5- الهوية السورية الجديدة – هوية التعدد المعترف به:
ما تحتاجه سوريا ليس هوية تُذيب الفروقات، بل هوية تعترف بها وتبني عليها. وهو ما توفره الفيدرالية: هوية وطنية لا تقوم على قومية أو طائفة واحدة، بل على عقد دستوري قائم على المساواة، والمواطنة، والشراكة في الحكم.
ليست هذه الهوية قومية أحادية، ولا إثنية منعزلة، بل هوية دستورية تعددية، تتجلى في المؤسسات، وتنعكس في السياسات العامة، وتُؤسس لانتماء حقيقي لجميع المواطنين دون تمييز.
هذه هي "هوية التعددية المندمجة" أو "الوحدة في التنوع"، حيث لا يستدعي الاعتراف تفكيك الدولة، بل يقوّيها من خلال الندية والمساواة.
خاتمة: الفيدرالية كرافعة وطنية للهوية لا أداة لتفكيكها
الفيدرالية لا تُفكّك الهوية السورية كما يروّج خصومها، بل تُشكّل الإطار السياسي والقانوني الوحيد القادر على إنقاذها من الذوبان والانقراض. فهي تُنهي عقوداً من الإنكار، وتُحوّل الانتماءات الجزئية من أدوات صراع إلى روافد وطنية تُثري المشترك السوري.
وبدل العودة إلى مركزية استبدادية أثبتت فشلها، فإن مستقبل سوريا يكمن في تبني فيدرالية ديمقراطية تُعيد تشكيل المركز انطلاقاً من الأطراف، وتُعيد تعريف الهوية الوطنية على أساس التعدد، لا الإقصاء.
بهذا فقط، يمكن لسوريا أن تبني دولة وطنية جامعة – لا بالإكراه، بل بالاعتراف. لا بالوصاية، بل بالشراكة. لا بالإنكار، بل بالتمثيل. وفي هذا التوازن، تتأسس هوية وطنية سورية جديدة، راسخة، مزدهرة، تتسع للجميع دون استثناء.
سابعاً: الفيدرالية ضمانة لوحدة ما بعد الحرب – من النزاع الأهلي إلى شراكة سياسية دستورية:
في خضم الخراب السوري الممتد منذ عام 2011، لم تعد معضلة البلاد تقتصر على الصراع المسلح أو التناحر السياسي، بل باتت أزمة بنيوية تمس طبيعة الدولة ذاتها، وشكل الحكم، وهوية الانتماء. وبعد أكثر من عقد من التمزق، وتعاقب سلطات الأمر الواقع، وتداخل الصراعات المحلية مع الإقليمية والدولية، تلوح لحظة "ما بعد الحرب" ليس كبداية تعافٍ تلقائية، بل كلحظة حاسمة تتطلب هندسة جديدة للشرعية والسيادة، تُراعي الحقائق المتغيرة على الأرض، وتمنع إعادة إنتاج أسباب الانفجار.
إن تصور سوريا ما بعد الحرب بوصفها دولة مركزية على النموذج القديم – النموذج الذي يهيمن فيه المركز على الأطراف وتُقصى فيه المكونات لصالح هوية أحادية – ليس إلا وصفةً لصراع جديد. فالهويات التي سالت دماء لأجلها، والقوى التي بنت شرعيات محلية في ظل غياب المركز، لن تقبل بالعودة إلى ما قبل الثورة، ولا إلى مركزية استبدادية تفرض سلطتها عبر القسر لا التوافق.
في هذا السياق، تطرح الفيدرالية نفسها لا كترف نظري، ولا كخيارٍ مرحلي، بل كضرورة سياسية وقانونية لضمان وحدة الدولة السورية؛ لا على قاعدة الإذعان، بل على قاعدة الشراكة. فهي الإطار الوحيد القادر على استيعاب التعدد الهويّاتي والجغرافي والسياسي، وتحويله من ساحة نزاع إلى بنية حكم.
1- الفيدرالية لا تُقسّم سوريا، بل تُحصّن وحدتها من الداخل:
يتردّد في الخطاب الرسمي السابق والحالي لبعض الأطراف أن الفيدرالية تمهّد لتقسيم البلاد، وكأن الوحدة لا تُصان إلا عبر المركزية. غير أن التجربة السورية أثبتت عكس ذلك تماماً: فكلما اشتدّت المركزية، زادت المسافة بين الدولة والمجتمع، وتحوّلت الهوية الرسمية إلى أداة قمع بدل أن تكون أفق انتماء. أما الفيدرالية، فتعني الاعتراف بالواقع التعددي، وترجمته في بنية دستورية تتيح تقاسم السلطة، والتمثيل العادل، والاعتراف المتبادل.
الفيدرالية لا تشرعن الانقسام، بل تُنظّم التعدد. لا تُؤسّس للانفصال، بل تخلق آليات دستورية لاحتوائه. وهي – خلافاً للتخوفات المبالغ فيها – ليست "كونفدرالية انفصالية"، بل نظام اتحادي يُبقي على وحدة السيادة الخارجية، ويُعيد توزيع الصلاحيات داخلياً بما يحقق التوازن، والعدالة، والفعالية.
لقد أثبتت تجارب دول عانت من الحروب الأهلية أو الانقسامات الحادة – كألمانيا بعد الحرب العالمية، أو العراق بعد 2003، أو البوسنة بعد اتفاق دايتون – أن الفيدرالية لم تكن حلاً مؤقتاً، بل كانت الإطار الدائم القادر على إدارة التعدد دون اللجوء إلى الحرب.
2- الفيدرالية كإطار دستوري لتطبيع التعدد السياسي والقانوني:
من أبرز تداعيات الحرب السورية نشوء سلطات أمر واقع متعددة:
- قوات سوريا الديمقراطية التي تدير شمال شرق البلاد ضمن نموذج حكم شبه ذاتي قائم على الإدارة الذاتية.
- المعارضة المسلحة التي تحتفظ بمناطق نفوذ مدعومة تركياً، وتُقيم فيها بنى حكم محلية.
- السلطة الجديدة الإسلاموية تسيطر على المركز وبعض المحافظات، لكنه فقد احتكار السيادة.
- جماعات متطرفة سابقة (مثل داعش) التي فرضت واقعاً فوضوياً مؤقتاً، وكشفت هشاشة المركز.
- الوجود العسكري الأجنبي (الأمريكي، الروسي سابقاً، الإيراني سابقاً، التركي)، الذي يدير مناطق النفوذ وفق توازنات مصالح متشابكة.
إن محاولة إعادة تركيب هذه التعددية ضمن قالب مركزي صارم تتجاهل الواقع، بل وتدفع نحوه إلى الانفجار مجدداً. أما الفيدرالية، فتسمح بإعادة تنظيم هذا التعدد داخل الشرعية الوطنية، وتحويل هذه السلطات المحلية إلى وحدات دستورية (أقاليم أو إدارات) تخضع لدستور جامع، وسلطة اتحادية عليا.
بهذا، تصبح الفيدرالية أداة لتطبيع التعدد السياسي، لا لتقويضه. وتتحول التشكيلات العسكرية والسياسية إلى أطراف ضمن نظام دستوري لا جبهات حرب مستدامة.
3- الفيدرالية كعقد اجتماعي جديد يُنهي الحرب الباردة بين المكونات:
منذ بدايات الثورة، اندلعت "حرب باردة" بين المكونات السورية: العرب والكورد، السنة والعلويين، الآشوريين والمسلمين، العرب السنة والدروز، المعارضة والنظام... إلخ. لم تكن هذه الحرب دائماً عسكرية، لكنها كانت قائمة على التنازع في شرعية الانتماء، وتقاطعات المخاوف الوجودية، والتهميش المتبادل.
لقد فشلت السلطة المركزية، سواء في عهد البعث أو بعده، في بناء عقد اجتماعي يُشعر جميع المكونات بالانتماء المتكافئ. وكانت النتيجة: انكفاء إلى الهويات الضيقة، وازدهار مشاريع الخلاص الطائفي أو القومي، وتحول الدولة إلى أداة بيد مكون ضد آخر.
في المقابل، تتيح الفيدرالية فرصة تاريخية لنسج عقد اجتماعي جديد، لا يقوم على "الإجماع القسري"، بل على "الاعتراف التعددي". أي أن المكونات المختلفة، وهي تعيد تأسيس الدولة، تفعل ذلك بوصفها شركاء في الوطن، لا رعايا لدى المركز. وهذا لا يعني محاصصة طائفية، بل تمثيلاً عادلاً يحترم الكثافة السكانية، والخصوصية الثقافية، والتوزيع الجغرافي والتاريخي للمكونات.
4- الفيدرالية كأداة لحفظ الأمن والاستقرار المؤسسي:
بعد أي حرب، تكون الدولة في حالة ضعف: مؤسسات مفككة، مجتمعات مجروحة، ذاكرة مثقلة بالدم. وفي هذه اللحظة بالذات، تبرز الحاجة إلى نظام لا يفرض سلطته بالقوة، بل يُقنع المكونات بالمشاركة والانخراط.
الفيدرالية، بوصفها نظاماً مؤسسياً تعددياً، تعيد توزيع الصلاحيات والموارد والتمثيل، وتؤسس لبنى أمنية مشتركة، من خلال:
- قوات أمن محلية تتبع حكومات الأقاليم، وتخضع لرقابة اتحادية، وتتكامل مع الجيش الوطني، بدل أن تكون أدوات قمع داخلي.
- سلطات قضائية مستقلة على المستويين المحلي والاتحادي، تمنع احتكار القانون وتكرّس المساواة.
- نظام انتخابي متعدد المستويات يضمن تداول السلطة عبر صناديق الاقتراع لا صناديق الذخيرة.
هكذا، يتعزز الولاء للنظام السياسي الجديد، وتتحوّل الانتماءات المحلية من أدوات تمرّد إلى عناصر توازن واستقرار.
5- من الخصومة إلى الشراكة – الفيدرالية كسياق للعدالة الانتقالية:
لن يكون هناك سلام دائم في سوريا دون عدالة انتقالية: محاسبة الجرائم، جبر الضرر، إعادة بناء الثقة. لكن لا يمكن تحقيق هذه العدالة ضمن نظام مركزي يهيمن عليه طرف واحد ويُملي شروطه على الآخرين.
الفيدرالية تتيح لكل مكون أن يكون طرفاً في رسم ملامح العدالة الانتقالية، والمشاركة في مؤسساتها – من لجان الحقيقة والمصالحة، إلى المحاكم المختصة، إلى برامج إعادة الإدماج – بوصفه جزءاً من الوطن لا ضحية مُدارة.
وبذلك تتحوّل الفيدرالية من مجرد هندسة سياسية، إلى إطار نفسي واجتماعي لتضميد الجراح، ومعالجة الذاكرة الجماعية، وبناء مستقبل مشترك.
خاتمة: نحو فيدرالية ديمقراطية تُنقذ الدولة من نفسها
إن ما هو على المحك اليوم ليس فقط شكل الحكم، بل وجود الدولة ذاتها. فإما أن تُعاد صياغتها من خلال عقد فيدرالي ديمقراطي يُعطي لكل مكون حقه في التمثيل والحكم، أو أن تبقى سوريا ساحة نزاعات متكررة، وحروب باردة لا تنتهي.
الفيدرالية ليست نهاية الوطن، بل بدايته الثانية. ليست تهديداً لوحدة سوريا، بل طوق نجاتها الأخير. وهي ليست منحة من طرف لآخر، بل صيغة سياسية دستورية جديدة تقوم على التوازن والاحترام المتبادل، وتضمن للجميع: السيادة، العدالة، والكرامة.
وفي ضوء ذلك، يمكن القول بوضوح: إن الفيدرالية هي الضامن الوحيد لوحدة سوريا ما بعد الحرب، لأنها لا توحّد الخرائط فقط، بل توحّد الإرادات.
ثامناً: هل سوريا جاهزة للفيدرالية؟ من واقع التفكك إلى ضرورة التأسيس لنظام دستوري اتحادي:
يُطرح سؤال "هل سوريا جاهزة للفيدرالية؟" بوصفه إشكالية سياسية وقانونية في سياق ما بعد الحرب، لكن خلف هذا التساؤل تكمن شبكة من المخاوف والممانعات الأيديولوجية، أكثر مما يعكس تشخيصاً واقعياً لطبيعة اللحظة السورية. فالمسألة لا تتعلق بمدى "جاهزية" سوريا للفيدرالية، بل بمدى امتلاكها لبديل واقعي عنها. وهنا، تبرز الفيدرالية لا كخيار ترفي أو مشروع مفروض من الخارج، بل كضرورة تاريخية لإعادة إنتاج الشرعية، وتثبيت السلم الأهلي، وإعادة تأسيس الدولة وفق قواعد تعكس الواقع بدلاً من إنكاره.
1- الجاهزية ليست شرطاً بل نتيجة:
في التجارب المقارنة، لم تكن الفيدرالية وليدة مجتمعات متجانسة أو دول مستقرة؛ بل نشأت غالباً في قلب الأزمات والصراعات العميقة. فقد تأسست ألمانيا الاتحادية بعد انقسام كارثي، ودخل العراق الفيدرالية بعد الاحتلال وانهيار السيادة، ولم تعرف البوسنة والهرسك الفيدرالية إلا بعد حرب إبادة عرقية وانهيار مؤسسات الدولة. وعليه، فإن "الجاهزية" ليست شرطاً قبلياً لقيام الفيدرالية، بل هي نتيجة تُبنى تدريجياً من خلال بناء المؤسسات، وتوزيع الصلاحيات، وتثبيت التوافقات السياسية والقانونية ضمن إطار دستوري جامع.
2- التفكك كواقع لا يمكن إنكاره:
القراءة الميدانية للواقع السوري تُظهر بوضوح أن الفيدرالية لم تعد خياراً نظرياً مؤجلاً، بل أصبحت توصيفاً قانونياً ممكناً لواقع فعلي متشظٍ:
- في الشمال الشرقي، تدير قوات سوريا الديمقراطية، من خلال "الإدارة الذاتية"، نموذجاً متطوراً نسبياً من الحوكمة، قائماً على شكل شبه اتحادي داخلي، يشتمل على مؤسسات تشريعية وتنفيذية وقضائية وأمنية، ويعتمد مبادئ اللا مركزية المتقدمة، مع اعتراف بالتعدد القومي والجندري.
- في الشمال الغربي، سابقاً تُدير المعارضة السورية مناطق سيطرتها عبر مجالس محلية وحكومات إدارية بدعم تركي مباشر، خارج نطاق سلطة دمشق السابق والحالي. هذه الكيانات تكرّس أمراً واقعاً مؤسساتياً يتجه نحو حكم محلي مستقل.
- في مناطق النظام البائد والسلطة الجديدة، ورغم استمرار الخطاب المركزي، إلا أن البنية الإدارية تُظهر تفككاً واضحاً في بنية الدولة، مع تصاعد نفوذ الميليشيات، وتعدد الأجهزة الأمنية، وتضخم السلطات غير الرسمية، وتآكل فعالية البيروقراطية المركزية.
- أما دولياً، فالوضع السوري بات أقرب إلى "تقاسم غير مُعلن للسيادة": مناطق تحت نفوذ روسي سابقاً، وأخرى تحت حماية أمريكية، وثالثة ضمن الوصاية التركية، فضلاً عن النفوذ الإيراني المعقّد سابقاً. وهذا يُنتج تعددية أمر واقع لا يمكن تجاوزها بمنطق الدولة المركزية التقليدية.
3- الفيدرالية كأداة دستورية لاختزال الفوضى:
في غياب تأطير هذا التعدد السياسي والإداري والديمغرافي ضمن إطار دستوري اتحادي، فإن البديل الوحيد هو المزيد من الفوضى، واستدامة الصراع، وانزلاق البلاد نحو "السيادة المجزأة" أو "الدولة الفاشلة".
الفيدرالية هنا لا تُعد اختراعاً سياسياً، بل وسيلة عقلانية لتطويع الواقع وإدخاله ضمن إطار شرعي، عبر:
- تحويل سلطات الأمر الواقع إلى كيانات دستورية (أقاليم، إدارات، ولايات...) ضمن مظلة السيادة الوطنية.
- بناء نظام توزيع صلاحيات متوازن بين المركز والمكونات، يحتفظ المركز فيه بشؤون السيادة (الدفاع، السياسة الخارجية، العملة)، بينما تُمنح الأقاليم صلاحيات واسعة في الشؤون الداخلية (الأمن المحلي، التعليم، التشريع المحلي، القضاء المدني).
- إنشاء برلمان اتحادي ثنائي الغرف، تمثل فيه الأقاليم وفق مبدأي التعداد السكاني والتمثيل المتساوي، بما يحقق التوازن بين الثقل الديمغرافي والحقوق الإقليمية.
4- الجدل حول الفيدرالية – الخلط بين المفاهيم:
الاعتراض على الفيدرالية غالباً ما ينبع من خلط مفاهيمي أو التباس تاريخي:
- الفيدرالية ليست كونفدرالية: فهي لا تمنح الأقاليم حق الانفصال أو السيادة المستقلة، بل توحّدهم ضمن دولة واحدة متعددة المستويات.
- الفيدرالية ليست تقسيماً: بل هي نقيض التقسيم، لأنها تُبقي على وحدة الأراضي والسيادة، وتعيد فقط تعريف العلاقة بين المركز والأطراف.
- الفيدرالية ليست محاصصة طائفية: بل تقوم على توزيع السلطات سياسياً وجغرافياً، وليس على أسس هوياتية أو طائفية، خلافاً لما عرفه العراق أو لبنان.
- الفيدرالية لا تعني نهاية الدولة: بل إعادة تأسيسها من جديد على أسس أكثر عدالة وواقعية، بما يضمن مشاركة الجميع لا إخضاعهم.
5- من الفيدرالية كضرورة واقعية إلى الفيدرالية كخيار تأسيسي:
السؤال الجوهري هو: ما طبيعة الدولة السورية التي يمكن أن تنهض بعد الحرب، وتبني سلماً أهلياً مستداماً، وتستعيد ثقة مكوناتها المختلفة؟
في ظل تراكم النزاعات، وتعدد الهويات، وتشابك النفوذ الخارجي، يبدو من العبث التمسك بنموذج الدولة المركزية الصارمة كما في العهد البعثي. بل يجب التوجه نحو تأسيس جمهورية جديدة، تقوم على:
- دستور اتحادي توافقي يعترف بالتعدد القومي والديني والثقافي.
- نظام سياسي ديمقراطي تعددي يضمن تداول السلطة وتمثيل مختلف المكونات.
- هيكل إداري اتحادي لا مركزي يعيد توزيع السلطات والثروات والتمثيل السياسي.
- مسار عدالة انتقالية ينهي إرث القمع والانقسام، ويعيد بناء الثقة بين المكونات الوطنية.
خاتمة: الفيدرالية ليست امتيازاً بل حق، وليست خياراً بل مخرجاً
إن سوريا اليوم لا تملك ترف التردد أو التهرب من استحقاقات التحول البنيوي. فالاختيار ليس بين الفيدرالية والمركزية، بل بين الدولة والفوضى.
الفيدرالية، في هذا السياق، ليست مشروعاً خارجياً، بل ترجمة دستورية لحقيقة التعدد السوري، ونتيجة منطقية لمسار التفكك القائم، وأداة عقلانية لمنع الانهيار الكامل.
السؤال الحقيقي ليس: "هل سوريا جاهزة للفيدرالية؟"
بل: "هل ستبقى سوريا قائمة بدونها؟"
هل يدرك أبو محمد الجولاني (سابقاً) – أحمد الشرع (حالياً) أن سوريا لن تمرّ مرور الكرام؟
في مشهدٍ سياسي تتشظى فيه السلطة وتتشكل فيه مناطق نفوذ متعددة، يبرز نموذج "هيئة تحرير الشام" بوصفه سلطة أمر واقع في الشمال الغربي من سوريا. يقود هذه الهيئة رجل واحد، تغيّر اسمه من "أبو محمد الجولاني" إلى "أحمد الشرع"، لكن يبدو أن العقيدة السلطوية لم تتغير. فالممارسة السياسية، كما تترجمها الهيئة، لا تزال أسيرة ذهنية استبدادية، تحتكر القرار، وتقصي المخالف، وتُعيد إنتاج الدولة البعثية في ثوب جديد – ديني هذه المرة.
ما لا يدركه "الشرع" ومن على شاكلته، هو أن سوريا لم تعد تقبل بسيطرة فرد أو جماعة تحت مسميات مقدسة، دينية كانت أو ثورية. الثورة التي اندلعت عام 2011 لم تكن ضد الأسد فحسب، بل ضد بنية كاملة من الإقصاء والتهميش والاستبداد. وكل محاولة لإعادة تدوير هذا النموذج، حتى وإن لبس عباءة "المجاهد"، مصيرها السقوط. فالشرعية اليوم لا تُمنح بالسلاح، بل بالعقد الاجتماعي؛ ولا تُكسب بالخطاب الديني، بل بالتمثيل العادل والحقوق المكفولة لجميع المكونات.
سلطة تُبنى على أحادية القرار واحتكار التمثيل، لا يمكن أن تكون إلا هشّة، مؤقتة، وقابلة للانفجار. وسوريا، بما هي عليه من تعدد قومي، وديني، ومناطقي، لم تعد تحتمل هذا النوع من الحكم الأحادي، سواء أتى من دمشق أو من إدلب. بل إن الاستمرار في فرض الأمر الواقع بهذه العقلية، معناه التمهيد لانفجار جديد، سيكون هذه المرة أشد عنفاً وأوسع انتشاراً، وقد ينتهي – لا قدّر الله – بتفكك الكيان السوري ذاته.
إن سوريا اليوم بحاجة إلى تحول بنيوي في فهم الدولة. لم يعد ممكناً بناء مستقبل على أنقاض الماضي السلطوي. المطلوب ليس "انتصار فصيل"، بل توافق وطني شامل. المطلوب ليس خطاباً تعبوياً مؤقتاً، بل دستور اتحادي توافقي، يعترف بالتعدد القومي والسياسي والديني، ويقرّ بشرعية اللامركزية والفيدرالية، بوصفهما أدوات عقلانية لإدارة التعدد وضمان الحقوق وتوزيع السلطات. هذا هو الضامن الوحيد لبقاء سوريا، واستعادة السلم الأهلي، وبناء نظام ديمقراطي تعددي يحول دون إعادة إنتاج الاستبداد مهما كان لونه أو شعاره.
إن تجربة الجولاني وأمثاله يجب أن تُقرأ جيداً: من الثورة إلى السلطة، ومن شعار "إسقاط النظام" إلى إعادة تمثيله بصيغة جديدة. لكن التاريخ علمنا أن سلطة الأمر الواقع، إن لم تتحول إلى عقد سياسي جامع، فإنها إما أن تُسقط، أو تُستنزف، أو تتحول إلى مشروع انفصال أمر واقع. وهذه، بالضبط، هي نهايات كل من اختار أن يحكم باسم الله، بدلاً من أن يحكم باسم الشعب وبإرادته.
ولهذا، فإن السؤال الحقيقي الذي يجب أن يُطرح اليوم ليس:
"هل سوريا جاهزة للفيدرالية؟"
بل:
"هل يمكن لسوريا أن تبقى موحدة، دونها؟"
وكذلك، السؤال الأهم من كل ذلك:
"هل يدرك أحمد الشرع أنه، بعقليته الحالية، يقود الشمال نحو عزلة سياسية وتفكك وشيك وانفجار من جديد؟"
الجواب، للأسف، لا يبدو مشجعاً حتى الآن.
الخاتمة: نحو عقد اجتماعي فيدرالي جديد
تقف سوريا اليوم عند مفترق تاريخي حاسم، لا مجال فيه لأنصاف الحلول أو للمناورات السياسية. فإما التمسك بعقلية المركز وهرمية الدولة الأحادية، وهي العقلية التي أثبتت فشلها الذريع، وأنتجت ثورة، ثم فوضى، ثم انهياراً واحتلالات متعددة؛ وإما الانخراط الجاد والمسؤول في مشروع تحوّل دستوري شامل، يؤسس لعقد اجتماعي جديد، يقوم على الاعتراف بالتعدد، وتوزيع السلطات، والتشاركية في صنع القرار الوطني.
لم يعد مقبولاً، بعد كل ما جرى، أن تُدار سوريا بعقلية الإلغاء والاحتكار. ولم يعد ممكناً تصور إعادة بناء دولة ما بعد الحرب دون إعادة تعريف علاقتها بمكوناتها القومية والدينية والسياسية والجغرافية. إن الدولة المركزية، بصيغتها البعثية السابقة أو حتى بصيغتها الوطنية التقليدية، قد استنفدت صلاحيتها. وكل محاولة لإعادة ترميمها من الأعلى، أو فرضها على واقع اجتماعي وسياسي متشظٍّ، لن تكون سوى وصفة لانفجار قادم أو لتقسيم زاحف بحكم الأمر الواقع.
إن الفيدرالية، في هذا السياق، ليست ترفاً نظرياً ولا نموذجاً مستورداً، بل ضرورة سياسية وقانونية تفرضها وقائع الأرض، وتحفّزها معادلات التوازن بين المكونات السورية. وهي الشكل الوحيد الذي يمكن من خلاله تحقيق ما يلي:
- صون وحدة الدولة دون قمع المركز للمحيط؛
- الاعتراف بالتنوع القومي والديني والسياسي دون أن يتحول إلى صراع؛
- بناء ديمقراطية حقيقية دون إعادة إنتاج هيمنة الأغلبية على الأقليات، أو فئة على فئة؛
- صوغ هوية وطنية جامعة دون المساس بخصوصيات الهويات الثقافية أو القومية أو الدينية؛
- ضمان تنمية متوازنة وعدالة جغرافية، بدلاً من إغراق المركز بالسلطة والثروة وتهميش الأطراف.
في المنظور الدستوري، لا يمكن لأي عقد اجتماعي أن يكتسب شرعيته ما لم يكن تعاقداً حراً، متكافئاً، يقوم على الإرادة المتبادلة لا على الإكراه. وهذا هو جوهر الفيدرالية: ليست تقسيماً للبلاد، بل توزيعاً للسلطة؛ ليست نفياً للمركز، بل إعادة تعريفه كمركز تنسيقي غير مركزي؛ وليست تجاوزاً للدستور، بل إعادة تأسيس له على أسس جديدة تُقرّ بأن المواطن الكوردي، والعربي، والآشوري، والتركماني، والعلوي، والسني، والمسيحي، والإيزيدي والدرزي... جميعهم مواطنون متساوون في الحقوق والكرامة والتمثيل، لا فضل لمكون على آخر، إلا بقدر التزامه بالمصلحة الوطنية المشتركة.
لقد آن الأوان للانتقال من فكرة "الدولة مالكة الشعب"، إلى "الدولة المملوكة من قِبَل شعبها"، بكل مكوناته. وهذا لا يتحقق إلا بدستور تشاركي، فيدرالي، توافقي، يتجاوز منطق الغلبة، ويستبدله بمنطق الشراكة. دستور لا يُكتب في غرف مغلقة، ولا يُفرض من قبل فصيل عسكري أو ديني، بل يُنتَج من حوار وطني مفتوح، يُشارك فيه الجميع، من المهجّرين في الشتات، إلى سكان القرى المعزولة، ومن ضحايا الحرب، إلى صانعي السلام.
إن سوريا المستقبل لن تُبنى من الأعلى، بل من القاعدة؛ من البلديات، والمجالس المحلية، والإدارات الذاتية؛ ومن الاعتراف بأن الآخر ليس خصماً يجب تجاوزه، بل شريكاً ينبغي التفاهم معه. الفيدرالية هي الاسم السياسي لهذا الاعتراف، وهي الروح القانونية للعيش المشترك.
وإما ذلك، أو استمرار النزيف، والتآكل، والتحلّل البطيء للدولة والمجتمع.
في النهاية، لم يعد السؤال: "هل نريد الفيدرالية؟"
بل أصبح: "هل هناك بديل عقلاني، دستوري، وإنساني عنها؟"
وحتى اللحظة، لا يبدو أن هناك بديلاً واقعياً أو قابلاً للحياة سوى هذا المسار.