الكلمة كسلاح: دور الكتّاب الكورد في صياغة المستقبل وتحرير الوعي
بقلم: د. عدنان بوزان
إن الكلمة تمتلك قوة تجاوزية، قادرة على تحريك الجبال الراسخة في الوعي الجمعي وهز الأعماق الروحية للمجتمعات. فهي ليست مجرد تراتيل صوتية تذروها الرياح بين زوايا الشوارع والأزقة، بل هي أداة تشكيل وتعديل لمسار التاريخ وبنية الفكر الإنساني. عبر العصور، شهدنا كيف أن الكلمات قد أطلقت ثورات، وأسست أمماً، وأنهت حقباً من الظلم أو الاضطهاد. لكن، هذه القوة لا تظهر من فراغ، بل تأتي محمّلة بروح كاتبها ونواياه، ومن هنا تبرز أهمية الكاتب في المعادلة الاجتماعية.
الكاتب، هذا المهندس الخفي للعقول، يحمل بين يديه قدرة لا تُستهان بها. هو ليس فقط مرآة تعكس الواقع، بل هو مطرقة تشكله وفقاً لرؤيته. عندما يكتب بمسؤولية ووعي، يمكن لكلماته أن تلهم الأمل وتوجه الجماهير نحو الخير والبناء والنمو. في المقابل، عندما يستسلم للغواية ويتبنى أجندات مدمرة أو مضللة، فإنه يمكن أن يساهم في الانحراف والفوضى والانهيار.
في سياق الشعب الكوردي، تبدو هذه الحقيقة أكثر وضوحاً وألماً. إن الكورد، الذين يناضلون من أجل حقوقهم ووجودهم وهويتهم، يواجهون تحديات جسيمة ليس فقط من الخارج بل أيضاً من الداخل. الكتّاب الأكفاء، الملتزمون بقضايا شعبهم والذين يحملون مشاعل الإضاءة في طريق مظلم، يصبحون ضروريين لا لإنارة الطريق فحسب، بل لتوحيد الصفوف وتعزيز الوعي الجماعي.
لكن عندما تهاجم فئات أقزام الكتّاب الفوضويين والجهلاء الذين يروجون للانقسام والفوضى، ينعكس ذلك سلباً على كافة مستويات الحياة المجتمع الكوردي. الأخلاق، السياسة، الثقافة، وحتى الفكر، جميعها تتأثر بما ينشره الكتاب. ومن هنا، يبرز دور الكتّاب الكورد في مكافحة التأثيرات الخارجية والداخلية التي تحاول تفتيت وحدة الصوت الكوردي وتقويض جهود التحرر والاستقلال. إن التزام الكاتب بأمانة الكلمة وصدق النية يحوله إلى سلاح فتاك في معركة الوعي والهوية، بينما انحرافه يتحول إلى أداة للتفكك والدمار.
تكمن الأهمية القصوى في قدرة الكاتب على تجسير الفجوات بين الماضي والحاضر، وإلقاء الضوء على المستقبل المنشود. إنهم، بكلماتهم، يصنعون التاريخ أو يعيدون كتابته، يحركون الجماهير نحو الحلم أو يوقظونها من الكابوس. لذلك، ينبغي على الكتّاب الكورد أن يحملوا هذه المسؤولية بجدية تامة، وأن يدركوا أن كل كلمة يخطونها ترسم ملامح المستقبل.
في هذا الزمن الذي تتسارع فيه الأحداث وتتداخل فيه الأزمات، يبرز دور الكتّاب في تعزيز الوعي القومي وصيانة الذات من التشوهات الفكرية التي تطالها. إن الفوضى التي تشهدها الساحة الكوردية في الآونة الأخيرة ليست سوى نتيجة لصراع الأفكار والمصالح التي تجري على أرضهم. لذا، الحاجة ماسة لكتّاب يعيدون تأسيس الروابط المجتمعية، ويدافعون عن القيم والمبادئ التي ترتكز عليها الأمة الكوردية، محاربين بذلك الأجندات الغير كوردية التي تسعى لإضعافهم وإبقائهم في دائرة النسيان والتهميش.
إن المعركة التي يخوضها الكتّاب الكورد ليست فقط على صفحات الكتب أو عمود الصحيفة، بل هي معركة وجود وتأثير يمتد إلى قلوب الناس وعقولهم. إذا كان الكتّاب يحملون القلم بوعي ومسؤولية، فإنهم يستطيعون تحقيق الأمل والتغيير، لكن إذا أساءوا استخدام هذه القوة، فإن النتائج تكون مدمرة وطويلة الأمد.
من هنا، يظهر جلياً أن الكتاب في المجتمع الكوردي، وفي أي مجتمع آخر يسعى نحو التقدم والاستقلال، يجب أن يكونوا حراساً للثقافة، منارات للحق، وصناع الأمل. بأيديهم تتشكل الأحلام وتُبنى الرؤى، ومن خلال حبرهم يمكن أن تزدهر الأمم أو تفنى.
إن الحضور الفاعل للكتّاب يشكل، في كثير من الأحيان، الخط الدفاعي الأول ضد التشويهات الثقافية والاجتماعية والسياسية. يتمثل دورهم الأساسي في نقل الحقائق وتوضيح المفاهيم وبناء جسور الفهم بين الأفراد والجماعات داخل المجتمع الواحد وبين المجتمعات المختلفة. إنهم يعملون كمرشدين ومعلمين ومصلحين، يساهمون في تشكيل الوعي الجماعي وتوجيه السلوك العام نحو أهداف نبيلة وعملية.
في كل دورة تاريخية تواجه الأمة الكوردية، تظهر أهمية الكتّاب في تعزيز الروح القومية وتقوية الهوية. يتجلى ذلك بشكل خاص في الأوقات العصيبة حيث يمكن للكلمة أن تكون مصدر إلهام للمقاومة أو مبعث للأمل. إن الكلمات التي ينقشها هؤلاء الكتّاب على صفحات التاريخ ليست مجرد تعبيرات لغوية، بل هي أفعال تبقى أصداؤها تتردد عبر الأجيال.
في هذا الإطار، ينبغي للكتّاب أن يتخذوا من الأمانة والدقة والعمق شعاراً لهم، لأن الكلمات المتسرعة أو غير المدروسة يمكن أن تتسبب في أضرار جسيمة. يجب أن يظلوا واعين بأن كل كلمة يكتبونها تحمل في طياتها القدرة على التأثير في الوعي الجماعي وتوجيه مسار المجتمع.
إن تأثير الكتاب في المجتمع يتجاوز مجرد الإلهام، إنهم يسهمون في بناء القدرات الفكرية والأخلاقية للأمة. يجب أن يرتقوا بكتاباتهم لتكون على مستوى التحديات التي تواجه الشعب الكوردي، وأن يستمروا في كونهم صوتاً للمقهورين والمضطهدين. يجب أن تظل أقلامهم حادة ضد الظلم وناعمة في مواساة الضعفاء، قوية في مواجهة العدو، ولطيفة في تربية النشء.
بهذه الطريقة، يمكن للكتّاب أن يظلوا قوة لا تقهر، تنير الطرق وتصون الحقوق، وتؤسس لمستقبل يمكن فيه للشعب الكوردي، وكل شعب يناضل من أجل العدل والحرية، أن يحقق تطلعاته في العيش بكرامة وسلام. هذه المسؤولية الكبيرة التي تقع على عاتق الكتّاب تجعل من الكلمة ليست مجرد تعبير عن فكرة، بل إعلاناً عن موقف، وتحريضاً على فعل، وتبلوراً لهوية. يجب على الكتاب أن يدركوا بأن كلماتهم لها القوة لتصبح شرارة تنير طريق الجماهير أو تشعل نار الفتنة. لذا، الكتابة يجب أن تكون مبنية على الرصانة والعمق والتأمل الدقيق في العواقب.
في مواجهة التحديات الراهنة والضغوط الخارجية التي تفرض أجنداتها على الشعب الكوردي، يتطلب الأمر كتّاباً ليس فقط بمهارات لغوية عالية، ولكن أيضاً بفهم سياسي واجتماعي عميق. يجب عليهم أن يكونوا قادرين على تحليل الواقع بموضوعية وتقديم البدائل العملية التي تسهم في بناء مجتمع أكثر عدلاً وازدهاراً.
الكتّاب، كصناع للأمل والمستقبل، ينبغي لهم أن يتجاوزوا السطحية في التعاطي مع القضايا، وأن يعملوا على إبراز الجذور العميقة للمشاكل والتحديات التي تواجه الشعب الكوردي. يجب أن تتسم كتاباتهم بالشجاعة في طرح الأسئلة الصعبة والاستعداد لمواجهة الإجابات غير المريحة، مع الحفاظ دائماً على الأمل في إمكانية التغيير والتحسين.
يجب على الكتّاب الكورد، وكل كتّاب يعيشون في سياقات مماثلة، أن يكونوا أدوات لتوحيد الصفوف وتعزيز التماسك الاجتماعي. ينبغي لهم أن يكونوا الصوت الذي يكسر حواجز العزلة والاغتراب، ويبني جسور التفاهم والتعاون بين مختلف فصائل وأطياف المجتمع.
إن مسؤولية الكتّاب في الشعب الكوردي وغيره من الشعوب المناضلة لا تنتهي عند نقطة الكتابة الجيدة والفكر المستنير فحسب، بل تمتد لتشمل النضال من أجل الحقيقة والعدالة والكرامة الإنسانية. الكتّاب بأقلامهم، يجب أن يظلوا دائماً في الخطوط الأمامية لهذه المعركة، يدافعون عن الحق، يعززون الوعي، ويصونون الهوية، ويساهمون في صياغة مستقبل تسوده قيم العدالة والمساواة.
في كل هذا، يجب أن يكون الكتّاب الكورد أيقونات للصمود والمقاومة في وجه المحاولات لطمس الهوية الكوردية أو تقويض جهودهم الثقافية والسياسية. هم حملة المشاعل في الظلام، يضيئون الطريق للأجيال القادمة، مستخدمين الكلمة كسلاح يحرر ويعلم ويوحد. لهذا، الكتابة ليست مجرد مهنة أو تعبير عن الذات، بل هي مسؤولية اجتماعية وأخلاقية تتطلب الشجاعة والتفاني والنزاهة.
ينبغي على الكتّاب أن يدركوا قوة الكلمة وتأثيرها العميق على النفوس والعقول. يجب أن يستخدموا هذه القوة بحكمة ورؤية طويلة الأمد، وأن يكونوا دائماً على قدر المسؤولية التي يحملونها تجاه شعبهم وقضيتهم. الكتابة يجب أن تكون دعوة للعمل وحافزاً للتغيير، تعزز الروابط الإنسانية وتدفع باتجاه مجتمع أكثر تفهماً وتعاطفاً.
مع تقدم الزمن وتغير الظروف، يبقى الدور الأساسي للكتّاب ثابتاً كمنارات للحقيقة. يجب أن يظلوا حريصين على أن تكون كتاباتهم مرآة تعكس واقع شعبهم ونافذة تطل على مستقبلهم. من خلال الكلمات، يمكنهم بناء عالم يسوده العدل والمساواة، حيث لا تقهر الأقلام، وتستمر في كونها أداة للعدالة والتحرير.
هكذا، تصبح الكتابة أكثر من مجرد عمل فني أو إبداعي؛ إنها تصبح رسالة ونضال. لكل كاتب، وخصوصاً الكتاب الكورد، دور لا يمكن إغفاله في صوغ الوعي الجمعي وتشكيل المستقبل. فبالكلمات، نعيد كتابة الوجود ونحني مسار التاريخ نحو الأفضل.