قصة مهاجر في متاهات الأمل
بقلم : د. عدنان بوزان
في أعماق الليل الساكن، حين يهمس الصمت بأسرار النجوم، تتبدد أحلامي كالدخان بين أصابع الرياح. أنا هنا، ولكن ليست هذه الأرض هي وطني، فقلبي ما زال ينبض بشوق لتلك الأرض التي خُلِقت عليها.
الغربة كالسِّجن الذي لا يرى أبوابه، تحاصرني وتقيد خطواتي. أجول بين أزقة المدينة الباردة، أبحث عن شيءٍ ضائعٍ في عيون البشر، شيء يشبه الدفء والانتماء. لكن الأماكن تتغير، والوجوه تتلاشى، ولا أجد سوى ذكريات تعلو فوق الأمواج كأصوات بعيدة لا تُفهم.
الشوق يجتاحني كلما رأيت غروباً أو شروقاً، فالشمس تشرق هنا بنفس اللون، ولكنها ليست نفس الشمس التي كانت تضئ دروبي في الوطن.
أين أصدقائي الذين اعتادوا مشاركتي فرحي وحزني؟ أين الأشجار التي شهدت نموي، والأنهار التي سمعت أغنيتي؟ أتدري يا وطني البعيد، كم مرَّت الأيام والليالي والسنوات الطويلة وأنا أحملك في قلبي كالكنز الثمين؟ كم مرَّت الأمسيات وأنا أرسم وجهك في سماء الغربة،
أتخيل نسماتك تعانق وجنتي، ولكنها مجرد أحلام ضائعة في عالم الواقع المرير. الأمل ما زال يسكنني، ينمو كزهرةٍ صغيرة في بستان قاحل.
قد يأتي يومٌ يعود فيه البعيدون، يعود الشوق ليجمعنا، وتعود الأحلام لتلون أيامنا بألوان الفرح. وحينها، سأكون كالعصفور الذي يعود إلى عشه بعد طوافٍ طويل، سأرفرف بجناحيَّ وألحان السعادة تملأ الفضاء. حتى ذلك اليوم، سأبقى أرثي الأماكن بعيني، وأرتشف شذا الأرض في كل نسمة هواء.
سأبقى هنا، في هذه الغربة المؤلمة، مشتاقاً لتلك اللحظة التي تجمعني بك مرةً أخرى، يا وطني الغالي.. يبقى قلبي رهينةً لأطياف الماضي، كأغنيةٍ قديمة تعزفها الذكريات على أوتار الشوق.
في لحظات الوحدة، أتذكر وجوه من زمن ضاع، وضحكات تعلو فوق صخب الحياة اليومية. يتباين اللون الأزرق للسماء هنا مع ذلك الأزرق الذي كان يلون أفق وطني، كأنما الألوان تحمل قصص الغربة والشوق في طياتها.
مرت الأيام كأمواجٍ متلاطمة، تاركةً خلفها أثراً طويل الأمد في روحي. أصبحت أفهم معنى الفقد والبعد بشكل أعمق، فليس الغربة مجرد مكان بعيد، بل هي حالة من الفقدان الذي يمتد إلى عمق الروح.
أشتاق لرائحة التراب الرطب بعد المطر، لنسمات الهواء المليئة بعبق الزهور، ولضوء القمر الذي كان يضيء لي الطريق في الليالي الظلام. قد يبدو الأمر غريباً، ولكن حتى الألم الذي أشعر به يذكرني بأني حي، بأن قلبي لا يزال ينبض، وروحي لا تزال تبحث عن جذورها المفقودة.
يمكنني تخيل اللحظة التي سأعود فيها إلى تراب وطني، لن أكون مجرد غريب بل سأكون عائداً إلى ما هو جزء مني، إلى مكان أنا فيه كل شيء. حتى ذلك اليوم، سأحتضن الأمل كالكنز الثمين، وأستمر في نقش ذكرياتي بين ثنايا قلبي. سأظل أنظر إلى السماء نجومها تشهد على مشاعري، وسأختزل الوطن في أحلامي، وأنتظر بصبر لحظة عودة تلك الروح المهاجرة إلى حضن مأواها..
. وهذا مقطع من قصيدتي "على أنغام الشوق أبكي" .
على شاطئ الغربة أقف وحيداً،
كأمواج البحر ترتجف في الصدى،
أشواقي ترقص كالنجوم في السماء،
أنا هنا، بين الشوق والرياح تاه.
في ليلٍ مظلم يشبه عتمة الروح،
أنا الغريب،
في عالمٍ ليس لي سوى همس النجوم،
ذكرياتي تعانق ضياء القمر،
وأحلامي ترسم ألوان الوطن على قلبي المغتر.
أين الأماكن الجميلة التي شهدت نشأتي؟
أين الأصدقاء الأحباء الذين ضمتهم أحضاني؟
يبقى الشوق مشتعلاً في جوف الليل،
كأغنية حزينة تهمس بالحنين والبعد.
أشتاق لرائحة التراب وألوان الربيع،
أشتاق لنسمات الهواء وزخارف الزهور،
كل زمنٍ يمر يزيد شوقي ولهفتي،
كل لحظة تمضي تعزف ألحان الشوق والأمل.
يا وطني البعيد، أسمع صدى أحلامي تردد،
كلماتي تملأ الفضاء كالعصافير في السماء،
عائدٌ إليك مهما طالت الأيام والسنين،
سأظل أغني عن شوقي بأشعار الحب والوفاء.
في قلب الغربة سأجد ملاذي وسروري،
فالأمل يضيء دربي ويشدو بأماني،
مهما طالت السفر واندثرت الأثر،
سأكون دائماً العائد إليك يا وطني الغالي