مسافة الرحيل: حين يصبح الانسحاب طريقاً للسلام الداخلي

بقلم: د. عدنان بوزان

بدأت أنسحب من حياة بعض البشر، ليس لأنني أكرههم بالفعل، بل لأني أخشى أن يصل الكره في قلبي إلى نقطة اللاعودة. في أعماق النفس، نعلم جميعاً أن هناك حدوداً خفية، أن هناك حدوداً لقدرتنا على التحمل، حدوداً تتلاشى فيها الصداقة، وتضمحل فيها المحبة، لتترك خلفها فراغاً قاتماً من الخيبة والحزن. لذلك، وجدت نفسي أسير نحو ذلك الانسحاب بهدوء، كمن يبتعد عن حافة الهاوية قبل أن يسقط في قاعها السحيق.

الانسحاب هنا ليس هروباً بقدر ما هو حِرْصٌ على بقاء شيء من الصفاء الداخلي. ليس ضعفاً بل هو شجاعة، شجاعة التراجع قبل أن تتحول العلاقات إلى ساحة معركة خاسرة، يُقتل فيها الحب، وتدفن فيها الذكريات الجميلة تحت أنقاض الكلمات الجارحة والمواقف المؤلمة. أنسحب لأنني أعي جيداً أن المشاعر التي تبدأ بالتآكل تصبح سامة، تلوث الروح وتجعلها عبئاً ثقيلاً على النفس.

أحياناً يكون الانسحاب هو الخيار الوحيد الذي يضمن الحفاظ على ما تبقى من احترام الذات، وما تبقى من حب الآخرين. نتعلم عبر التجارب أن الحب وحده لا يكفي، وأن هناك أوقاتاً نحتاج فيها إلى الابتعاد حتى لا نغرق في بحر من المرارة والسخط. نتعلم أن المسافة قد تكون الدواء الذي يعيد التوازن إلى حياتنا، وأنها الطريقة الوحيدة لإبقاء الجروح صغيرة وسطحية، قبل أن تتحول إلى ندوب عميقة لا تندمل.

في هذه المسافة التي أخلقها بيني وبين الآخرين، أجد وقتاً للتأمل والتفكير. أكتشف أنني لم أكن غاضباً منهم بقدر ما كنت غاضباً من نفسي، لأنني سمحت لبعض الأشياء أن تتفاقم دون تدخل، لأنني تركت بعض العلاقات تستمر رغم علمي بأنها تسير نحو الهاوية. أدرك أن الانسحاب ليس مجرد تخلٍّ عن الآخرين، بل هو أيضاً نوع من التصالح مع النفس، مع ذلك الجزء من القلب الذي تعب من المحاولات المستميتة للحفاظ على ما لم يعد يستحق.

هذا الانسحاب هو طريقتي في إعادة ترتيب حياتي، في غربلة العلاقات واختيار ما يستحق الاستمرار. هو طريقة في الحفاظ على السلام الداخلي الذي يتعرض للاهتزاز في كل مرة أواجه فيها خيبة أو خذلان. في الابتعاد، أجد القوة التي كنت أبحث عنها، قوة القول "كفى" قبل أن يتفاقم الأمر ويصبح "الكثير" هو القليل. أدرك أن هناك علاقات في حياتنا تبدأ جميلة، لكنها لا تستمر بنفس الجمال، بل قد تتحول إلى شيء آخر، شيء يعكر صفو الروح.

أنسحب لأنني أريد أن أحافظ على ذكريات جميلة عشناها معاً، لا أريد أن أدع الأمور تتدهور إلى حيث يختفي هذا الجمال تحت ركام من المشاعر السلبية. أريد أن أحتفظ بالحب في قلبه النقي، وليس في صورته المشوهة التي تخلقها المعارك النفسية. في هذا الانسحاب، أجد فرصة لإعادة اكتشاف نفسي، بعيداً عن تأثيرات الآخرين، بعيداً عن ضغوط العلاقات المعقدة التي تستنزف طاقتي.

هذا القرار ليس سهلاً، بل هو مليء بالتحديات. في كل خطوة أتخذها للابتعاد، هناك جزء مني يتساءل عما إذا كنت أفعل الشيء الصحيح. لكنني أعي في قرارة نفسي أن هذا هو الطريق الأفضل للحفاظ على السلام الداخلي، للحفاظ على تلك الشرارة الصغيرة من النقاء في قلبي. أرفض أن أكون شخصاً مليئاً بالكراهية أو السخط، وأرفض أن أسمح لتلك المشاعر أن تسيطر على حياتي.

في نهاية المطاف، الانسحاب ليس نهاية العلاقة بقدر ما هو إعادة تعريفها، إعادة تقييمها، ووضعها في مكانها الصحيح. هو اعتراف بأننا بشر، بأننا نحمل داخلنا مشاعر معقدة، وأننا بحاجة إلى مسافة أحياناً لفهمها وإدارتها. هو خطوة نحو حياة أكثر توازناً، نحو قلب أكثر نقاءً، ونحو مستقبل يحمل في طياته فرصاً جديدة، علاقات أعمق وأصدق، وتجارب تجعلنا أقوى وأكثر حكمة.

أنسحب لأنني أريد أن أظل وفياً لنفسي، لأظل قادراً على الحب دون أن يتحول إلى عبء أو ألم. أنسحب لأني أعي أن بعض العلاقات تحتاج إلى مسافة لتزدهر، أو لتنتهي بسلام. في هذا الانسحاب، أجد طريقاً نحو الذات، نحو فهم أعمق لمعنى العلاقات، وللحدود التي يجب أن نضعها للحفاظ على نقاء الروح. هو انسحاب بحب، انسحاب بوعي، وانسحاب يمنحني القدرة على الاستمرار في الحياة بسلام داخلي.

أضف تعليق


كود امني
تحديث

X

تحذير

لا يمكن النسخ!