التغريبة السورية: قصة الحلم المسلوب

بقلم: د. عدنان بوزان

في إحدى الليالي الهادئة، تحت سماء مليئة بالنجوم، جلس أحمد بجانب والده على الشرفة المطلة على البستان الصغير في قريتهم الهادئة في سوريا. كان الهواء عليلاً والهدوء يسود المكان، إلا أن قلب أحمد كان مضطرباً، مليئاً بالأسئلة التي لا تنتهي.

نظر أحمد إلى والده، الذي كان يتأمل النجوم بصمت. جمع شجاعته وقال بصوت منخفض: "أبي، أريد أن أبقى هنا. أريد أن أعيش. لا أريد أن أموت ولا الرحيل من أرضي ووطني وبيتي." التفت والده إليه، بعينين تملؤهما الحزن والأمل في آن واحد. وضع يده على كتف أحمد وقال: "يا بني، أفهم شعورك. هذا المكان هو وطننا، هنا ولدت وهنا ترعرعت. لكن الأوضاع أصبحت خطيرة جداً. الحرب لا ترحم أحداً."

بدأ والد أحمد بسرد قصته وكأنها قصة من الماضي البعيد، رغم أن الأحداث كانت قريبة وقاسية. "عندما بدأت الثورة في سوريا، كان لدينا أمل كبير في التغيير. كنا نحلم بحياة أفضل، بحرية وكرامة. ولكن، سرعان ما تحول الحلم إلى كابوس. اشتدت النزاعات، واشتعلت الحرب في كل زاوية من وطننا. اضطررنا للهروب من القرى والمدن، حاملين معنا فقط ذكرياتنا وآمالنا الممزقة."

"يا أبي، لكن لماذا يجب علينا أن نترك كل شيء؟ لماذا لا نستطيع العيش بسلام هنا؟" تساءل أحمد بمرارة. أجابه والده: "لأن البقاء أصبح مخاطرة كبيرة، يا ولدي. نحن نعيش في خوف دائم من القصف والغارات. الكثير من أصدقائنا وأحبائنا فقدوا حياتهم. الرحيل قد يكون الخيار الوحيد لنحافظ على حياتنا ونمنحك مستقبلاً أفضل."

أحمد لم يكن مستعداً للرحيل. كل زاوية في قريتهم كانت تحمل ذكرى خاصة، كل شجرة في البستان كانت شاهداً على طفولته البريئة. "ولكن إلى أين سنذهب، يا أبي؟ كيف سنعيش بعيداً عن كل ما نعرفه؟" تساءل أحمد بصوت مليء بالقلق والخوف من المجهول.

ابتسم والده بحزن وقال: "الرحلة ستكون صعبة، لكننا سنجد طريقة لنبدأ من جديد. هناك الكثير من السوريين مثلك ومثلي، يبحثون عن الأمان والسلام في بلاد جديدة. ربما يكون الأمر صعباً في البداية، لكنني أعدك بأننا سنبقى معاً وسنبني حياة جديدة، مهما كانت الظروف."

مرّت الأيام سريعاً، وبدأت الأسرة تحضيراتها للرحيل. كانت عملية وداع مريرة لكل شيء اعتادوا عليه. كل حجر في البيت، كل طريق في القرية، كل صديق وجار. وفي ليلة مظلمة، بدأت رحلة التغريبة السورية لعائلة أحمد، رحلة مليئة بالتحديات والمخاطر، ولكنها كانت أيضاً رحلة أمل نحو مستقبل أفضل.

عبروا الحدود بشجاعة، على الرغم من المخاطر العديدة التي واجهتهم. ساروا في طرقات مجهولة، واضطروا للاعتماد على الغرباء للحصول على المأوى والطعام. ورغم الصعوبات، لم يفقد أحمد وأسرته الأمل. كان والد أحمد دائماً يذكّره بأن هذه التحديات مؤقتة، وأنهم سيجدون يوماً مكاناً يمكنهم أن يسموه وطناً جديداً.

وصلوا أخيراً إلى بلد أوروبي بعد رحلة طويلة وشاقة. استقبلتهم السلطات بترحيب حذر، وبدأت الأسرة محاولة التأقلم مع الحياة الجديدة. كان الأمر صعباً في البداية، حيث كانت اللغة والثقافة مختلفتين تماماً. لكن أحمد وجد العزاء في الكتب والمدرسة، حيث تمكن من التعلم والاندماج مع أقرانه الجدد.

مرت السنوات، وكبر أحمد وأصبح شاباً يافعاً. لم ينسَ أبداً وطنه الأم ولا القرى التي تركها خلفه. لكنه أدرك أن الحياة تمضي، وأنه يجب أن يستمر في السعي لتحقيق أحلامه. تخرج من الجامعة وأصبح مهندساً ناجحاً، يساهم في بناء مجتمع جديد ومساعدة اللاجئين الآخرين على الاندماج.

في أحد الأيام، جلس أحمد مع والده، كما كان يفعل في الماضي. نظر إلى السماء وتذكر تلك الليلة عندما أخبر والده بأنه لا يريد الرحيل. قال: "أبي، أنا ممتن لك لأنك قمت بما كان ضرورياً لحمايتنا. لم يكن الأمر سهلاً، لكننا نجونا وأصبح لدينا حياة جديدة."

ابتسم والده وقال: "يا أحمد، أنا فخور بك وبكل ما حققته. لقد علّمتني أن الأمل يمكن أن ينمو حتى في أصعب الظروف، وأن الإرادة القوية يمكن أن تتغلب على كل التحديات."

ـــــــــــ

قصة أحمد وعائلته هي واحدة من آلاف القصص التي تعكس التغريبة السورية. إنها قصة شعب اضطر لمغادرة وطنه بحثاً عن الأمان والسلام، لكنه لم يفقد الأمل أبداً في العودة إلى أرضه يوماً ما، أو بناء حياة جديدة في مكان آخر. هؤلاء اللاجئون ليسوا مجرد أرقام أو قصص حزينة؛ هم بشر مليئون بالأمل والإرادة، يسعون نحو مستقبل أفضل رغم كل الصعوبات التي واجهوها.

أضف تعليق


كود امني
تحديث

X

تحذير

لا يمكن النسخ!