الفجر الجديد: رحلة من الوداع إلى الأمل
بقلم: د. عدنان بوزان
بين ثنايا الليل المكلل بالسكون وقصص النجوم المنثورة، كتب كلماته الأخيرة، مسجياً رسالةً يحترق بها الحبر وتذوب الأحرف في الأسى. كان يود لو أن الزمن يعود قليلاً، ليتشاركا تعديل مسار الأيام العابثة التي لا تبالي بقلوب العشاق.
"كان بإمكان الأمور أن تتخذ مجرى آخر، حيث يكون النبض متوازناً، والأحلام مشتركة. ألا يمكن أن تتنازلي عن بعض الحواجز، كما كنت أزيح أنا الصخور عن دربك؟ كان من الممكن أن تتواصل الأصداء الصباحية، وأستيقظ على عبير كلماتك، وأن تغلقي ليلي بنجمة من نجماتك.
لكن ما أعترف به الآن لا يسمى حباً في دوائر العاديين، أو ربما هو حب، ولكن بمعنى أعظم، بمدى أرحب. فأنا الآن كيان من دون روح، من دون إحساس، بلا أي شيء يستحق الذكر. لم أظن يوماً أن قلبي سيطلب شخصاً بهذا القدر من العمق والإلحاح.
صدقي، أنتِ بهاء الأشياء الكئيبة، والحياة لكل جذوري العطشى. أشتاقك بشدة... بشدة لم أكن أعتقد أن للشوق أن يكون موجعاً هكذا. فما قيمة إغلاق الأبواب إن ظلت روحي تتأرجح على شرفات ذكراك؟
البُعد الآن يزيد الشوق حرقة. أعدك، هذه ستكون المرة الأخيرة التي أرسل فيها حروفي إليك. وداعاً، يا من كنتِ كل الروعة في عيوني."
ومع إسداله الستار على هذه الكلمات، ابتلعت الظلمة الحروف، تاركةً خلفها صدى الألم وروعة الحب الذي لم يعرف الكلل.
وهكذا، وقف على عتبة الفراق، يطوي صفحات روايتهما التي لم تكتمل، يراقب بعينين غائمتين كيف تنزلق الذكريات بين أصابعه كحبات الرمل الدقيقة. كل كلمة كتبها كانت كنقطة مطر في صحراء ظمأه، كانت تحيي زوايا قلبه الباهتة ولو للحظات، قبل أن تستقر على ورقة تنتظر الأبدية في صندوق مغلق.
همسات الليل الأخيرة تكاد تكون مرئية في الهواء، حيث السكون يتخلل الزمان، والأفكار تتسابق نحو معانقة الأمل الهارب. كان يشعر بأن كل خطوة نحو النهاية تعيده إلى بداياتهم المفعمة بالوعود والأحلام. في ذلك الوقت، كان العالم يبدو كبستان خضر يتفتح بلا تردد، والآن، تحول كل شيء إلى حديقة من الأزهار الذابلة.
أدرك بثقل قلب أن الأبواب المغلقة لا تحبس الأرواح التي تعلقت بكل نسمة عبرت عتباتها. روحه، التي كانت تحوم حولها، معلقة في فضاء ذكريات لم يكن بالإمكان محوها، ستظل تجوب أروقة الماضي، تبحث عن صدى صوتها، عن ضحكتها التي كانت تضيء أحلك الأيام.
"أشتاقك... لكنني أعدك، ستكون هذه الكلمات الأخيرة. لن أعكر صفو الوداع بالمزيد من الأحرف المؤلمة. وداعاً، يا من كنتِ كل الحياة بالنسبة لي."
بعد أن طوى الرسالة بعناية، وضعها في ظرف متقن الإغلاق، كأنه يحتجز داخله أنفاس قلبه الأخيرة. كانت الكتابة بمثابة علاج ومرارة في آن، وعلى الرغم من أن الألم كان شديداً، إلا أنه شعر بنوع من الارتياح لأنه قد قال أخيراً كل ما في قلبه.
أغلق عينيه، وتنفس بعمق، وهو يشعر بأن الرحلة التي بدأها معها قد وصلت إلى نهايتها، وأن الوقت قد حان ليبدأ فصلاً جديداً، فصلاً قد لا يكون مليئاً بالألوان الزاهية كما كان يوماً، ولكنه سيكون حقيقياً وصادقاً مع نفسه، حيث الأمل، مهما كان خافتاً، لا يزال يحمل في طياته إمكانية النمو والتجدد.
وهكذا، وقف هناك على أرضية غرفته، محاطاً بالصمت الذي يخترقه فقط صوت ضربات قلبه المتثاقلة. أدرك أن الألم قد يكون رفيقاً دائماً، لكنه كذلك معلماً يرشد إلى دروب النضج والتفهم. بعد كل ما مر به، أصبح أكثر قدرة على تقبل فكرة أن النهايات، مهما كانت قاسية، هي أيضاً بدايات لمسارات جديدة ربما تكون أكثر إشراقاً وأقل تعقيداً.
كان للظلام الذي حيك حول قلبه بريق خفيف، نور خافت يشبه نجماً بعيداً في السماء الرحبة، يذكّر بأنه حتى في أعماق اليأس، توجد فسحة للأمل. وأن كل نهاية هي في حقيقة الأمر ليست إلا نقطة تحول، دعوة لاستكشاف أعماق الذات واستخراج الدروس من تحت الرماد.
مشى بخطوات هادئة نحو النافذة، فتحها ليستقبل نسيم الفجر البارد. كانت السماء تتلون بأولى ضحكات الفجر، وهمسات النور تبدد ظلمات الليل. شعر بأن كل نسمة تحمل معها قصة جديدة، وكل شعاع من أشعة الشمس يحمل دعوة للبدء من جديد.
نظر إلى السماء الصافية، تلك اللوحة الفسيحة التي ترسم نفسها كل يوم بألوان جديدة ومختلفة، وأدرك أن الحياة، مثل السماء، لا تتوقف عند لحظة معينة أو ظرف مؤلم، بل هي استمرار وتجدد دائم. كل لحظة تعطي فرصة لخلق شيء جديد، لترميم ما تهدم من الداخل ولبناء جسور جديدة تربط بين الأمس والغد.
أغلق النافذة ببطء، وهو يشعر بروحه تتخفف شيئاً فشيئاً من عبء الألم. ومع عودته إلى السرير، وضع الظرف بجانبه، ونظر إليه للحظة طويلة. كان يعلم أن تلك الرسالة الأخيرة، رغم كل ما حملته من وداع، هي أيضاً تعبير عن الاستمرارية، تذكير بأن الحياة، مثل القصص، لا تنتهي بالكلمات الأخيرة، بل تترك دائماً مساحة للتأمل والتفكير فيما يمكن أن يأتي بعد ذلك. الرسالة، مع كل الألم الذي تحمله، كانت بمثابة جسر إلى فهم أعمق للذات والعلاقات والحياة بشكل عام.
بينما استلقى تحت غطاء سريره، تسربت إليه ذكريات الأيام التي مضت، تلك التي شكلت جزءاً من نسيج حياته. كانت هناك لحظات الضحك التي امتزجت بالدموع، والأحلام التي رسمت معاً في أمسيات لا تُنسى، كلها كانت تنبض بحياة لم تفقد بريقها حتى في ظل الوداع. ورغم الفجوة العميقة التي خلفها الرحيل، فإن الذكريات تبقى كنزاً لا يُستهان به، ذخيرة تحمي من قسوة الأيام.
في الصمت المحيط وتحت ضوء القمر الخافت الذي يتسلل عبر النافذة، بدأ يفهم أن الحياة لا تُقاس باللحظات التي نفقدها وإنما بكيفية استعادتنا لأنفسنا بعد كل خسارة. القوة لا تكمن في عدم الشعور بالألم، وإنما في القدرة على التحمل والتعافي.
تنهد بعمق، وهو يدرك أن كل نهاية هي في الواقع دعوة للبداية من جديد، لا سيما بداية رحلة داخلية نحو استكشاف معانٍ أعمق وأكثر صدقاً للحياة. الحب والفراق، اللقاء والوداع، كلها ألوان تزيّن لوحة الوجود الإنساني، وكل لون يضفي عليها ظلاله الخاصة التي تُثري الفهم الإنساني.
أدرك أنه بينما قد تبدو بعض الفصول مغلقة، هناك دائماً فصول أخرى تنتظر أن تُكتب. ومع إشراقة كل يوم، يُمنح الفرصة لرسم معالم جديدة، لتعريف السعادة والرضا بأشكال جديدة، ولفتح صفحات جديدة مليئة بالفرص للنمو والتعلم.
بهذه الأفكار، غلبه النعاس أخيراً، وسلم نفسه لأحضان النوم، محملاً بالأمل في أن الغد سيكون مشرقاً بقدر ما هو مليء بالتحديات، وأن في استطاعته مواجهة كل تحدي بقلب جديد وعزم لا يلين.