أصوات لم تخبُ: الذكرى العاشرة لاختطاف مدرسي وموظفي كوباني
بقلم: د. عدنان بوزان
في قلب مدينة كوباني، حيث تتشابك خيوط التاريخ مع آلام الحاضر، تظل الأرض شاهدة على صرخات أمل لم تخفت وذكريات مأساة لم تندمل. هذه المدينة، التي تحولت إلى رمز للمقاومة والصمود في وجه أقسى الظروف، تحمل بين ثناياها حكايات الأرواح التي طواها النسيان، والأصوات التي لم تخبُ. من أزقتها المهدمة إلى ميادينها التي عانقت دموع الفراق، ينبعث صدى المأساة التي تعددت فصولها لكن بقيت جوهرها واحداً: الألم المستديم والفقد الغائر.
عشر سنوات مضت على ذلك اليوم المشؤوم، السابع من مايو عام 2014، حين اختُطف 18 من مدرسي وموظفي كوباني، هؤلاء الذين خرجوا لقبض رواتبهم ولم يعودوا أبداً كما كانوا. بعضهم وجد طريقه إلى الحرية، بينما ظل مصير الآخرين معلقاً في غياهب الجهل والتساؤلات التي لا تنتهي. هذه الذكرى ليست مجرد تاريخ يعاد كل عام، بل هي صرخة مدوية تذكرنا بأن هناك أرواحاً لا تزال تنتظر العدالة، وأسراً لا تزال تبحث عن سلام.
"أصوات لم تخبُ" ليست مجرد عنوان لتذكار، بل هي وصف دقيق لإرادة شعب كوباني ومعاناته المستمرة. كل شخص مختطف، كل صوت غائب، كل دمعة أم وأب وطفل، تشكل جزءاً لا يتجزأ من نسيج هذه المدينة التي ترفض أن تُنسى أو تُهمل. في كل زاوية من زواياها، في كل شارع وفي كل بيت، يعيش الأمل والألم جنباً إلى جنب، يتحدان في إصرار لا يلين على مواصلة الحياة والنضال من أجل الحقيقة والعدالة.
كوباني، بأرواحها وأحلامها، تستحق أكثر من مجرد كلمات. تستحق أن تُروى قصتها بكل تفاصيلها المؤلمة، ليس لتحيي الألم، بل لتُظهر مدى الشجاعة والقوة التي يمتلكها الإنسان حين يواجه الظلم ويقف في وجه العواصف.
كوباني، الأرض التي رُويت بدماء أبنائها، تقف شامخة وإن كانت جريحة، تعبر عن مأساة أعمق من مجرد خطوط حروب متقاطعة. في كل شبر من ترابها قصة بطولة، وفي كل نسمة هواء، آهات من نجا من ليل لا ينتهي. تلك المدينة التي حولتها ظروف الصراع إلى رمز عالمي للمقاومة، لم تكن يوماً مجرد نقطة في خارطة النزاعات؛ بل كانت، وما زالت، قلباً ينبض بالحياة، بالتحدي، وبالأمل.
المدينة التي تعرضت للحصار والدمار، وشهدت أفظع الفظائع، لم تنثنِ أمام جبروت العدوان. وفي الذكرى العاشرة لاختطاف مدرسيها وموظفيها، تبرز كوباني كمعلم للذاكرة الجماعية، حيث الحزن والكرامة يمزجان في قصة كفاح مستمر. لم يكن هؤلاء الرجال والنساء مجرد أرقام في سجل الغائبين، بل كانوا حراس المعرفة، أولئك الذين حملوا مشعل التعليم والثقافة، وأضاءوا عقول الأجيال القادمة بنور العلم والفكر في أحلق الظروف.
وعلى الرغم من الألم الذي يخيم على المدينة، فإن إرادة الحياة تظل قوية، والأصوات التي لم تخبُ تتحدى النسيان. في كل يوم، تستمر الأمهات والآباء في سرد قصص من غابوا، ليس لتكريس الحزن، بل لإعلاء قيم العدالة والإنسانية التي ضحى من أجلها أحباؤهم. يستمر أهالي كوباني في مطالبتهم بالحقيقة والعدالة، فلا شيء يستطيع أن يهدئ روعهم سوى العودة المشرفة لكل مفقود، أو الكشف عن مصيره بشفافية تريح القلوب المثقلة بالانتظار.
في هذه الذكرى ، تبقى كوباني، بكل ما تحمله من معاني الصمود والألم، دليلاً حياً على أن الأمل، مهما ضعف، لا يموت. وأن الذكرى، مهما طال الزمن، لا تتلاشى. إنها دعوة لكل ضمير حي، لكل صوت يمكن أن يصدح، ليتجاوز الصمت الذي يحيط بمآسي مثل هذه، وليعيد للإنسانية بعض ما فقدته من ضمير.
في ذكرى العاشرة للغياب، تتجدد آلام جرح لم يندمل. على طريق قره قوزاق، حيث تتشابك أرواح الفرات بمأساة لم تبرح مكانها، يعود الصدى مجدداً يحمل أصداء ذلك اليوم المشؤوم: السابع من مايو 2014، اليوم الذي تلاشت فيه ملامح 18 من مدرسي وموظفي مدينة كوباني، أولئك الذين غادروا بحثاً عن قوت يومهم وعادوا كذكرى مؤلمة لم تغادر الذاكرة.
كانت كوباني تلك البقعة من الأرض التي تجسد العزم والصمود في وجه أعتى العواصف. لكن في تلك اللحظات المفصلية، حيث كان الأمان يبدو كأمر مفروغ منه لبضع لحظات، خطف القدر أرواحاً كانت موؤودة بالأمل والعطاء. تحول الرجوع بالرواتب إلى رحلة اختطاف مروعة على يد تنظيم الإرهابي (داعش)، ذلك الوحش الذي لم يكتفِ بإرهاب الجسد، بل زرع الرعب في كل قلب ينبض بحب الحياة والحرية.
ما زال مصير 11 منهم مجهولاً، وما زالت أسماؤهم تنادي في الفراغ الذي خلفوه: محمود، علي، عبدالحميد، صبري، عزيز، عصمت، مصطفى، عبدالقادر، بكري، عبدو، محمود... معلمون وموجهون ومدراء، كل منهم كان له دور في نسج مستقبل أفضل لأجيال كوباني. غيابهم ليس فقداناً لأفراد فحسب، بل إخلاء لجزء لا يتجزأ من النسيج التعليمي والاجتماعي للمدينة.
أفرج عن سبعة منهم، ولكن حتى في الحرية، كيف يمكن للروح أن تتحرر من ثقل الذكريات والتساؤلات؟ كيف يمكن لهم أن ينسوا أولئك الذين تركوهم خلفهم؟ الفرجة بين المعرفة والجهل، بين الحياة والغموض، تستمر في تعذيب أولئك الذين عادوا وأسر الذين فقدوا أحباءهم.
اليوم، ونحن نحيي هذه الذكرى المؤلمة، نقف إجلالاً واحتراماً لذكرى هؤلاء الشهداء والمخطوفين والمفقودين. تبقى قصصهم شاهدة على الوحشية التي يمكن أن يرتكبها الإنسان ضد أمثاله. ولكن، بالمقابل، تبقى أيضاً شاهدة على الصلابة والتحدي اللذين يمكن أن يظهرهما الإنسان في وجه أشد التحديات قسوة.
في ظل الظروف القاسية التي تواجه كوباني وسوريا بأكملها، تتحول الذكرى السنوية لهذا الحدث المأساوي إلى رمز للمعاناة الإنسانية والصمود في وجه الظلم. إن الاستمرار في الذكرى والتذكير بالمخطوفين ليس فقط واجباً أخلاقياً نحوهم ونحو عائلاتهم، بل هو أيضاً تأكيد على رفض النسيان والإصرار على العدالة والمحاسبة.
كل يوم يمر دون معرفة مصير هؤلاء الـ11 الغائبين، يزيد من وطأة الألم والحزن الذي تشعر به مجتمعاتهم. كل يوم بدون إجابات هو تذكير بأن هناك جروحاً لا تزال مفتوحة، تنتظر من يداويها. ومع أن الزمن يمر، فإن الأمل في عودتهم لا يزال يتقد في قلوب أحبائهم، معلقين آمالهم على شعاع نور يخترق ظلمات الغموض.
لا يمكن للكلمات أن تعيد الوقت إلى الوراء، ولا يمكنها أن تملأ الفراغ الذي خلفه الغائبون. لكنها قادرة على حمل الحقيقة، وإلقاء الضوء على الظلم، ومطالبة العالم بألا يتجاهل مأساة صغيرة في بحر المآسي الكبرى التي تجتاح عالمنا.
لذا، نكتب اليوم لنعيد إلى الأذهان قصص هؤلاء الرجال والنساء الذين تحولوا إلى أرقام في سجلات المفقودين، لكنهم في الحقيقة هم آباء وأمهات، أخوة وأخوات، أصدقاء وزملاء، كل واحد منهم كان له حلمه وحياته التي انقطعت فجأة. ونحن نقف اليوم، متحدين في الذكرى، مصممين على ألا ننسى وأن نستمر في المطالبة بعودتهم، أو على الأقل، بمعرفة ما حدث لهم. إن العدالة، مهما طال انتظارها، يجب أن تتحقق يوماً ما لكوباني ولكل أرواحها المفقودة.
إن إحياء ذكرى هؤلاء الأفراد يتجاوز مجرد الإشارة إلى مأساتهم؛ إنه يعكس التزام مجتمع بأكمله بعدم التخلي عن أعضائه، حتى في أحلك الأوقات. يعكس الإيمان بأن الإنسانية، على الرغم من كل ما تعانيه من ضياع ودمار، لا زالت قادرة على النهوض والمطالبة بالحق والكرامة الإنسانية.
لذا، في هذه الذكرى العاشرة، ندعو المجتمع الدولي، الحكومات، المنظمات الإنسانية، وكل ذوي الضمائر الحية لتجديد الجهود من أجل الكشف عن مصير المفقودين وتقديم المسؤولين عن هذه الجرائم للعدالة. إنها ليست مجرد قضية محلية تخص كوباني أو سوريا فحسب؛ بل هي قضية عالمية تمس جوهر حقوق الإنسان والعدالة الدولية.
تتجاوز معاناة كوباني الحدود الجغرافية لتصبح رمزاً للمقاومة والتحدي، وكذلك رمزاً للألم الإنساني الذي يستمر دون انقطاع. إن الذاكرة الجماعية لهذه الأحداث تشكل جزءاً لا يتجزأ من النسيج الثقافي والتاريخي، ويجب أن تظل حية لتذكرنا دائماً بالتكلفة البشرية للصراعات والظلم.
في هذه الذكرى العاشرة، نستذكر ليس فقط الذين اختفوا، بل نستذكر أيضاً البسالة والشجاعة التي أظهرها أهالي كوباني والناجون من هذه الفظائع. نستذكر معاناة الأمهات والآباء الذين لم ينتهوا بعد من مراسم الحداد، الأطفال الذين نموا بدون آباء، والمعلمين الذين فقدوا زملاءهم.
لكن، مع كل ذلك، نستذكر أيضاً أن الأمل يمكن أن يولد من رحم المعاناة. وبهذا الأمل، نستمر في المطالبة بالحقيقة والعدالة، ونستمر في الصراع من أجل مستقبل أفضل حيث تُحترم الحياة الإنسانية وتُصان. إن العدالة المؤجلة لا يمكن أن تكون عدالة مفقودة؛ بل هي شعلة نحملها جميعاً، تضيء درب الأجيال القادمة نحو عالم أكثر إنصافاً وإنسانية.
- أسماء و صور المختطفين والمفقودين من الأعلى و اليمين و عددهم (١١):
1- محمود عبدو: مدرس اللغة الإنكليزية في مدرسة إعدادية الوحدة في مدينة كوباني (من بلدة شيران).
٢- علي عطي: مرشد نفسي في مدرسة إعدادية الوحدة في مدينة كوباني (من قرية تل غزال).
٣- عبدالحميد محمد حسن: مدرس رياضيات - فيزياء - كيمياء في مدرسة إعدادية الوحدة في مدينة كوباني (من بلدة شيران).
٤- صبري محمد عبدي: مدير مدرسة إعدادية الوحدة و مدرس رياضيات - فيزياء - كيمياء في مدينة كوباني (من قرية عين البط).
٥- عزيز بوزان صالو: أمين سرّ مدرسة إعدادية الوحدة في مدينة كوباني (من قرية گربلكه).
٦- عصمت محمد علي: أمين مكتبة التربية في مدينة كوباني (من قرية خزينة).
٧- مصطفى محمود مسلم: مدرس اللغة العربية في مدرسة إعدادية الوحدة في مدينة كوباني، أفرج عنه هذه المرّة و اختطف مرّة أخرى بتاريخ ٢٨-٠٨-٢٠١٤ في بلدة صرّين و ما زال مصيره مجهولاً (من مدينة كوباني).
٨- عبدالقادر عثمان زيتو: مدرس رياضيات - فيزياء - كيمياء في مدرسة إعدادية الوحدة في مدينة كوباني (من قرية قجر فوقاني).
٩- بكري حسي محمود: مدير مركز تموين كوباني سابقاً (من قرية قره قوي تحتاني).
١٠- عبدو أحمد: موجّه في مدرسة إعدادية الوحدة في مدينة كوباني (من قرية كوسك).
١١- محمود محمد محمد: موظف في مدرسة إعدادية الوحدة في مدينة كوباني (من قرية جبنة).
- المفرج عنهم و عددهم (٧):
١- موسى علي: أمين سرّ معلوماتية في مدرسة إعدادية الوحدة في مدينة كوباني (من قرية زورآفا).
٢- مجد عليوي: موجّه في مدرسة إعدادية الوحدة في مدينة كوباني (من بلدة شيوخ).
٣- مزكين أحمد: مدرس اللغة العربية في مدرسة إعدادية الوحدة في مدينة كوباني (من قرية كوسك).
٤- رجب عبدو العلي: مدير مدرسة ثانوية البنين في مدينة كوباني سابقاً (من قرية خزينة).
٥- محمد مسي: مدرس التاريخ في مدرسة إعدادية الوحدة في مدينة كوباني (من قرية مَوجكه).
٦- كردو شيخي: مدرس اللغة العربية في مدرسة إعدادية الوحدة في مدينة كوباني.
٧- يوسف علي (أوسب): سائق سرفيس (من قرية خزينة).