خمسون عاماً.. أصرخ وأعاني من الجهلاء
بقلم: د. عدنان بوزان
خمسون عاماً مرت وأنا أتنقل بين ظلال الجهل ونوره الخافت. أصرخ في وجه هذا الجهل المستشري في كل زاوية، أتحدى القيود التي وضعها المجتمع على الفكر والروح، لكن الصدى يعود إليّ محملاً بحجارة الصمت أو برماح الاتهام. كيف يمكن لعقودٍ من الزمن أن تمر، ولا يزال الجاهل يرفع صوته ليخرس العقول، يحاول أن يطفئ نور الفكر الذي يحاول أن يشق طريقه بصعوبة في هذا الظلام؟
منذ خمسين عاماً، وأنا أشعر بأنني في معركة مستمرة. الجهلاء يرونني عدواً، لأنني أرفض الانصياع لأفكارهم التي لا تتعدى حدود الجهل الضيقة. كلما حاولت أن أرفع رأسي، أن أرى ما وراء الأفق، كانت أيديهم تسعى لتعيدني إلى أرضهم الموحلة. إنهم يخافون التغيير، يخافون الفهم، يخافون كل ما لا يستطيعون إدراكه بعقولهم التي أغلقت الأبواب على كل جديد.
في كل خطوةٍ خطوتها نحو الحرية، نحو الانفصال عن قيودهم، شعرت بثقل أعوامٍ من الجهل الذي أحاط بي. أصرخ، ليس لأسمعهم فقط، بل لأسمع نفسي، لأذكر روحي بأن الطريق الصعب هو الطريق الذي يستحق. خمسون عاماً وأنا أتعلم أن الصراخ ليس ضعفاً، بل هو صوت الروح التي ترفض الاستسلام، التي تصر على الاستمرار في مواجهة عقول مغلقة، رافضة للحقائق.
لكنني اليوم، بعد خمسين عاماً من الصراخ، أدركت أن الصمت قد يكون أقوى أحياناً. أنني لست بحاجة لإقناع الجهلاء بما لا يريدون رؤيته. بل ربما يكون صوتي الحقيقي هو الاستمرار في الإبداع، في السير قدماً نحو النور، بينما يظل الجهلاء في ظلالهم، بعيدين عن كل ما هو حقيقي.
خمسون عاماً مرت، خمسون عاماً من الصراخ المكبوت، من الصراع الدائم مع الظلام الذي يحيط بي من كل جانب. خمسون عاماً وأنا أسير في متاهات الجهل والظلم، محاولاً أن أشق طريقاً نحو النور، نحو الحقيقة. كأنني منذ أن وعيت على هذه الحياة، ولدت في سجنٍ من الأفكار العقيمة، محاطاً بجدرانٍ من الجهل، تحاصرني بكل ما هو تقليدي، قديم، ومتهالك.
أصرخ، ولكن ما قيمة الصراخ في عالمٍ أصم؟ أصرخ لأني أرى ما لا يريدون أن يروا، وأفكر بما يرفضون أن يتفكروا فيه. الجهلاء يرون العالم في إطار ضيق، رسمته لهم أيدي العادات البالية والأفكار الموروثة التي لم تعرف النضج ولا النمو. خمسون عاماً وأنا في مواجهة دائمة مع هذه العقول المظلمة، التي تحاول أن تعيدني إلى كهفهم المظلم كلما حاولت أن أخرج إلى النور.
لم يكن صراخي يوماً صرخة غضب فحسب؛ كان صرخة وجود، صرخة احتجاج على ظلمٍ لا يُرى، ولكنه حاضر في كل لحظة، في كل كلمة، في كل فكرة مقموعة. أصرخ لأنني أرى الجهل متلبساً في هيئة الحكمة، والظلم متنكراً في عباءة العدل. كيف لا أصرخ؟ وأنا أرى هذا الزيف يتسلل إلى كل زوايا الحياة، يُسكت الأصوات الحرة، ويُخنق الأفكار النابضة بالحياة؟ إنهم يخشون الفكر لأنه مرآة تعكس عيوبهم، مرآة تجبرهم على مواجهة الحقيقة، وحقيقة الجهل هي أثقل ما يواجهه الإنسان.
خمسون عاماً وأنا أواجه هؤلاء الجهلاء الذين لم يعرفوا سوى العيش في ظلال الأوهام. إنهم يرونني غريباً، خارقاً لناموسهم، مجنوناً لأنني لا أرتدي نفس عباءاتهم الفكرية البالية. كيف يمكن لعقلٍ عاش في سجن القوالب الجاهزة أن يستوعب فكرة التحرر؟ كيف يمكن لمن عاش عمره في عبودية الفكر أن يفهم قيمة الحرية؟ في عيونهم، أنا المتمرد، الخارج عن المألوف، لكن في حقيقتي، أنا الساعي نحو الحقيقة، نحو نور العقل الذي يأبى أن ينطفئ رغم عواصف الجهل التي تحيط به.
أقف أمام هؤلاء الجهلاء وأصرخ، لأن الصمت في وجههم هو خيانة للذات. خمسون عاماً وأنا أرى الفكرة تُقتل قبل أن تولد، والفكر يُجهض قبل أن يتنفس. إنهم يخافون من كل ما لا يتناسب مع أوهامهم، يرهبون ما لا يستطيعون فهمه، ويعادون كل من يحاول أن يكسر أصنام الجهل التي يعبدونها. لقد جعلوا من الجهل ديناً، ومن الأفكار الموروثة مقدسات لا تُمس، ومن كل من يحاول أن يحرر نفسه منهم كافراً، مارقاً، يستحق النفي والنبذ.
لكنني بعد خمسين عاماً من هذا الصراع، أدركت شيئاً أعمق. الجهلاء ليسوا مجرد أعداء للحقيقة، إنهم ضحايا أنفسهم. هم سجناء في سجنٍ صنعوه بأنفسهم، وأغلقوا أبوابه من الداخل. يحاولون إسكاتي لأنني أزعزع جدران هذا السجن، لأن صوتي يذكّرهم بأن هناك عالماً خارج هذا الظلام. إنهم يخشون الحرية لأنها تعني لهم مسؤولية. مسؤولية التفكير، مسؤولية اتخاذ القرار، مسؤولية مواجهة الذات.
خمسون عاماً من الصراخ لم تكن مجرد محاولة لإقناعهم، بل كانت رحلة اكتشاف للذات. كان الصراخ فعلاً فلسفياً في جوهره، تمرداً على السائد، واحتجاجاً على كل ما هو زائف. كان صرخةً في وجه الظلم الذي يعتنقه الجهلاء وكأنه جزءٌ من طبيعتهم. وفي النهاية، أدركت أن الصراع ليس معهم بقدر ما هو مع القيود التي يفرضونها على العقول، القيود التي حاولوا أن يضعوها عليّ.
لكنني اخترت أن أكون حراً. اخترت أن أصرخ في وجه الظلم، أن أتمرد على كل ما هو ضيق وخانق. لم يكن تمردي تمرداً على المجتمع بحد ذاته، بل كان تمرداً على القيود التي تحاول أن تقف في وجه العقل. كانت هذه الصرخة التي أطلقتها منذ خمسين عاماً وما زلت أطلقها اليوم، صرخة رفض لكل ما هو ظالم، لكل ما هو مقيد. كنت أصرخ لأني أرفض أن أعيش في عالمٍ يُقيد الفكر، ويُخنق الإبداع، ويُقتل فيه الإنسان قبل أن يحيا.
اليوم، بعد خمسين عاماً من الصراخ، أفهم أن هذا الصراخ كان طريقاً نحو الحرية. كان صراعاً مع الذات قبل أن يكون صراعاً مع الآخرين. كان بحثاً عن النور في عالمٍ تملؤه الظلمات. واليوم، أدرك أن الصراخ ليس نهاية الطريق، بل هو بداية الثورة، ثورة العقل ضد الجهل، وثورة الروح ضد الظلم.