صوتي من خلف القضبان يخترق جدار القرون
بقلم: د. عدنان بوزان
من خلف القضبان أناديكم، صوتي مبحوح بين جدران الصمت، وكلماتي تتناثر على أرضية زنزانتي المظلمة كأوراق الخريف المتساقطة. أناديكم، لكن هل يصل ندائي، أم أنه يتلاشى كصدى ضائع في ردهات النسيان؟
من هنا، حيث النور يغازل الظلام من خلال شرائح رفيعة تتقاطع فيها أشعة الشمس بالأسلاك، أراقب الأيام تمر بطيئة، ثقيلة، تحمل على كاهلها وزر الوحدة والأسى. الساعات تمضي بلا وجه، والدقائق تذوب في بوتقة الألم، وأنا أنتظر، أنتظر صوتاً، خطوة، خبراً، أي شيء يُعلن أن العالم خارج هذه الجدران لا يزال يتنفس.
من خلف القضبان، أحاول جمع ذكرياتي المبعثرة، كل لحظة جميلة عشتها، كل ضحكة شاركتها، كل دمعة سقطت على وجنتي في أحضان أحبتي. تلك الذكريات الآن هي رفيقي الوحيد في الليالي الطوال، وهي سراجي في هذا الظلام الدامس.
أتذكر العالم الخارجي بألوانه، بأصواته، بحركته، وأشتاق إلى الحرية، تلك الكلمة التي كانت يوماً مجرد مفردة عابرة في قاموس حياتي، أما الآن فقد صارت حلماً يراودني، يقض مضجعي، يؤرقني.
هل تسمعونني؟ من خلف القضبان أناديكم بصوت محشرج بالحنين، بصوت مكسور الجناحين. هنا، حيث الزمان يتوقف، والمكان يصبح لا مكان، أفتقد إلى الإنسانية التي كانت تحيط بي، إلى الأيدي التي كانت تمسك يدي، إلى الأعين التي كانت تنظر إلي بحنان وأمل.
في هذه الزنزانة، تنمو الروح وتذبل، تصرخ بأعلى صوتها دون أن تُسمع. من خلف هذه القضبان، أرسل إليكم رسائل محبوسة في زجاجات الأمل المكسور، تطفو فوق بحر من الألم والانتظار.
أناديكم، لكن لا أعرف... هل بإمكان الحروف أن تتسلل من بين هذه القضبان الباردة؟ هل يمكن للكلمات أن تعانق السماء مرة أخرى؟ هل يمكن للأمل أن ينبت في تربة هذا القيد؟
أرجو أن تجد هذه الكلمات طريقها إليكم، تخترق الصمت الثقيل وتحمل معها قطرات من ندى الحنين، تروي ظمأ الذكريات المتعطشة. في كل لحظة يطالعني فيها الفجر الباهت من خلف القضبان، أتخيل أصواتكم، أحلم بأن أرى العالم من خلال عيونكم، بأن أحس بحريتكم تغمرني، بأن أتنفس عبق حياتكم.
من خلف القضبان، أفكر في معنى الوجود، في الخطوات التي مشيتها والكلمات التي نطقتها. أتساءل، هل كل هذه الأيام التي تمر، هي مجرد رمال تسقط بين أصابع الزمن، أم هي جسر يبني نفسه، عتبة عتبة، نحو الغد الذي ينبغي أن يكون أكثر رأفة وضياء؟
من خلف هذه الجدران، تتلوى الأماني، وتنكسر الأحلام، لكن لا يموت الأمل. هناك، في أعماقي، يظل شيء صغير يتوهج، يرفض أن ينطفئ. هو الإيمان بأن هناك فجراً آخر ينتظر، أن هناك حباً وحياة خارج هذه الجدران، حباً وحياة يمكن أن تكون شاملة وعادلة للجميع.
وأنا من خلف القضبان أناديكم، ليس لتنقذوني من هذا السجن فحسب، بل لتذكروا وجوهاً أخرى، وجوهاً غير وجهي، تعاني في صمت، تأمل في العدل، تتوق إلى الحرية. أناديكم لتحملوا الشعلة، لتضيئوا الظلمات، لتكونوا صوت من لا صوت لهم، لتكونوا الأمل الذي ينير درب اليائسين.
من خلف القضبان، أناديكم بكل ما تبقى من قوة في صوتي المتعب، أناديكم لتمدوا أيديكم عبر هذا الظلام الدامس، وأن نلتقي جميعاً في مكان يسوده السلام والإنسانية.
هل تسمعون هذه النداءات الصامتة التي ترتفع من وراء الحديد، حيث الأصوات المكتومة تبحث عن مخرج، عن أذن رحيمة تصغي؟ أدعوكم لا لتحرروا جسدي فقط، بل لتحرروا كل تلك الأرواح المقيدة التي تصارع في صمت.
في ليالي السجن الطويلة، حين تكون الأضواء مطفأة والأصوات قد خمدت، يبقى القلب يدق بأمل متجدد. يدق بقوة اليقين بأن الظلم لا يدوم، وأن الحقيقة، مهما طال بها الزمن، ستشق طريقها إلى النور. يتغذى هذا الأمل بكل ذكرى جميلة، بكل لحظة عشت فيها بينكم، بكل يوم مضى وأنا أحلم بأن أعود وأنثر الضحكات بين أحبتي.
من خلف القضبان، أرسم في خيالي صورتكم كما كنتم، أسترجع ضحكاتكم التي كانت تملأ الفضاء حولي، أشعر بالدفء الذي كان يملأ الغرفة حين كنا معاً. تلك الذكريات تبقى بمثابة نسمة باردة تخترق حر الصيف، تروي ظمأ الوحدة وتبعث في النفس شيئاً من السكينة.
أناديكم اليوم ليس فقط من أجلي، بل من أجل كل الذين تهمشت قصصهم وقضيتهم، الذين أُلغيت أصواتهم، الذين طُمست حقوقهم تحت وطأة الظلم والطغيان، والنسيان يهترئ في قاموس العدالة والإنسانية.. أناديكم لتكونوا صدى لهذه الأصوات المكبوتة، لتكونوا الشهود على الحق والعدالة في عالم يبدو أحياناً أنه نسي كيف يكون عادلاً.
ليكن صوتنا معاً قوياً، يتخطى جدران السجون ويعبر القارات، يحمل معه رسائل الأمل والتغيير. لنجعل من هذا النداء جسراً يوحد القلوب ويعيد للإنسانية معناها، حيث لا تقييد للأرواح، ولا قضبان تحجب الضوء.
أناديكم من وراء القضبان، لا تتركوا اليأس يخيم على قلوبكم، فمع كل شروق يتجدد الأمل، ومع كل غروب نتعلم درساً جديداً. حتى هنا، في عزلتي هذه، أجد في الأمل سلوى، وفي الإيمان بكم، قوة تحملني كل يوم.
في غياهب زنزانة غارقة في صمت العصور، حيث الجدران السميكة تروي حكايات الألم والأمل المنسي، يتردد صدى صوت مكبل بالأغلال، ينبعث من أعماق الزمن، يتسلل عبر نسيج القرون الأربعة، صوت ينادي بأمل لا ينضب وإصرار لا يلين.
من خلف هذه القضبان الصدئة، حيث تكاد الضوء أن يستسلم لظلام دامس، أناديكم. أصوات خافتة تبدو وكأنها همسات الأرواح المعذبة في هذا المكان المنسي. ومع ذلك، فإن كل همسة تخترق هذه الجدران العتيقة، تحمل بين طياتها قصصاً من الشجاعة والتحدي.
تتردد صداي عبر الممرات الضيقة، متجاوزةً برودة الحجر وثقل الحديد، لتصل إلى عالم أبعد بكثير من حدود هذا السجن القديم. صوتي يتخطى حدود الزمان والمكان، يخترق جدار الأزمنة، ليصل إلى أسماعكم. أنادي لأخبركم بقصة لا تنتهي عن الصراع والأمل، عن الحرية التي لا يمكن أن تُقيد بالسلاسل، عن الروح التي تتحدى قسوة الظروف.
ها أنا، محتجز خلف هذه الجدران الباردة التي شهدت أجيالاً من الأحرار والمناضلين. ورغم الظلام الذي يكتنفني، فإن قلبي ينبض بضوء لا يخبو. إن قصتي هي دعوة لكل الأحرار، لكل من يسمع صدى صوتي الذي يخترق جدار الزمن، لكم أنتم في هذا العالم الواسع.
إن زنزانتي، بكل ما فيها من قسوة، تشهد على عزم لا يلين وإيمان لا يموت بأن النور سيبزغ مهما طال الليل. هنا، خلف هذه القضبان، تتشكل إرادة الحياة، تزهر آمال وتنبت أحلام، كلها تنمو بصمت، تتسلق جدران القهر، ترتقي فوق آلام السنين.
فليعلم العالم أن من خلف هذه القضبان، من قلب هذا الظلام، يخرج نداء الحرية، يتوهج كالبرق، يضيء الطريق لمن يسعون نحو العدل. صوتي، الذي يخترق جدار أربعة قرون، ليس مجرد صدى آهات؛ إنه تمرد على الاستسلام، إنه شرارة أمل في الأعماق اليأس، إنه تذكير بأن الإنسان، مهما طال به القيد، يظل حراً في جوهره، عصياً على الانكسار.
وإن كانت الجدران تحجب الرؤية، والقضبان تعيق الحركة، فإن الروح تظل طليقة، تحلق عالياً فوق الظلمات، تخترق غيوم القهر، وتسافر إلى حيث الأفق بلا حدود، تروي قصص الأمس للغد، تنقل تجارب وعِبر، وتبعث في النفوس قوة الحياة وعزيمة الاستمرار.
كل ليلة، في هذه الزنزانة الضيقة، أرفع صوتي مردداً ترانيم الحرية، صادحاً بأناشيد الأمل. صوتي، المكبل بأصفاد الزمن، يصبح جسراً يعبر به الصدى، ينقل الرسائل عبر الأجيال. صوتي يحمل رواية شعب، تمسك بخيوط الفجر، تناجي الأحرار، وتحثهم على السير قدماً نحو مستقبل مشرق، حيث الظلم مجرد ذكرى بائسة في صفحات التاريخ.
في صمت الليل البهيم، حين تسكن الأصوات ويخلد العالم للنوم، أرسل دعوتي عبر الزمان، معلناً أن القيد لن يكون إلا مرحلة، وأن كل جدار، مهما علا، لابد له من يوم يتهاوى. إن دعوتي هي صرخة في وجه الظلم، وهي البصيص الذي يتسلل من بين الظلمات، يُنير درب الساعين نحو العدل.
واليوم، وأنا ما زلت خلف هذه القضبان، أرى الأجيال تتسلم راية النضال، تواصل الكفاح حيث توقف السابقون. الأحفاد يسيرون على درب الأجداد، مُحيين ذكرى كل من نادى وصاح من خلف القضبان، ومن كل زاوية من هذا العالم المترامي الأطراف.
إن صوتي، رغم القيود، يحلق حراً، يخترق جدران القرون، ويمس كل من يصغي بقلبه لهذه الدعوة الخالدة. لتبقى الحرية الحلم الذي لا ينام، النجم الذي لا يغيب، والقصيدة التي لا تنتهي أبداً.