قصة مملكة المجانين
بقلم: د. عدنان بوزان
في مملكة بعيدة عبر التاريخ والزمن، كانت تعيش أمة مترابطة وقوية تحت حكم ملك حكيم معروف بحكمه وعدله. كانت المملكة معروفة بحضارتها المزدهرة وثرائها الكبير، حيث عاش الناس في سعادة وطمأنينة تحت رعاية الملك ووزيره الحكيم، الذي لم يكن أقل حكمةً وبصيرةً من الملك نفسه.
في أحد الأيام، وبينما كان الملك يجلس في قصره الواسع ينظر إلى حدائقه الخضراء وجنوده الأوفياء، دخل عليه الوزير الحكيم، وهو رجل ذو لحية بيضاء وعينين ثاقبتين. كانت ملامحه تحمل دائماً تعبيرات الجدية والتفكير العميق. حيا الوزير الملك برفع يده وقال له: "مولاي، جئت بخبرٍ مذهل. تلقيت أخباراً مقلقة من علماء الفلك والمناخ في مملكتنا. أن هناك تنبؤات تشير إلى أن الأمطار القادمة ستحمل معها شيئاً غريباً، شيئاً يُسمى "ماء الجنون". هذا الماء، سيؤدي إلى جنون كل من شرب منه.
تجهم الملك وسأله بقلق: "وما هي هذه الأخبار يا وزير؟"
رد الوزير: "تقول التنبؤات إن أمطاراً غريبة ستسقط على مملكتنا، ومن يشرب من مياهها سيفقد عقله ويصاب بالجنون."
استشاط الملك غضباً وقلقاً، فقد كان يحترم شعبه ويعشق سلامته وسعادته. نظر إلى الوزير وسأله: "وماذا علينا أن نفعل يا حكيمنا؟"
فكر الوزير للحظة ثم أجاب بحكمة: "علينا أن نبني خزانات كبيرة لنخزن فيها المياه النقية قبل هطول الأمطار، كي نشرب منها نحن وشعبنا عندما يأتي وقت الجنون."
وافق الملك على الفور، وأمر ببناء الخزانات العملاقة في كل أنحاء المملكة، ليتم تخزين المياه فيها. وبالفعل، بدأت العمال في بناء الخزانات بكل جدٍ واجتهاد، وكان الجميع يأملون أن تذهب هذه الأمطار الملعونة دون أن تصيب أحداً بأذى.
مرت الأيام، وجاءت الأمطار كما تنبأ العلماء تلك الزمن في المملكة. كان المطر يبدو طبيعياً، لكنه كان محملاً بماء الجنون. شرب الناس منه، وبدأ الجنون يسيطر على المملكة. تغيرت تصرفاتهم وأفكارهم، وأصبحوا يسلكون سلوكيات غريبة لم يعهدها أحد منهم. لم يشرب الملك والوزير الحكيم من ماء المطر، فقد كانوا حريصين على شرب الماء المخزن فقط. ولذا، بقيا عاقلين بينما كان الجميع من حولهم مجانين. لكن مع مرور الوقت، لاحظ الناس أن تصرفات الملك والوزير مختلفة، وبدأوا يظنون أن الملك ووزيره هما المجنونان.
اجتمع الناس وبدأوا يسخرون من الملك ووزيره، ويتهمونهما بالجنون. كانوا يضحكون ويتهكمون، وأصبح الملك والوزير معزولين في قصرهما، يتجنبون المواجهة مع الناس.
قال الملك للوزير الحكيم: "يا حكيمنا، لقد أصبحنا نحن الآن الغرباء في مملكتنا. ما الذي علينا أن نفعله؟"
رد الوزير: "يا مولاي، بعدما أصيب الناس بالجنون تبدلت تصرفاتهم ولم يلاحظوا أنفسهم. نحن اثنان فقط وهم شعب كامل، لن نستطيع إقناع الملايين بأنهم مجانين. لا سبيل لنا سوى أن نشرب من ماء الجنون لنصبح مثلهم كي يتقبلونا بينهم."
فكر الملك ملياً ثم سأل: "لكن لماذا لا نرحل إلى مكان آخر؟"
أجاب الوزير بحزن: "ماذا لو أن أمطار الجنون هطلت في كل مكان؟ لن يكون هناك ملجأ لنا. نحن بحاجة للبقاء مع شعبنا، فهم أهلنا وملكنا هنا."
أخذ الملك نفساً عميقاً، ونظر في عيون الوزير. كان القرار صعباً، ولكنه لم يكن يرى خياراً آخر. وافق على رأي الوزير وشربا ماء الجنون. ومع مرور الوقت، أصبحا مثل باقي الناس، وعادت المملكة إلى ما كانت عليه من قبل، ولكنها كانت مملكة من الجنون.
لكن رغم ذلك، عاش الجميع في سعادة لأنهم جميعاً كانوا متشابهين، ولم يكن هناك أحد يشعر بالغرابة أو الوحدة. وهكذا، استمرت الحياة في المملكة، حيث كان الجنون هو القاعدة، والعقل هو الاستثناء.
مرت السنوات وتحولت المملكة إلى ما يمكن وصفه بمملكة الجنون السعيد. كانت الحياة اليومية مليئة بالعفوية والإبداع الذي جلبه الجنون، حيث كانت الأفكار والمشاريع تخرج عن المألوف وتثير الحماسة في قلوب الجميع. في هذا العالم الفريد، لم يعد هناك مكان للمنطق الصارم، بل كانت الأحلام والخيالات هي ما يحرك الناس ويجعلهم يتقدمون.
ولكن، في يوم من الأيام، حدث ما لم يكن في الحسبان. جاءت إلى المملكة عاصفة جديدة، ولكن هذه المرة لم تكن محملة بماء الجنون، بل بماء الحكمة والعقلانية. بدأت الأمطار تتساقط، وأخذ الناس يشربون منها دون أن يدركوا أن هذه المياه ستعيد إليهم عقولهم السابقة.
استفاق الناس في المملكة، واحداً تلو الآخر، على حقيقة ما حدث. بدأت العقول تستعيد وضوحها، وبدأ الناس يتذكرون كيف كانت حياتهم قبل الجنون. عاد الملك والوزير الحكيم إلى حالتهما العقلانية، وبدأت الأحاديث تدور حول ما إذا كانت العودة إلى الحياة العقلانية تعني نهاية السعادة التي عاشوها.
تجمع الناس في الساحة الكبرى للمملكة، حيث وقف الملك يخاطب شعبه قائلاً: "أيها الشعب العظيم، لقد عشنا سنوات في جنون مشترك وجعلنا منه وسيلة للسعادة والاتحاد. والآن، بعد أن عادت إلينا عقولنا، علينا أن نتساءل: ماذا تعلمنا؟ وما الذي سنفعله الآن؟"
صمت الجميع لحظة، ثم تقدم أحد المواطنين وقال: "يا مولاي، لقد تعلمنا أن السعادة ليست في الجنون ولا في العقلانية، بل في القدرة على التكيف والتفهم والعمل معاً. لنعمل معاً لنجد توازناً بين الحكمة والإبداع، بين العقل والجنون."
أدرك الملك والوزير أن شعبهما قد نضج وأنهم أصبحوا قادرين على مزج الحكمة بالعفوية. قرروا إعادة بناء المملكة، ولكن هذه المرة بأسلوب يجمع بين العقلانية والإبداع. بدأت المشاريع الجديدة تأخذ شكلاً متوازناً، حيث كانت الأفكار المبتكرة تُدرس بعناية وحكمة قبل تنفيذها.
في السنوات التالية، أصبحت المملكة رمزاً للاتزان والتفاهم. الناس يعيشون بوعي أكبر، لكنهم لم يفقدوا تلك الشرارة من الجنون الإبداعي الذي جعل حياتهم ممتعة ومليئة بالمفاجآت. أصبح الملك رمزاً للحكمة المتناغمة مع الإبداع، وأصبح الوزير هو المرشد الذي يمزج بين الماضي والحاضر لبناء مستقبل مشرق.
تعلمنا من هذه القصة أن الحكمة والإبداع يمكن أن يتعايشا ويكملا بعضهما البعض. ليس هناك ضرورة لاختيار طريق واحد، بل يمكننا أن نجد توازناً يجعل حياتنا أكثر غنى وسعادة. أحياناً، يتطلب الأمر بعض الجنون لنفهم جمال الحياة، وأحياناً يتطلب الأمر الحكمة لنعيش بسلام وتوازن. في النهاية، السعادة تكمن في القدرة على التكيف والتفهم والعمل معاً لبناء مستقبل أفضل. في النهاية، عاشت المملكة بسلام ووئام، يجمع شعبها بين جنون الإبداع وحكمة العقل. كان الملك والوزير قدوة للجميع في كيفية مزج الأفكار وتحقيق التوازن، مما جعل مملكتهم مكاناً فريداً ومثالياً للتناغم والسعادة.
ـــــــــــــــــــــ
ملاحظة1: أخذت الفكرة من الأساطير الشعبية ،
ملاحظة2: في زمننا الحالي، نجد أنفسنا غالباً ما نعيش في حالة من الضياع، محاصرين بين همجية الأفكار وأمواج الهجرة والطوفان الفوضى. يبدو أن العالم يشهد تحولات هائلة وتحديات كبيرة، مما يجعلنا نفقد التوازن والثبات في تقييم وتفسير ما يحدث من حولنا. تصاعد الصراعات والصراعات الثقافية والسياسية، جنباً إلى جنب مع التغيرات الاقتصادية والاجتماعية، يمكن أن تتركنا في حيرة وتشتت، دون قدرة على تحديد الاتجاه الصحيح أو التصرف بشكل فعال.
هذه الحالة من الضياع تظهر بوضوح في تعقيدات الحياة اليومية، حيث يتعذر علينا في بعض الأحيان فهم الأحداث وتفسيرها بشكل منطقي. الهجرة والتهجير تضفي على المشهد صعوبة إضافية، حيث يجد الناس أنفسهم مضطرين لترك بيوتهم وأوطانهم بحثاً عن أمان وفرص جديدة. وفي ظل هذا الفوضى، يصبح من الصعب تحديد ما هو الصواب والخطأ، ويصبح التوجه نحو الحلول الشاملة والفعّالة أمراً أكثر تعقيداً.
لذا، فإن فهم تلك التحديات والتعامل معها بفعالية يتطلب قدراً كبيراً من الحكمة والتصميم. يجب أن نتعلم كيف نتعامل مع الضغوطات والتحولات بشكل أفضل، ونبحث عن الحلول العملية والمستدامة التي تساهم في تحقيق الاستقرار والتقدم.